تمضي الآن اربعة قرون و للمسیحیة مؤسسة و جهاز خاص للدعایة و الاعلام، إذ یقوم الجهاز بتدریب القساوسة و ارسالهم الی اقصی نقاط العالم و تصرف الاموال الطائلة لتحقیق تلك الغایات. كما تقوم حكوماتهم بدعمهم ایضاً.
و علی الرغم من كل ذلك ، نری ان المسیحیة تنحسر یوما بعد یوم علی حد تعبیر الاوروبیین انفسهم . حتی في الدول الافریقیة التي كانت تعتبر المستقبل الاول لهم.
و من الناحیة الاخری ، و حیث ان الاسلام لم یمتلك تلك القدرات الا اننا نراه ینتشر بسرعة فائقة ، حتی طال الدول الصناعیة العملاقة نفسها1 ، فما هو السبب الحقیقي لهذا الانتشار مع افتقار الاخرین لذلك.
ان اول من اجاب عن ذلك هم المسیحیون انفسهم، و قد اجابوا عنه اجوبة مختلفة باختلاف اخلاقهم ، و أذواقهم و معتقداتهم، بإختلاف اهدافهم ایضاً، و ایاً كان السبب، فالحقیقة هي توافر الاسلام علی میزان و خصائص لا توجد في غیره من الادیان و اهمها الحریة في الاسلام، و بساطة اصوله و أسسه و موافقتها للعقل و المنطق، اضافة الی المساواة. لكننا سنتطرق هنا الی مسألة الحریة في الاسلام فقط، و ذلك بالاستناد الی الایات القرآنیة و السیرة النبویة ، كما سنبحث مسألة الحریة من وجهتي النظر السیاسیة و الدینیة:
الحریة الدینیة:
كان الرسول الاكرم (ص) یسعی جاهداً لابلاغ رسالته السمحاء في السنوات الاخیرة قبل الهجرة، و لكن دون جدوی ، حیث لم تكن ارض مكة تستعد بعد للأیمان و لم یتعدّ السلمون هناك عدد الاصابع . فاغتنمّ الرسول (ص) لذلك كثیرا، ولكن الله سبحانه و تعالی خاطبه بكلمات جعلت من الرسول (ص) منفتح الاساریر و منبسطاً ، اذ اوحی الیه تعالی ، فقال عز من قائل : « ولو شاء ربك لأمن من في الارض كلهم جمیعاً أفأنت تكره الناس حتی یكونوا مؤمنین»2، فلم تمنع الآیة ، الدعایة و التبلیغ للاسلام، و لكن منعت الاكراه في الدین ، و قام الرسول الاكرم (ص) بدعوة الناس للاسلام من دون اكراه، قال تعالی: « لا اكراه في الدین قد تبین الرُشد من الغيّ فمن یكفر بالطاغوت و یؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقی لا انفصام لها و الله سمیع علیم » 3 و جاء في تفسیر كشف الاسرار للمیبدي ، ان سبب النزول هو : « كان هناك رجلٌ من الانصار یدعی اباالحصین و كان له ولدان في المدینة المنورة فأتی جماعة من المسیحیین من الشام للمتاجرة فخدعوا الولدین و دعوهم الی الدین المسیحي ، فإخذوهم معهم الی الشام فطلب ابو الحصین من الرسول (ص) ان یرسل في طلب الولدین كي یرجعوا عن غیّهم و لا یكفروا بعد ان هداهم الله للأیمان فإذا بجبرائیل ینزل بالایة علی الرسول (ص)« ان لا اكراه في الدین...» فترك الرسول (ص) الولدین.4
و لهذا لا یمكن ارغام احد علی اعتناق الاسلام، والاسلام مع ماله من الخصوصیات المعنویة و الروحیة ، فللناس الحریة الكاملة في الاختیار ، سواء سلكوا الطریق القویم ام لا ، و لا سلطان لاحد علی أحد في ذلك ، بل جاء في القرآن الكریم إنه اذا ما اختار الانسان طریقه و في اي دین كان ، فلن یمنع ذلك من شمول الرحمة الالهیة له ، و للمسلم علی حدٍ سواء قال تعالی « إن الذین آمنوا و الذین هادوا و النصاری و الصابئین من آمن بالله و الیوم الآخر و عمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم و لا خوف علیهم و لا هم یحزنون»5 فقد جاءت هذه الآیة في موضعین من القرآن الكریم ، مع اختلاف بسیط بینهما في سورة البقرة و المائدة ، و هي في الحقیقة من الایات التي نالت اعجاب الكثیرین من الذین یعنون بالاسلام، لانه و بموجب تلك الایة ، یتحتم علی الانسان المسلم احترام غیر المسلم من الذین یؤمنون بالله و الیوم الاخر ، و بعدها جاءت الایتان الثامنة و التاسعة من سورة الممتحنة لتبین و بشكل عام : كیف یكون التعامل مع غیر المسلمین . اذ تقول الایتان الكریمتان: « لا ینهاكم الله عن الذین لم یقاتلوكم في الدین ولم یخرجوكم من دیاركم ان تبروهم و تقسطوا الیهم ان الله یحب المقسطین ، انما ینهاكم الله عن الذین قاتلوكم في الدین و اخرجوكم من دیاركم و ظاهروا علی اخراجكم ان تولوهم و من یتولهم فأولئك هم الظالمون»6.
