لقد أدرك السكان الشيعة مبكراً، بمن فيهم الذين اختاروا مبايعة ابن سعود كحاكم مسلم بديلاً عن الحماية الانجليزية كقوة كافرة مستعمرة، أنهم خضعوا لاحتلال بوجه مختلف، وأنهم منذ اعلان قيام الحكم السعودي ما عادوا يملكون سلطة على أراضيهم وثرواتهم، بل لم يعودوا قادرين على ممارسة عباداتهم وطقوسهم وشعائرهم وفق مذهبهم.. فعشرات العوائل الذين تم التنكيل بهم لاسيما من الملاكين الذين خسروا الكثير من ثرواتهم وأراضيهم وحقولهم الزراعية، صارت تدغدغ صدورهم أحلام الخلاص، غير أن الشعور بالضعف الذاتي وغياب القيادة السياسية القادرة على تكتيل الطاقات وتحديد سبل وآليات العمل على تحرير الأرض، جعل من تلك التطلعات مجرد أماني لم يتم ترجمتها في برامج ومشاريع عمل على ارض الواقع.
لاحقاً وبعد اكتشاف النفط في أراضي الشيعة، وامتداد جسور التواصل بين بعض الشيعة المحليين مع التنظيمات والقوى السياسية في الدول العربية كالعراق ومصر ولبنان، تبلور حلم الخلاص وتطلعات القضاء على حكم ابن سعود في صيغ أكثر تقدماً، وهو الأمر الذي يفسر انخراط الأعداد الهائلة من الشيعة في الإقليم الشرقي من الجزيرة العربية في مختلف التنظيمات والتشكيلات السياسية التي ترعرعت في الجزيرة العربية منذ مطلع الخمسينات على اختلاف أيديولوجياتها وأهدافها.
في العقود المتقدمة من العهد السعودي سنشهد مصادرة فاقعة للتاريخ والتراث والفلكلور الشيعي، بل للثقافة الدينية الشيعية كما للحقوق الإنسانية والدينية والسياسية.. سنشهد غياب اسم القطيف مثلاً في نشرات الأخبار الجوية، وتغييراً لأسماء المناطق والشوارع ذات الصبغة الشيعية إلى مسميات غريبة عن طبيعة وثقافة وتاريخ الشيعة ومناطقهم. حتى يصل الأمر إلى اقتلاع المطار القائم في قلب القطيف وإلصاقه بمدينة الدمام الذي يبعد عنها أكثر من ثلاثين كيلو مترا، علماً أن التوسع الذي شهدته المنطقة عبر استنبات المدن الحديثة كالخبر والدمام لا يغير معادلات التاريخ وحقائق، فستبقى القطيف والأحساء هي المدن والحواضن الأصلية وما عداها تابعة لها وملحقة بها.. سنشهد تخطيطاً وسعياً محموماً لتغيير ديموغرافية التركيبة السكانية لمناطق الشيعة في محاولة لتذويب الترابط الاجتماعي وإدخال عناصر مغايرة وغريبة لتفتيت لحمة الجسد الشيعي. سنشهد حصاراً على التوسع العمراني وتخطيط خبيث لتقطيع أوصال القرى والبلدات عن الاتصال ببعضها البعض، ستمنع مخخطات سكنية بحجة أن الموقع مصنف كأرض نفطية، وفي المقابل ستطلق أيادي الأمراء وزبانيتهم الأقربين لتدفن بحار المنطقة في أكبر عملية تدمير للثروة البحرية في عموم الإقليم الشرقي.
ورغم هذا كله استمرت ولا تزال فكرة التخلص من حكم وسيطرة ابن سعود حلماً يراود أذهان الكثير من الشرائح والنخب وحتى عموم الناس، ولذلك فإن العمل المعارض بمختلف أشكاله لم ينقطع بصورة نهائية طوال فترة الاحتلال السعودي، حتى وإن شهد فترات كمون أو انحدار في حجم ونوع الأداء. فإذا كانت فترة أواخر السبعينات شهدت تحشيداً عارماً للجمهور وتوظيفاً مباشراً للشارع في العمل المضاد لنظام الحكم السعودي، فإن مطلع التسعينات شهد تحولاً دراماتيكياً نحو خيار المصالحة بين المعارضة الشيعية والنظام السعودي، الذي نجح ـ بكل أسف ومرارة ـ في كسب الرهان باقتدار حيث حول حركة المعارضة الشيعية إلى مجرد تاريخ وأمجاد يتغنى بها بعض القيادات والكوادر الذين أسسوا ونهضوا بتلك التجربة الفريدة والمتميزة والتي استطاعت تحقيق انجازات ما كان ينبغي لأحد التفريط بها في طرفة عين، ليشطب تاريخاً حافلاً بالعطاء والعمل والانجاز ومتوجاً بالتضحيات والدماء والمعاناة!!.
