تعتبر ثورة الامام الحسین بن علی(ع) من أهم الاحداث التاریخیة التي ساهمت في صیاغة الثورات التاریخیة التي تفجرت علی الساحة، بعد حادثة کربلاء ، و في تکوین الخط السیاسي العام لدرسة اهل البیت(ع).
و من هنا لا یمکن لباحث في التاریخ أن یتوفّر علی دراسة تاریخ الحقبة الامویة، و ما عجّت به من ثورات و تناقضات و احداث عظیمة ، ما لم یتناول آثار ثورة الامام الحسین (ع) في المجتمع الاسلامي بشکل عام، و في مجتمع الاسلامي بشکل عام ، و في مجتمع مدرسة اهل البیت (ع) الذي ترکز وجوده في الکوفة و البصرة ، و بعض المدن العراقیة الاخری،و بعض مدن فارس.
هذه العلاقة الاساسیة ، بین ثورة الحسین (ع) و انعکاساتها في المجتمع الاسلامي، و یمکن دراسة تلک الآثار ضمن المحاور التالیة:تأثیرات ثورة الامام الحسین(ع) في البعد الوجداني
لکل ثورة ناجحة ، أو فاشلة ، نصیب في الفعل و التأثیر في حیاة الأمة ، و حجم هذا التأثیر و أبعاده و میادینه ینبع من هویة الثورة و أهدافها، و مدی ارتباطها بالامة و قیمها، و نوعیة القیادة التي اشرفت علیها. و حیث إنّ ثورة الحسین(ع) استهدفت الاطاحة بالحکم الاموي الذي یمثل بؤرة ظلام و ظلم و طغیان في حیاة الأمة، و حیث إن الامام الحسین (ع) من أهل بیت النبوة، و معدن الرسالة، و مهبط الملائکة، و حیث إن شهادته زخرت بالمآسي و المحن ... أثرت تأثیراً مباشراً و حیویاً، و ممتداً في واقع الأمة، و في تشکیل خطها السیاسي.
من هنا فإن آثار ثورة الامام الحسین (ع) هزّت ضمیر الانسان المسلم، و المجتمع الاسلامي، و ساهمت في بناء المستقبل ، و شارکت في صیاغة الأحداث المصیریة للأمة، و من هذه المیادین ، البناء العاطفي للانسان المسلم، من خلال معالجة الجوانب المرضیة في اشواقه و عواطفه.
و الذي یهمنا من هذا الجانب ، هو دور شهادة الامام الحسین (ع) في معالجة الواقع العاطفي لأهل الکوفة ، و إنقاذهم من مرض الازدواجیة ، و کیف استطاعت تلک الشهادة إعادة التوازن للمجتمع الشیعي ، و توحید الجانب العاطفي مع خیاراته السیاسیة، و الذي تجسد بکل وضوح و جلاء في اندفاع « التوابین» و ثورتهم ضد الحکم الاموي، و صحیح أنّ الامام کان ضحیة لهذا التناقض في المجتمع الکوفي ، إلا أن شهادته (ع) المآساویة دفعت مجتمع الکوفة الی مراجعة الذات ، و الندم، و التوبة، و الاصرار علی الخروج من هذه الحالة التي ادت الی نتائج مروعة ، فثمة تناقض عاشه اکثر الکوفیین، بین قناعاتهم الفکریة و السیاسیة التي آمنوا بها ، و بین مواقفهم السیاسیة العملیة، ففي کثیری من المواقف مارس هؤلاء موقفاً عملیاً متضاداً مع قناعاتهم و في احیان أخری اتخذت هذه الحالة أسلوب التقاعس و الضعف عن التطابق العملي مع تلک القناعات ، دون ان تبلغ درجة التضاد.
و یبدوأن هذه الحالة کانت ملحوظة في الکوفة في عصر الامام علي(ع) و ما بعده، فمثلاً نلحظ کلمات للامام علي(ع) و هي تشیر الی هذه الحالة فقد قال (ع) : « أنهم أناس مجتمعة ابدانهم، مختلفة اهواؤهم ، و ان من فاز بهم فاز بالسهم الأخیب و انه اصبح لا یطمع في نصرتهم و لا یصدق قولهم ».
و نجد کذلک بعض الکلمات لبعض الهاشمیین و غیرهم في وصف تلک الحالة ، فابن عباس یقول للامام الحسین(ع) حین عزم علی الذهاب الی الکوفة: « ان اهل العراق قوم غدر فلا تقربنهم».
و قال فرزدق و هو یصف اهل الکوفة للامام الحسین (ع)حین لاقاه في الطریق : « قلوب الناس معک و سیوفهم مع بني امیة».
و حین شاهد الامام زین العابدین بکاء اهل الکوفة علی الحسین قال متعجباً: « ان هؤلاء یبکون و ینوحون من اجلنا فمن قتلنا؟!»!!
و هذه الکلمات و المواقف العملیة تکشف عن تناقض علیه اهل الکوفة بین قناعاتهم ، و مواقفهم العملیة، حیث یتغایر موقفهم العملي من موقفهم العقیدي في بعض الاحیان.
و بالطبع ، فهذه الحالة الشاذة التي میّزت الکوفة ، لم تلغ عنها طابعها التاریخي الثابت ، بوصفها قاعدة اهل البیت(ع) ، و مرکز الموالین لهم ، فقد قال الامام امیر المؤمنین علي(ع) و هو یمدح اهل الکوفة : « یا اهل الکوفة انتم اخواني و انصاري و اعواني علی الحق بکم اضرب المُدبِر ، و ارجوا اتمام طاعة المُقبِل».