یقول صاحب تفسیر كشف الاسرار ان علماء التفسیر اختلفوا في سبب النزول ، و لكن ابن عباس یقول : « انها نزلت في شأن بني خزاعة و بني خذیمة و بني مدیح ، و هؤلاء هم الذین عقدوا صلحاً مع الرسول(ص) و اخذ منهم المواثیق ان لا یؤازروا اعداء الرسول(ص) فاعطی الله الرخصة للرسول (ص) و للمؤمنین بالتعامل معهم و لو علی كفرهم ان احسنوا الیهم و بروهم فلا جناح علیكم في ذلك». و علق ایضا قتادة علی ذلك و قال ان الحكم في هذه الایة ، هو : « عام ، فكل كافر لم یقاتل الرسول و لم یؤذِ المؤمنین ، اتت الرخصة بالتعامل معه وصلته»7.
و بالطبع توجد آیات تخالف هذا المعنی و المضمون ، ولكن یجب اولا الرجوع الی اسباب النزول اذ یجب ان نتعرف علی الظروف التي نزلت بها تلك الآیات إذ ینبغي الاحترام المتقابل من الطرفین و عدم الاعتداء ، ولكن اذا ما تجاوز اتباع الادیان الاخری حدودهم فسیكون للمسلمین الحق في مجابهتهم و الرد علیهم ، و هن امرٌ أمره الرسول(ص) مثلما كان في اول عقدٍ عقد في هذا المجال بین مسلمي المدینة المنورة و غیر المسلمین فیها ، اذ یعتبر هذا العقد هو اول دستور من نوعه في الحكومة الاسلامیة ، نص فیه علی الاحترام المتبادل ، عدم التعدي ، حیث كانت معایشة المسلمین للیهود سلمیة جداً و لم یجابهوهم قط الا بعد ان شرعوا في حیاكة المؤامرات و الدسائس ضد المسلمین و النفاق بینهم ، فاضطروا للدفاع عن انفسهم . و حتی بعد ان قویت شوكة الاسلام و اتسع نطاقه في ارض الحجاز اوصی الرسول (ص) معاذ بن جبل ، حینما ارسله للدعوة للاسلام : « لا ارید ان اری او اسمع یهودیاً مضطرباً في اداء شعائره الدینة »8 و كذلك كان فعل الرسول (ص) عندما دخل مكة فاتحاً، و جاء النصر و دخل الناس في دین الله افواجاً 9 بقي بعض من المشركین في مكة علی شركهم و لم یسلموا حتی رأوا الاسلام الحقیقي و ما یدعو الیه الرسول الاكرم (ص) و تأثروا باخلاقه السامیة ، و أسلموا علی یدیه طوعاً لا كراهیة و اصبحوا هم دعاة للاسلام و للرسول (ص) ، ونحن نعلم ایضاً . ان الدولة الاسلامیة لم یكن لدیها في یوم من الایام جهاز و مؤسسة للتفتیش و البحث عن المعتقدات مثلما هو موجود لدی المسیحیین الذین كانوا یلقون بالمسلمین او المشتبه بهم في النار ، بل العكس لم نسمع یوما ان المسیحیین تعرضوا للعذاب و التنكیل في الدولة الاسلامیة ، بل تمتعوا بالحریة في ممارسة طقوسهم و شعائرهم الدینیة حتی اتباع زرادشت و كونفوشیوس.