إلا أنه ورغم الشعور بالغصة والمرارة وفداحة الكارثة التي تمخضت عن حل التنظيم والحركة، فإن قطاعاً عريضاً من الشيعة لا يزال على قناعة راسخة بضرورة إعادة إحياء العمل المعارض وفتح جبهة المواجهة مع النظام السعودي المحتل حتى تحرير الأرض واستعادة كل الحقوق المصادرة والثروات المستلبة.
حقائق التاريخ والواقع:
لا أريد هنا الدخول في حلبة المحاكمة للذات الشيعية والكشف عن أخطاء هذا الطرف أو تقصير تلك الجهة، بقدر ما أريد دعوة أنفسنا جميعاً إلى إعادة النظر في مجريات ومعطيات واقعنا الراهن واستنطاق عقولنا عن مخرجات إستراتيجية تفضي بنا إلى تحقيق طموحاتنا وتطلعاتنا التاريخية المشروعة..
إن التطلع للخلاص من الحكم السعودي، والانفصال عن مملكة الفساد والظلم، يفترض أنه حلم الشيعة جميعاً على اختلاف توجهاتهم ومواقفهم ـ بل حلم قطاع واسع من شعب الجزيرة العربية ـ كما أن أية خسائر تتكبدها جهة ما أو حركة ما هي خسائر للوجود الشيعي كله، وفي المقابل فإن أي نجاح وإنجاز فعلي يحققه أي طرف شيعي سينعكس تأثيره الإيجابي على المجموع الشيعي، ولن تختص به الفئة التي يحالفها النجاح لتحقيق إنجاز هنا أو هناك.
فإذا كانت تجارب المعارضة السابقة وكل التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الشيعي في الجزيرة العربية لم تفلح في دحر الاحتلال السعودي الغاصب للأرض والمقدسات، فهذا لا يعني أن نغفل بأن الشيعة نجحوا في تحقيق انجاز تاريخي متميز تمثل في بناء حركة دينية، سياسية معارضة، احتضنها وتبناها ودعمها مجتمعها بكل أطيافه..
وفي المقابل إذا كان النظام السعودي المحتل استطاع قمع وتحجيم حركات المعارضة الشيعية ـ كغيرها من التنظيمات الأخرى ـ ودفعها عبر خدعة المصالحة للذوبان ضمن الحياة اليومية لعامة الشعب، رغم تمسك بعض أفرادها وكوادرها بأنواع من النشاط الديني والثقافي والاجتماعي، ورغم محاولة البعض إضفاء الطابع السياسي المخاتل على أنشطته، التي لا ترقى إلى مستوى العمل السياسي الاستراتيجي الهادف للخلاص من الاحتلال السعودي أو تغيير معادلات التهميش والإقصاء وفرض خيار الشراكة الحقيقية في حكم البلاد والتمتع بثرواتها.
هذا الفشل وعدم النجاح في اقتلاع الكيان المحتل حتى الآن، لا يجب أن يفرض علينا خيار الاستسلام والخنوع والتسليم بالأمر الواقع، فالتطلعات الكبرى تتطلب تضحيات كبرى ومشاريع إستراتيجية واستثمارات ضخمة وزمناً طويلاً، وأقرب مثال هي تجربة الحكم السعودي نفسه الذي تم دحره وإنهائه مرتين قبل أن ينهض ابن سعود باحتلال أقاليم الشرق والحجاز ويقيم حكم الدولة السعودية الثالثة، في ظروف تاريخية وسياسية هيأت له فرص التحالف مع القوى الدولية وتحديداً بريطانيا ثم أمريكا لإقامة حكمه الغاشم.. إذن السعوديون أنفسهم خسروا المعركة التاريخية مرتين، وعانوا القتل والتشريد والأسر في حروبهم التأسيسية ضد السكان الأصليين في المناطق التي احتلوها، فلا شيء من المجد يمكن امتلاكه بالمجان، وتأسيس الدول يتطلب استثمارات ومشاريع إستراتيجية لا بد منها!.
هذا الاعتراف بفشل تجاربنا السابقة وقصورها ـ أياً كانت الأسباب فلستُ هنا بصدد مناقشتها ـ يُشكل حجر الأساس للوقوف على أرض صلبة لتدشين تفكير جماعي يستفيد من تجارب الماضي ولا يرتهن له، ويؤسس لمشروع استراتيجي ينهض بحاضرنا ويهيئه للانخراط في عمل حقيقي من أجل الوصول إلى تطلعاتنا المستقبلية.
