قال تعالی : « فمن حاجك فیه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله علی الكاذبین»1.
في الیوم الرابع و العشرین من شهر ذي الحجة (السنة العاشرة من الهجرة علی بعض الروایات ) جرت المباهلة بین النبي (ص) بین نصاری نجران في البقیع في المدینة المنورة.
و في هذا الیوم أشرق نور النبي و أهل بیته علي و فاطمة و الحسن و الحسین إشراقة أخری مضافة إلی الإشراقات الكثیرة التي غمرت العالم أجمع، و ظهر في هذا الیوم العظیم فضل أمیر المؤمنین مولانا علي (ع) ظهوراً جدیداً آخراً مضافا إلی فضائله التي لا تحصی ، إذ كان بنصِّ القرآن الكریم نفس النبي (ص) بعد أن كان أخاه و ابن عمه و زوج ابنته و أبا سبطیه و قاضي دینه ،و خلیفته و وصیه من بعده ، و حامل لوائه و أول القوم إسلاماً ، و أرسخهم إیماناً ،و أعظمهم جهاداً و أشدّهم في ذات الله ، و أظهرهم شجاعة و أحدهم مضاء و أسناهم مقاماً و أقربهم إلی الله و رسوله.
فجاءت المباهلة فألبسته تاجاً جدیداً و ضاء فوق تیجانه النیرة ، و زادت في نوره زیادة أعشت عیون أعدائه و أنارت سبیل أولیائه.
و ننقل هنا خلاصة حدیث المباهلة علی ما روته كتب الحدیث فقد جاء إنّ أبا الحارث بن علقمة أسقف نجران دعا شرحبیل و كان خازن أسراره و موضع مشورته و قال : یا شرحبیل جاءني الیوم كتاب من محمّد بن عبدالله راعني و أفزعني فهو یدعوني فیه إلی دین یسمیه الإسلام یخ9یرني بین الجزیة و الحرب و لا أكتمك ، إنّي دهشت ممّا یعد ذعرت ممّا یتوعد ، فاقتدح زناد فكرك و أشر عليَّ بما عندك فقد ضقت ذرعاً.
قال شرحبیل : لو كان الأمر من أمور الدنیا لرجوت أن یكون لي رأي حازم أقوله علی إنني علمت ما وعد الله به من النبوة في ذریة إسماعیل فما أدري أن یكون هو ذاك.
فصار علقمة یدعو واحداً بعد واحد ، حتّی دعا اثنین أخرین یسألهما الرأي و لا یجد عندهما عناء علی ما قال شرحبیل ، و لذلك أمر بالنواقیس أن تدق و بالمسوح أن تعلق بالصوامع إیذانا بالدعوة كما كانوا یفعلون في مهام الامور في ذلك العهد ، فاجتمع نصاری نجران و قام الأسقف و أخبرهم بكتاب النبي (ص) فتشاوروا فیما بینهم ، فقر رأیهم أن یذهب وفد منهم إلی النبي (ص) یستطلع رأیه و یحاجه و یجادله ،و تألف الوفد بزعامة شرحبیل ثمّ تبعهم الأسقف نفسه ، و كان الوفد مؤلفاً من أربعة عشر رجلاً فوصلوا المدینة و استأذنوا علی رسول الله (ص) فقال شرحبیل : قد علمت إنا نصاری و یسرنا أن تكون نبیاً فما تقول في عیسی ؟ قال : أقول « إنّ مثل عیسی عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كن فیكون * الحق من ربّك فلا تكن من الممترین * فمن حاجّك فیه من بعدما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله علی الكاذبین ».
ثمّ أعلمهم إنّه قد جاء الفصل في أمر عیسی (ع) من عند الله ، فإن لم یذعنوا فالمباهلة هي حكم الله القاطع، فقالوا : (دعنا نفكر ثمّ نفضي إلیك برأینا غداة غد).
و في الیوم الرابع و العشرین من ذي الحجّة أتی رسول الله (ص) آخذاً بید الحسن و الحسین تتبعها فاطمة و علي بین یدیه علیهم الصلاة و السلام ، فلمّا رآهم شرحبیل رجع إلی الوفد و قال : ( لقد رأیت نور النبوة ینبثق من شمائل محمّد و الحقّ یفیض من قوله ، و الآن رأیت معه وجوهاً من أهله لو سأل الله لها أن یزیل الجبال لأزالها ، و الرأي أن لا نباهله لئلا تهلكوا ، و الصلح معه خیر). فاحجموا عن المباهلة و شرط علیهم النبي (ص) ألفي حلّة تؤدي في صفر و رجب علی أن یظل كلّ ما بأیدیهم لهم ، و لهم بعد ذلك جوار الله و رسوله غیر مبتلین بظلم و لا ظالم ما اصلحوا و نصحوا ، فرأوه حكماً عدلاً فرجعوا إلی قومهم یحمدون . و قد شهد المباهلة سلمان الفارسي و أبو ذر الغفاري.
و جاء في الكشاف للزمخشري لمّا جاء نصاری نجران و تكلم معهم للمباهلة قالوا حتّي نرجع و ننظر ، و قالوا للعاقب و كان ذا رأیهم یا عبدالمسیح ما تری ؟ قال : و الله لقد عرفتم إنّ محمّداً نبي مرسل ، لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهل قوم نبیاً قط فعاش كبیرهم ، و لا نبت صغیرهم ، و لئن فعلتم لتهلكن ، و إن أبیتم إلا ألف دینكم و الإقامة علیه ، فوادعوا الرجل و انصرفوا إلی بلادكم ، فاتوا رسول الله و قد غدا محتضنا الحسن و آخذاً بید الحسین و فاطمة و علي خلفه و هو یقول : « إذا دعوت فأمنوا » . فقال الأسقف : یا معشر النصاری إنی لأری وجوهاً لو شاء الله أن یزل جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا. و قالوا: یا أبا القاسم رأینا أن لا نباهلك ، و أن نقرك علی دینك و نثبت علی دیننا.