فأجابوا: « سر بنا یا امیر المؤمنین حیث احببت فنحن حزبک و انصارک نعادي من عاداک و نشایع من اثاب الیک و الی طاعتک، فسر بنا الی عدوک کائناً من کان، فانک لن تؤتی من قلة و لا ضعف فان قلوب شیعتک کقلب رجل واحد في الاجتماع علی نصرتک و الجد في جهاد عدوک ، فابشر یا امیر المؤمنین بالنصر، و اشخص الی أي الفریقین احببت( ای فریق معاویة و الخوارج)، فانا شیعتک التي ترجو في طاعتک و جهاد من خالفک صالح الثواب من الله ، و تخاف من الله في خذلانک و المتخلف عنک شدید الوبال».
و بهذا یزول ما یبدو من تناقض في النصوص. کما یصفهم الامام الحسین بن علي(ع) في جوابه لسلیمان بن صرد: « اما بعد فانکم شیعتنا و اهل مودتنا و من نعرفه بالنصیحة و الاستقامة لنا».
بل لعلًَّ اصرار الامام الحسین (ع) علی التوجه الی الکوفة ، رغم نصح الناصحین، یکشف عن أنَّ الامام کان یعلم ان هوی الکوفة معه، إضافة الی أنًّ مسیره الیها کان بناءً علی طلب اهلها الملحّ للقدوم.
ان حالات التخاذل المریرة ، التي ابداها اهل الکوفة لأهل البیت في المواقف الحرجة نابعة من حالات الضعف، و لا تعبّر عن موقف تاریخي ثابت لاهل الکوفة، بل ان طابع الکوفة التاریخي الممیز أنها مرکزٌ لشیعة اهل البیت(ع)، و من الضروري ، تحلیل هذه الظاهرة و معرفة منشئها و منابعها ، و بالتالي موقع شهادة الامام الحسین (ع) في علاج هذه الظاهرة الخطیرة ، و یمکن تشخیص منابعها بما یلي:
1ـ تبرز حالة عدم التطابق هذه في الظروف و المواقف التي تتطلب موقفاً مبدئیاً مصحوباً بثبات ذلک الموقف مع تحمل الشدائد و الصعوبات التي تنشأ من ذلک الالتزام.
2ـ و تبرز هذه الحالة في ظروف القسر و الاکراه و الاجبار علی اتخاذ موقف مغایر لموقفهم الفکري ، و اعتقادهم الوجداني.
و لعل موقف اهل الکوفة من مسلم بن عقیل یمثل نموذجاً لهذه الحالة، حیث اکرههم عبیدالله بن زیاد ـ بحد السیف ـ علی التخلي عن مسلم ، ففي مثل تلک الظروف ، تظهر حالة عدم التطابق بین الخط الوجداني و الفکري ، و بین المواقف العملي.
3ـ کما و قد تبرز في ظل العروض المغریة، التي تستهوي بعض الناس ظواهر الاندفاع نحو السلوک العملي المضاد لقناعاتهم و خیاراتهم السیاسیة.
هذه في تقدیرنا أهم منابع ظاهرة عدم التطابق بین الموقف الوجداني و الموقف العملي.
و الذي یلاحظ سیاسة عبیدالله بن زیاد في مواجهة الاوضاع المستجدة التي تمخضت عن مجيء مسلم بن عقیل الی الکوفة ، یجد أنها مارست الخطوط الثلاثة مجتمعة ، الأمر الذي ادی الی ظهور حالة التناقض و الشذوذ في هذا المجتمع ، و بالتالي أدت الی حدوث مأساة کربلاء.
و في ضوء معرفة حقیقة اتجاه أهل الکوفة و هویتهم و تمیزهم بتلک الظاهرة یتجلی موقع شهادة الامام الحسین و أهل بیته ، في معالجة هذه الحالة المرضیة.
و لا نرید ان نقول هنا إن الامام استشهد من اجل معالجة هذه الظاهرة ، انما فرضت شهادته الدمویة علی اهل الکوفة خطا نفسیا و عملیا، یؤدي سلوکه الی الخروج من حالة الانفصال و الازدواجیة.
و بعبارة اوضح ، انها فرضت علیهم الیقظة و الالتفات الی حجم المآساة التي أدی الیها انسیاقهم مع حالة الازدواجیة هذه ، حیث ادّت الی قتل سبط رسول الله(ص) ، و الی تسلط عبید الله بن زیاد علی أهل الکوفة ، و بالتالي حثهم علی اتخاذ موقف عملي یردم الهوة بین الفکر و الوجدان و بین الواقع و متطلباته، فجاءت حرکة التوابین تعبیراً واضحاً عن هذا الشعورـ أيّ ارادة استعادة الهویة العملیة المتطابقة مع الهویة الفکریة و العاطفةـ و کنتیجة اساسیة لشهادة الحسین(ع) ، التي صارت مرکز اشعاع، لشیعة اهل الکوفة لتوحید مسارهم ، مواقفهم العملیة ، تبعاً لهویتهم الفکریة الموالیة لاهل البیت(ع).
و علی امتداد حرکة التوابین انفجرت حرکة المختار الثقفي ، و حرکة زید بن علي ، بل و حرکة اهل الکوفة في طرد عمرو بن حریث عامل بني أمیة من الکوفة ، و غیرها من الحرکات و الممارسات الثوریة التي نبعت من درس کربلاء الألیم.
تأثیرات ثورة الحسین في البناء السیاسي للمجتمع الاس