ولد الإمام الهادي عليّ بن محمّد (عليهما السلام) ولد (عليه السلام) للنصف من ذي الحجّة سنة اثنتي عشرة مائتين و كانت ولادته (عليه السلام) في قرية (صريا) التي تبعد عن المدينة ثلاثة أميال محاطاً بالعناية الإلهية. فأبوه هو الإمام المعصوم محمّد الجواد (عليه السلام) واُمّه الطاهرة سمانة المغربية .
وبشرّ الرسول (صلي اللّه عليه وآله وسلم) بولادته في حديث طويل حول الأئمة (عليهم السلام) بقوله:« ... وأنّ اللّه ركّب في صلبه ـ إشارة إلي الإمام الجواد (عليه السلام) ـ نطفة لا باغية ولا طاغية ، بارّة مباركة ، طيبة طاهرة ، سماها عنده عليّ بن محمّد فألبسها السكينة والوقار ، وأودعها العلوم ، وكل سرّ مكتوم ، من لقيه ، وفي صدره شيء أنبأه به ، وحذره من عدوه...».
وتنقسم حياة هذا الإمام العظيم إلي حقبتين متميّزتين : أمضي الأُولي منهما مع أبيه الجواد (عليه السلام) وهي أقلّ من عقد واحد . بينما أمضي الثانية ـ وهي تزيد عن ثلاثة عقود ـ وقد عاصر خلالها ستة من ملوك الدولة العبّاسية وهم : المعتصم والواثق والمتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز . واستشهد في أيام حكم المعتز عن عمر يناهز أربعة عقود وسنتين . وقد عاني من ظلم العبّاسيين ـ كما عاني آباؤه الكرام مضاهر من شخصیة الامام الهادي
الکرم : كان (عليه السلام) من أبسط الناس كفاً ، وأنداهم يداً ، وقد روي المؤرّخون بوادر كثيرة من برّ الإمام الهادي (عليه السلام) وإحسانه إلي الفقراء وإكرامه البائسين ، نقتصر منها علي ما يلي : 1 ـ دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد ، وأحمد بن إسحاق الأشعري ، وعليّ بن جعفر الهمداني علي أبي الحسن العسكري ، فشكا إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه ، فقال: يا أبا عمرو ـ وكان وكيله ـ ادفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلي عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار. وعلّق ابن شهرآشوب علي هذه المكرمة العلوية بقوله : « فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا لاقال إسحاق الجلاب: اشتريت لأبي الحسن (عليه السلام) غنماً كثيرة يوم التروية ، فقسمها في أقاربه.
الزهد:
لقد عزف الإمام الهادي (عليه السلام) عن جميع مباهج الحياة ومتعها، وعاش عيشة زاهدة إلي أقصي حدّ ، لقد واظب علي العبادة والورع والزهد ، فلم يحفل بأي مظهر من مظاهر الحياة ، وآثر طاعة اللّه علي كل شيء ، وقد كان منزله في المدينة وسرّ من رأي خالياً من كل أثاث ، فقد داهمت منزله شرطة المتوكل ففتّشوه تفتيشاً دقيقاً فلم يجدوا فيه شيئاً من رغائب الحياة ، وكذلك لما فتّشت الشرطة داره في سرّ من رأي، فقد وجدوا الإمام في بيت مغلق ، وعليه مدرعة من صوف وهو جالس علي الرمل والحصي ، ليس بينه وبين الأرض فراش .
إرشاد الضالین:
واهتمّ الإمام الهادي (عليه السلام) اهتماماً بالغاً بإرشاد الضالين والمنحرفين عن الحقّ وهدايتهم إلي سواء السبيل ، وكان من بين من أرشدهم الإمام وهداهم، أبو الحسن البصري المعروف بالملاح ، قال: دلني أبو الحسن ـ وكنت واقفياً ـ فقال لي: إلي كم هذه النومة أما آن لك أن تنتبه منها؟!» ـ فقدح في قلبي شيئاً وغشي عليّ وتبعت الحقّ.
العبادة:
إنّ الإقبال علي اللّه والإنابة إليه وإحياء الليالي بالعبادة، ومناجاة اللّه وتلاوة كتابه هي السّمة البارزة عند أهل البيت (عليهم السلام). أما الإمام الهادي (عليه السلام) فلم يرَ الناس في عصره مثله في عبادته وتقواه وشدّة تحرّجه في الدين ، فلم يترك نافلة من النوافل إلاّ أتي بها ، وكان يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأوّل سورة الحديد إلي قوله تعالي : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) وفي الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحجرات .
استجابة دعائه:
وقد ذكرت بوادر كثيرة من إستجابة دعاء الإمام (عليه السلام) عند اللّه كان منها : 1 ـ ما رواه المنصوري عن عمّ أبيه، قال : قصدت الإمام (عليه السلام) يوماً ، فقلت له : يا سيّدي، إنّ هذا الرجل قد أطرحني ، وقطع رزقي ، وملّني، وما اُتّهم به في ذلك إلاّ هو علمه بملازمتي بك ، فإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك، فينبغي أن تتفضل عليَّ بمسألته ، فقال (عليه السلام) : «تُكفي إن شاء اللّه ، فلما كان في الليل طرقتني رسل المتوكل رسولاً بعد رسول ، فجئت والفتح قائم فقال: يا رجل، ما تأوي في منزلك بالليل، كدّ هذا الرجل مما يطلبك، فدخلت فإذا المتوكل جالس في فراشه، فقال: يا أبا موسي نشغل عنك، وتنسينا نفسك؟! أي شيء لك عندي؟ فقلت: الصلة الفلانية، والرزق الفلاني: وذكرت أشياء فأمر لي بها ويضعفها، فقلت للفتح: وافي عليّ بن محمّد إلي هاهنا؟ فقال لا، فقلت: كتب رقعة؟ فقال: لا، فوليت منصرفاً فتبعني، فقال لي: لست أشك أنك سألته دعاءً لك، فالتمس لي منه دعاءً، فلما دخلت إليه (عليه السلام) قال لي: يا أبا موسي، هذا وجه الرضا». فقلت: ببركتك يا سيّدي ، ولكن قالوا لي : إنّك ما مضيت إليه ولا سألته. فقال: إنّ اللّه تعالي علم منّا أنّا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه ، وعوّدنا إذا سألناه الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا. قلت: إنّ الفتح قال لي كيت وكيت. قال : إنّه الفتح يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ، الدعاء لمن يدعو به إذا أخلصت في طاعة اللّه ، واعترفت برسول اللّه (صلي اللّه عليه وآله وسلم) وبحقّنا أهل البيت وسألت اللّه تبارك وتعالي شيئاً لم يحرمك». 2 ـ روي أنّ عليّ بن جعفر كان من وكلاء الإمام (عليه السلام) فسعي به إلي المتوكّل فحبسه ، فطال حبسه ، واحتال من قبل عبيداللّه فعرض ابن خاقان بمال ضمنه عنه ثلاثة آلاف دينار ، وكلّمه عبيد اللّه فعرض جامعه علي المتوكّل ، فقال: يا عبيداللّه، لو شككت فيك لقلت : إنّك رافضي ، هذا وكيل فلان وأنا علي قتله (عازم خ ل). قال: فتأدي الخبر إلي عليّ بن جعفر فكتب إلي أبي الحسن (عليه السلام) يا سيّدي، اللّه اللّه فيَّ ، فقد واللّه خفت أن أرتاب، فوقّع في رقعته: « أمّا إذا بلغ بك الأمر ما أري فسأقصد اللّه فيك » وكان هذا في ليلة الجمعة. فأصبح المتوكّل محموماً ، فازدادت علته حتي صرخ عليه يوم الاثنين، فأمر بتخلية كل محبوس عرض عليه اسمه حتّي ذكرَ هو ، عليَّ بن جعفر، فقال لعبيداللّه : لِمَ لَمْ تعرض عليَّ أمره ؟ فقال : لا أعود إلي ذكره أبداً ، قال: خلِّ سبيله الساعة وسله أن يجعلنيفي حل، فخلّي سبيله، وصار إلي مكة بأمر أبي الحسن (عليه السلام) فجاور بها...»4 . هذه بعض البوادر التي ذكرها الرواة من إستجابة دعاء الإمام (عليه السلام) ، ومن المؤكّد أنّ إستجابة الدعاء ليس من عمل الإنسان وصنعه ، وإنّما هو بيد اللّه تعالي فهو الذي يستجيب دعاء من يشاء من عباده ، ومما لا شبهة فيه أنّ لأئمّة أهل البيت (عليهم السلام) منزلة كريمة عنده تعالي لأنّهم أخلصوا له كأعظم ما يكون الإخلاص ، وأطاعوه حقّ طاعته وقد خصّهم تعالي باستجابة دعائهم كما جعل مراقدهم الكريمة من المواطن التي يستجاب فيها الدعاء .
تکریمه للعلماء:
وكان الإمام الهادي (عليه السلام) يكرم رجال الفكر والعلم، ويحتفي بهم ويقدّمهم علي بقية الناس؛ لأنّهم مصدر النور في الأرض ، وكان من بين مَنْ كرّمهم أحد علماء الشيعة وفقهائهم ، وكان قد بلغه عنه أنّه حاجج ناصبياً فأفحمه وتغلّب عليه فسرّ الإمام (عليه السلام) بذلك ، ووفد العالم علي الإمام فقابله بحفاوة وتكريم ، وكان مجلسه مكتظّـاً بالعلويين والعبّاسيين ، فأجلسه الإمام علي دست ، وأقبل عليه يحدّثه ، ويسأل عن حاله سؤالاً حفياً ، وشقّ ذلك علي حضار مجلسه من الهاشميين فالتفتوا إلي الإمام ، وقالوا له : كيف تؤثر عامياً علي سادات بني هاشم من الطالبيين والعبّاسيين؟ فقال (عليه السلام): «إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال اللّه تعالي فيهم : ( أَلَمْ تَرَ إَلَي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلَي كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّي فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُم مُعْرِضُونَ ) أترضون بكتاب اللّه عزّوجلّ حكماً ؟» فقالوا: بلي . قال: أليس اللّه قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَـجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ الي قوله تعالي ـ : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...)فلم يرض للعالم المؤمن إلاّ أن يرفع علي المؤمن غير العالم ، كما لم يرض للمؤمن إلاّ أن يرفع علي من ليس بمؤمن ، أخبروني عنه؟ قال: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) أو قال : يرفع اللّه الذين أُوتوا شرف النسب در