فقال لهم : « إذا أبیتم المباهلة ، یكن لكم ما للمسلمین و علیكم ما علیهم» فابوا .
قال : « إني أناجزكم » . قالوا : ما لنا برحب العبرب طاقة ، لكننا نصالحك علی أن لا تغزونا و لا تخیفنا ، و لا تردنا عن دیننا علی أن نؤدي لك كلّ عام ألف حلة في صفر و ألف حلة في رجب و ثلاثین درعاً عادیة من حدید ، فصالحهم علی ذلك و أعطاهم الأمان.
و في صحیح مسلم قال عائشة : ( خرج رسول الله غداة و علیه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثمّ جاء الحسین فأدخله ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء علي بن أبي طالب فأدخله معهم، ثمّ نزلت الآیة الكریمة الباهرة « إنّما یرید الله لیذهب عنكم الرجس أهل البیت و یطهّركم تطهیراً»).
و قال الزمخشري في كشافه : ( إنّ إقدام النبي (ص) علی المباهلة أكد في الدلالة علی ثقته بنفسه و استیقانه بصدقه ، حیث استجرأ علی تقدیم أعزته و أفلاذ كبده و أحب الناس إلیه كذلك و لم یقتصر علی تعریض نفسه له و علی ثقته بكذب خصمه مع أحبته و أعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة ، و خصّ الأبناء و النساء لأنهم أعز الأهل و الصقهم بالقلوب ، و ربّما فداهم الرجل بمهجته و حارب دونهم حتّی یقتل ، و قدمهم في الذكر علی الانفس لینبه علی لطف مكانهم و قرب منزلتهم ، و لیؤذن بأنهم مقدمون علی الأنفس مفدون بها ، و فیه دلیل لا شيء أقوی منه علی فضل أهل الكساء (ع) و علی صحة نبوته صلوات الله علیه).
و روي إنّ رسول الله قال :« و الذي نفسي بیده لو تباهلوا لمسخوا قردة و خنازیر ، و لاضطرام علیهم الوادي ناراً و لاستأصل الله نجران و أهله حتّی الطیر علی الشجر».
و قد أخرج حدیث المباهلة ابن حجر في الصواعق صفحة 72 عن مسلم في صحیحه ، و نقله جماعة من حفاظهم في تفاسیرهم : منهم البیضاوي صفحة 22 ج 2 و ابن جریر ص 192 ج3 و الخازن ص 302 ج 1 و النیشابوري ص302 ج 3 من تفسیره بهامش الجزء الثالث من تفسیر ابن جریر و العسقلاني في الإصابة ص 271 ج4 و منهم البغوي ص 302 من تفسیره بهامش الجزء الاول من تفسیر الخازن ، والسیوطي في الدر المنثور ص 39 چ2 ، و حسبكها برهاناً قالعاً لمزاعم الجاهلین ، و دلیلاً قاطعاً لإرجاف المرجفین علی أفضلیة علي (ع) من جمیع النّاس إلا خاتم النبیین محمّد (ص) و ذلك فإنّ المراد من قوله تعالی و أنفسنا نفس علي بلا شك علی ما رواه جابر في المتفق علیه و لأن الشخص لا یدعو نفسه حقیقة كان لا یأمر حقیقة و لما بطل هذا تعین أنّ المدعو غیره، و قد ثبت بإجماع المسلمین إنّ ذلك الغیر هو أمیر المؤمنین علي (ع) و بالطبیعة لا یمكن أن یراد إنّ هذه النفس هي عین تلك النفس ، لأنها لیس هي هي ، بل هي غیرها قطعاً و لمّآ بطل هذا تعین أن یكون المراد إنّ هذه النفس مثل تلك النفس و ذلك یقتضي المشاركة و المساواة للنبي (ص) في جمیع ما هو له ، و لمّا ثبت بالدلائل القطعیة إنّ محمّداً (ص) كان نبیاً و كان أفضل من علي (ع) تركنا العمل بعموم المنزلة بالنسبة إلیه فیما خاصّة و بقی ما عدا ذلك معمولاً به و من ذلك ما ثبت بإجماع المسلمین إنّ محمد (ص) كان أفضل من جمیع الأنبیاء و المرسلین فیجب أن یكون علي أفضل جمیع الخلق بعد رسول الله (ص) نزولاً علی حكم ذلك ، كما إنّ فیها من الدلالة علی المطلوب من وجوه منها : إنّ النبي(ص) كان معصوماً و مثله علي (ع) یكون معصوماً ، و المعصوم أتقي و أحق بالإمامة لقومه لقوله تعالی : « إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم» و منها إنّ النبي (ص) كان أتقي و مثله علي (ع) ، و منها إنّ النبي (ص) كان واجب الطاعة و الإتباع مطلقاً، و منها إنّ النبي (ص) كان أفضل من جمیع الصحابة و مثله علي (ع) و الافضل أحق بالامامة بل لا تصح لغیره ، و منها إنّ النبي (ص) كان إماماً وهادیاً و مثله علي (ع) یكون إماماً و هادیاً ، و إذا كان قد ثبت إنّه أف