وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : ملتقی
الاثنين

١٥ يونيو ٢٠٠٩

٧:٣٠:٠٠ م
172653

الحلقة الثانية: التواصل مع النظام ضوابط ومتطلبات

الشيعة في الجزيرة العربية.. نحو تفكير استراتيجي

إستمر الوجود الشيعي في السعودية محصّناً ضد اختراقات السلطة على نحو كبير حتى سنوات قريبة، فلم نكن نشهد مثلاً الوفود الضخمة من رجال الدين والوجهاء وهي تتسابق لمبايعة الملك!. وقد يصم البعض تلك الحقبة بهروب الشيعة عن التماس مع الحراك المحلي (الوطني!!) وبالانعزال والانكماش على الذات وتكوين جماعة مغلقة على نفسها،

 فيما نجد أن مروجي هذه الرؤية ومسوقي اطروحة الانفتاح والتواصل مع الآخر، يزاوجون ويخلطون بين ضرورة التفاعل مع الأحداث والتحولات المحلية واتخاذ الموقف حيال ما يجري علينا ومن حولنا، وبين الحضور الساخن والفعّال والمجاني في المحافل والمراسم السلطوية وتنفيذ حملات الدعاية الداعمة لمشاريع وبرامج النظام، ما يعزز شرعيته في الأوساط الشيعية ويُسهل انخداع طيف من الجمهور الشيعي بأن تحولاً حقيقاً يحدث في علاقة النظام مع الشيعة، فيما المحصلة الواقعية تثبت أن طاحونة النظام تفتت أواصرنا بألف وسيلة وطريقة، وتخلخل تماسك البنيان الشيعي!!.

وقد انسحب هذا الخلط والمزج المبرمج والمقصود لتهيئة المزاج الشيعي ومناخ الجو الاجتماعي العام لتقبل الانتقال من الموقف الجماعي الملتزم بالقطيعة مع السلطان الجائر إلى هرولة دؤوبة في الاندغام مع النظام.. جرى الخلط على مستوى التنظير إلى المفاهيم الفكرية، فالسلوك الإيجابي المطلوب في الإنفتاح والتواصل مع الجماعات الأخرى الشيعية وغيرها، الاسلامية وغيرها، السياسية والدينية وغيرها، داخل البلاد وخارجها، يتحول إلى فعل انفتاح غير منضبط على السلطة الحاكمة، وتبني لإطروحات النظام الداخلية عبر حشد رموز الطائفة وفعالياتها ودفعها بل توريطها في المشاركة والحضور في محافل النظام المناسباتية، لنجد أن الطائفة بكل ثقلها قد انتقلت من موقع المعارضة والاحتجاج على سياسات الظلم وهضم الحقوق إلى مهرجانات التصفيق والمباركة حيناً وإلى مجالس الاسترجاء والاستعطاء والاسترحام حيناً آخر!.

لن نختلف حول حاجتنا كجماعة تخضع لسياسات التمييز والتهميش إلى قنوات اتصال مع النظام الحاكم، ولكن حجم هذه القنوات وتعيين أشخاصها المناسبين والمحصّنين والأكفّاء القادرين على تحقيق الأهداف المرجوّة للجماعة من عملية التواصل مع السلطات، ينبغي أن تخضع لعملية برمجة وضبط وتقنين، لا أن تتحول الطائفة بكل ثقلها وأطيافها إلى فعل الهرولة في سيرك الاندغام مع السلطة!.

ولا شك أن انفتاح الطائفة على القوى والتيارات والجماعات في الداخل والخارج، والتفاعل مع الأحداث والقضايا من حولنا، أمر لا غنى لنا عنه ومن شأنه أن يعزز خبراتنا ويصقل كفاءتنا ويحسّن أدائنا في معركة النضال المشروع ضد طغيان النظام وسياساته اللاإنسانية، ولا يجوز هنا أن تتحول بوصلة الانفتاح واتجاهه عن القوى والجماعات والتيارات لتوجّه نحو قوى النظام ومؤسساتها الأمنية والإعلامية و...الخ.

وبالعودة إلى التاريخ سنجد أن الأئمة شجّعوا بعض حوارييهم على الاستمرار في التداخل والتواصل مع السلطان الجائر بل والعمل في بلاطه والنموذج البارز علي بن يقطين ، فيما منعوا بعضاً آخر من مجرد حضور مجالس الحاكم أو مزاولة التجارة معه ببيع أونحوه، الأمر الذي يكشف أن ليس كل أحد يمتلك الحصانة والأهلية للنهوض بدور قناة التواصل مع السلطة، التي غالباً ما تلجأ إلى محاولة استدراج المتداخلين معها وإغرائهم ليتحولوا من ممثلين لمصالح وقضايا مجتمعهم، إلى ممثلين لمصالح السلطة وأدوات لتمرير سياساتها.