الإصلاح الشامل لمكامن الخلل:
لا يمكن لحركة أن تنشأ في ظل مجتمع مفكك الروابط والأواصر، ولا يمكن لمجتمع ينغمس أفراده وسط الشهوات والملاهي المادية أن يحتضن حركة سياسية معارضة، تتطلب الكثير من العطاء والبذل والتضحيات على مختلف الصعد الحياتية.
لقد أدرك النظام السعودي هذه الحقيقة وعمل على ترسيخها كواقع قائم داخل البيت الشيعي، مستخدماً أقذر الوسائل وأخبثها لتفكيك وحدة المجتمع الشيعي وإضعاف روابطه، فدعم انتشار الانحلال الديني والأخلاقي عبر وسائله الإعلامية الموجهة وأبرزها الفضائيات، وزرع عبر أجهزته الأمنية في الشرطة والمرور وأمن الطرق عناصر غريبة على مجتمعنا ومنحرفة دينياً وأخلاقياً وشجعها على التواصل مع فئة الشباب وبالأخص المراهقين، وقد ثبت بالأدلة والبراهين وعبر رصد عشرات الحالات تورط هذه العناصر في إنشاء شبكات لترويج المخدرات والكحول ونشر الرذيلة والدعارة والمتاجرة بسلاح الجريمة والقتل.
هذا ما أدى لتضعضع بنية الأسرة كبوتقة أولية وركن أساس في بناء وحدة المجتمع وقوته، ثم لجأ النظام المجرم لزرع عشرات المتعاونين/الجواسيس فعلياً تارة وعبر اختلاق ونشر الشبهات المثيرة للشكوك تارة أخرى، وذلك لنزع الثقة والطمأنينة المتبادلة بين أفراد مجتمعنا، مما كاد يعدم روح التعاون والتكاتف فضلاً عن التحالف والاندماج في عمل سياسي واحد.
من ناحية أخرى أفرز تنامي الوعي الثقافي والسياسي لدى فئات المجتمع حالات متعددة من اختلاف الأفكار والرؤى والمواقف، الذي أدى لتنافر التيارات والفئات وتباعدها، بسبب قصور القدرة على إدارة الاختلافات الفكرية والسياسية، وأيضاً بسبب أخطاء البعض منا وممارساته غير المقبولة في الميدان الاجتماعي العام، ما ولد وحفز تبادل التهم والتشكيك في النوايا والاستهدافات، وحتى هنا لم يكن النظام بمنأى عن لعبته القذرة عبر استدراج بعضنا إلى تصريحات أو مواقف مثيرة للجمهور الشيعي، ما يثير البلابل وردات الفعل السلبية ضد هذا الطرف أو ذاك، فضلاً عن سياسة ضرب الأطراف الشيعية المتداخلة مع النظام بعضها ببعض عبر ترويج الشائعات بينهم أو فتح أبواب العلاقة مع مسئولي الدولة مع أشخاص واستبعاد آخرين، ليعود في يوم آخر لاستبعاد مَن قربهم وتقريب غيرهم وهكذا دواليك..
نحن بحاجة لتحصين البيت الشيعي أولاً، عبر ترسيخ الالتزام الديني والأخلاقي، وحماية الأسرة من عوامل التفكك والخلافات، واحتضان الشباب في مشاريع تنهض بمستقبلهم ومستقبل الطائفة.. نحن بحاجة إلى إعلاء كفاءة مجتمعنا في إدارة خلافاته الفكرية والسياسية وفق محور التلاقي عند المصلحة والأهداف الإستراتيجية واستبعاد الروح الانتهازية والفئوية.
أشير هنا أنه عند النظر إلى تجربة الثمانينات سنلحظ بأنه حين تصاعد حجم العمل الحركي، استطاعت قنوات التنظيم المختلفة اجتراح برامج حقيقية استقطبت فئات المجتمع من الرجال والنساء، وصقلت شخصياتهم وخبراتهم ووعيهم الديني والثقافي والسياسي، فساهموا في نشر الروح الدينية وإعلاء حالة الالتزام الأخلاقي، ورفدوا الحركة بجمهور واسع من الطاقات الشبابية في الداخل والخارج.. وفي المقابل فإن قرار حلّ التنظيم وإنهاء الوجود الحركي ساعد على توليد ردات فعل جاوزت المواقف السياسية إلى التخلي عن الالتزام الديني والسمو الأخلاقي والانضباط السلوكي، سواء ضمن تيارات الحركة أو لدى عموم أفراد مجتمعنا الشيعي المحلي.
ولمعالجة اختراق السلطة للمجتمع الشيعي سواء في الجانب الأمني عبر شراء ذمم العملاء والمخبرين، أو في الجاني