و الحقیقة ان المشركین فقط ، هم الذین لم یتعایشوا مع الاسلام و المسلمین ، لكن اتباع الادیان الاخری كانت لهم حریة البقاء علی دینهم بعد دفع الجزیة « التي هي نوع من انواع الضریبة » بالطبع ان هذا النوع من التعامل كان له تأثیر كبیر لدرجة ان المعاندین للاسلام اعترفوا بذلك و لا سیما خلال القرنین السادس عشر و السابع عشر ، و في الوقت الذي قامت فیه النهضة الاوروبیة ، اطلع بعض الاوروبیین عن كثب علی الاصول العقائدیة للمسلمین ، و تأثروا بها شیئاً فشیئاً ، حیث اصبحوا ینادون و یدافعون عنها ، وأحد اولئك الذین دافعوا عن المسلمین و وفقوا الی جانبهم ، هو العالم البریطاني « ادریان ریلند» ، اذ كتب عن اتباع الرسول و عقائدهم المسلمین ، و دحض تلك الاتهامات التي كانت موجهة ضدهم ، و ترجم الكتاب آنذاك من اللاتینیة الی اربع لغات، هي : الفرنسیة و الالمانیة و الهولندیة و الانجلیزیة.
و من المسائل التي تطرق الیها الكتاب ، مسألة الحریة في الاسلام فنری المؤلف فیه حائرا في كیفیة استطاعة الرسول احتضان غیر المسلمین في كنفه و قبولهم في المجتمع الاسلامي، اذ قال : « یقول المعاصرون الیوم ان كل انسان هو حر في اعتناقه الدین، شریطة الایمان بالله تعالی و العمل الصالح، و یقولون ان محمداً (ص) رسّخ هذا الاعتقاد بین اصحابه ، وهو امرٌ یثیر الاعجاب حقاً ، اذ كیف یمكن لرجل اتی بدین جدید واجب الاتباع و یحمل حملةً شعواء علی الیهود و النصاری ، لكن في الوقت نفسه نراه یؤكد علی حریة العقیدة بین اصحابه و اتباعه » 10. و مع ذلك كله نری بعض الناوئین للاسلام یتهموننا بأن اسلامنا لم ینتشر الا بحد السیف ، و هم علی اطلاع كامل برحابة صدر المسلمین و مناداتهم بالحریة تأسیاً برسولهم (ص) كما یتهموننا ایضا بالتعصب و ضیق النظر. ألم تكن لدیهم قدرة التمییز بین الحریة و السیف ، ام ان الاثنین عندهم سواء؟
و الحقیقة ان بعضهم انصف المسلمین ، اذ ساد الاعتقاد « خصوصاً بین المثقین الاوربیین طیلة القرن السابع عشر » ان المسلمین هم اهل التسامح الدیني ، و كانوا یعدّون ذلك سمة بارزة في الاسلام حتی قدم بعض المستشرقین الی الاراضي الاسلامیة للتحقیق في احوال المسلمین ، و عندما اطلعوا علی تلك الایات التي تدعو المسلمین الی المعایشة السلمیة مع غیرهم من غیر المسلمین لم یبق امامهم الّا الاجلال و التعظیم ، منهم « مونتیه» الذي ترجم القرآن الی اللغة الفرنسیة ، اذ یقول في ترجمة الایة المذكورة « هي آیة جذابة جداً و لها نظرة شمولیة ، وهي تعلم الانسان الحریة و السماحة والحلم» 11 و یستمر في ذلك الی ان یقول : « إنه و للاسف الشدید ان الناس هناك في الدول الاسلامیة التي زرتها لم یتحلّوا بتلك الفضیلة» فالاجدر بالمسلمین تطبیق كلام الباري عزّوجل وهو استماع القول و اتباع احسنه ، ولیس مجرد الادعاء12.
الحریة ا