وأحسب أن هذا الوعي الشيعي تاريخياً هو المسؤول عن تعزيز الموقف المبدئي والقيمي لدى علماء الشيعة قاطبة في مقاطعتهم للسلطات الجائرة والنأي بأنفسهم عن مخالطة بلاط الحكام الظالمين، حين يجدوا أن مجرد زيارتهم للحاكم أو زيارته لهم ستمنحه شرعية وتهيء الجمهور للقبول به والرضا عن سياساته وممارساته. وهذا لا ينفي انخراط بعض علماء الشيعة في عهود مختلفة في تشكيلة الحكم أو دعم الحاكم حين يضمن ذلك حفظ مصالح الجمهور والشعب.

وقد تقبّلنا فيما مضى ومنذ عقدين تقريباً مساعي التواصل والانفتاح لرموز وفعاليات شيعية متعددة على مؤسسات النظام وبالأخص الأمنية، لكن لم تفضِ تلك السنوات الطويلة إلى تقدم ايجابي ملموس، بل العكس هو الصحيح، فقد صعّدت السلطة قمعها وأمعنت في تنفيذ سياسات التهميش والإذلال ومصادرة الحقوق في ظل صمت مطبق من الجميع تقريباً، ويبدو أن عين النظام رصدت بدقة دخول القوى الشيعية سباقاً مارثونياً في التنافس المحموم على نيل حظوته ورضاه، ما دفعه إلى التعاطي مع الشأن الشيعي بصلافة مطمئناً غلى غياب رد الفعل المعارض!.

التنظيم أداة رقابة وتحصين

لقد عزز الوجود الحركي المعارض حصانة المجتمع الشيعي ضد اختراقات النظام، بالتزامن مع فاعلية الترويج الثقافي والتربية الفكرية والروحية للمنابر الجماهيرية لكافة التوجهات الشيعية والتي عملت مبكراً على ترسيخ مبدأ القطيعة مع الحاكم الجائر، بل ونبذ وعزل ومقاطعة المتعاطين معه والمتّصلين به، ما كان يفرض على كل مَنْ تسوّل له نفسه خيانة مجتمعه أو المتاجرة بمصالح الطائفة أن يحسب ألف حساب إلى مقاطعة المجتمع له بل وفي حالات وصلت القطيعة إلى الأسرة والعائلة، وفي حالات أقل وصل الأمر إلى انفراط عقد الأسرة وطلب الزوجة الطلاق، فيما يسرح ويمرح اليوم عملاء السلطة من الجواسيس والخونة، وكذلك المتاجرين بقضايا الطائفة ـ ولا أقصد كل من يتواصل مع النظام، ففيهم رجال أفذاذ مخلصين ـ دون خشية أو وجل من رقيب أو حسيب.

فقد أدى غياب المؤسسات الحركية والتنظيمية، وفقدان مراكز التخطيط والتفكير الاستراتيجي، وعدم توافر خطط عمل واضحة ومنظمة، لولادة حالة من التخبّط والقاء الحبل على الغارب، ما أفسح المجال أمام كل الأطراف والأشخاص لارتجال المبادرات الفردية والفئوية القاصرة والضعيفة بدليل نتائجها السالبة والفارغة..وساهم ذلك في خلق الفرصة أمام النظام للتلاعب بالقضية الشيعية إعتماداً على استثمار التناقضات الداخلية بين الأطراف الشيعية نفسها، أو عبر استغلال الأفراد الضعفاء وعياً ومحدودي الخبرة والكفاءة.

فالاصرار على الاستمرار في عملية التواصل والعلاقة مع السلطات رغم عدم تحقيق نتائج وإنجازات فعلية تنعكس إيجاباً على أوضاع الطائفة، شجع ـ ربما دون قصد ـ بعض الباحثين عن الشهرة والمصلحة من ضعاف النفوس لاستغلال حالة انكسار الحواجز النفسية والاجتماعية واستسهال عملية التداخل مع النظام الحاكم، للارتماء في أحضان السلطة، وقد شهدنا كيف تسابق بعض المحسوبين علينا ممن لا يملكون أدنى مقومات الوعي والنضج فضلاً عن متطلبات تمثيل الطائفة إلى القيام بزيارات التهنئة للنائب الثاني في أعقاب تعيينه، في تزامن مع الحملات الشرسة للقوى الأمنية المختلفة وفي أكثر من مدينة ومنطقة بهدف سحق كرامة الشيعة وكسر إرادتهم، كما في الأحساء والخبر والدمام والعوامية وصفوى.

إن وجود مؤسسة حركية وتنظيم جامع للحراك الشيعي سيخلق وحدة القرار فيما يتعلق بقضايا الجماعة، ومن شأنه أن يضع كل مبادرة مهما صغرت أو كبرت ضمن خطة استراتيجية مدروسة، ويوظفها في إطار الحراك العام لتؤدي الغرض المطلوب، أو يؤجل القيام بها أو يمنعها نهائياً، ما يفوّت على النظام إستغلال المبادرات الفردية والفئوية المرتجلة. لقد تسبب غياب الوجود التنظيمي إلى انفراط عقد الجماعة القادرة على التفكير والتخطيط المستقبلي واستثمار الفرص والأحداث، وكشف المجتمع الشيعي أمام السلطة لتعبث به عبر ضعاف النفوس أو محدودي الوعي والخبرة والكفاءة السياسية.

وقد رأينا كيف تم تبادل الاتهامات باختطاف قرار الطائفة في أعقاب انقسام وتعدد المواقف تجاه أحداث البقيع الدامية، ولكن أحداً لم يعبأ بالتفكير في السؤال عن أسباب ولادة تلك الحالة، فالمطالبة بوحدة القرار والموقف يستلزم بناء جسد حركي متماسك قادر على استيعاب المجموع الكلي للقوى والفعاليات الشيعية، كي يستطيع المجموع المنظم صياغة رؤية مشتركة وموحدة تنتج موقفاً صريحاً وواضحاً وقراراً صلباً تلتزم به الجماعة.

وقد رأينا كيف استطاعت المؤسسات الحركية في الثمانينات المحافظة على وحدة الموقف الشيعي، وحفظ الكيان من الذوبان أو الاختراق، فلم تبرز على السطح ظواهر تناقض وتضارب ذات بال، لاسيما في السنوات المتقدّمة من عمر التنظيم، أي بعد تجاوز صدمة الولادة ومرحلة التأسيس المفاجئة.. وقد تكفّلت قنوات إتصال محددة مع الفعاليات والوجودات التي لم تكن منخرطة في التنظيم الحركي تأمين قدر كبير من التنسيق والتفاهم وتبادل الرأي فضمنت الوصول إلى حالة من التوافق على المشتركات الكبرى.

إن غياب المؤسسة التنظيمية أفرز انعدام الجهة الرقابية التي يفترض بها مراقبة أداء وتدقيق إنجازات الاطراف المتواصلة مع النظام، والتي تكون مسؤولة ـ عادة ـ عن قرار الاستمرار في التفاوض أو إيقاف العملية التصالحية وإغلاق ملفها إلى حين أو إلى الأبد، وبالتالي نضمن عدم التمادي في التواصل المجاني مع النظام، أو الانحدار بالمطالب عن السقف المحدد سلفاً.

ثمة فرق جوهري لا نغفله بين التواصل مع السلطة إنطلاقاً من محور فردي أو فئوي محدود، يتطلع لتحصيل احتياجات ومطالب عابرة أو بسيطة ومحدودة، حيث لا يكون بإمكان الفرد أو الفئة المجتزأة التي لا تملك امتداداً جماهيرياً فرض أجندة كبرى واستراتيجية، فرق بين ذلك وبين التواصل انطلاقاً من قاعدة تنظيمية جماهيرية تدرك ما تريده الجماعة الكبرى أي الطائفة كلها، والتي تضبط علاقتها مع النظام وفق أجندة محددة سلفاً، وهو ما يُشكّل رقابة ضاغطة في لا وعي المتفاوض/المتواصل مع النظام أنه مطالب بانجازات على مستوى مطالب الحركة والجمهور، وعدم تفويضه بتقديم أية تنازلات مجانية أو دون تنازلات حقيقية من قبل النظام.

وبكلمة جارحة ومؤلمة.. فإن تحول الجسم الشيعي في الجزيرة العربية من حركة مؤسسية منظمة إلى أفراد مبعثرين وفئات متطاحنة فيما بينها، هيأ الشيعة كلقمة سائغة التهمها النظام المتوحش على مهل وببرودة أعصاب، وفي صمت ورتابة مريبة وفاجعة!.

خذوا مثلاً.. النظام الحاكم وفي خطة تدمير مبرمجة: يستنزف ثرواتنا، يُدمر بيئتنا الزراعية والبحرية، ينقل خيرات أراضينا لمشروع الخزن الاستراتجي في الرياض ـ سرقة في وضح النهارـ، يُغلق مساجدنا، يحاصر ويطارد علماءنا، يعتقل أبناءنا وأخوتنا، يذبح ويقتل شبابنا في السجون وآخرهم الشهيد ميثم البحر طيب الله ثراه، ونحن سادرون في الصمت، لا صوت ولا ردة فعل ولا آهة ألم ولا صرخة استنجاد، وحين تفكّر ثلة شبابية هنا أو هناك التعبير عن رفضها نحاصرها نحن قبل النظام وزبانيته!!.. ترى أكان هذا سيحدث لو أننا نملك تنظيماً جماهيراً صلباً يتمتع بدعم واحتضان حقيقي من قبل الطائفة كلها؟!!.

انتهی/137