بسم الله الرحمن الرحیم
إن دراسة أبعاد الحج بشکل تفصیلي یحتاج إلی عشرات الصفحات التي تنضوي في بحث مستفیض یکشف أسرار الحج حکمته و فلسفته و یوضح کل بعد من أبعاد الحج من خلال القرآن الکریم و السنّة الشریفة.
أما في هذه الکلمة الموجزة فإننا نکتفي بإلقاء أضواء کاشفة و سریعة علی الأبعاد المتعددة لفریضة الحج لأجل الترکیز علی الجانب الشمولي و التوحیدي للحج ، و لتصحیح المفهوم السائد و الشائع في أوساط الناس بمختلف انتماءاتهم الدینیة و العقائدیة : هذا المفهوم الذي یلخّص الحج بمجموعة من الطقوس و الشعائر و الحرکات الخالیة من أي مضمون و من أیّة روح ، أو تلک الرؤیة السطحیة الساذجة التي تحصر الحج و تحدّه في بعد واحد فقط هو البعد الفقهي فیتحوّل الحج إلی سلوک آلي جامد خالٍ من العواطف النبیلة و المشاعر الرقیقة و الاحاسیس القبلیة و المعنویات الرفیعة و الافکار النیّرة و الإعمال التضحویة و الاهداف السامیة و النوایا الصافیة و الجهود العظیمة.
إن الحج بما أنه حرکة توحیدیة تکاملیة و رکن أساسي من أرکان الدین الحنیف و رکیزة من رکائز حضارة السماء و سمة من سمات الانبیاء ، فإنه یشتمل علی عدة أبعاد تتمازج و تجتمع لتبني الإنسان فردا و أمة ، و من المفید و الضروري التفکّر بمعاني أبعاد الحج و التأمل بکل بعد علی حدة لاستخراج الحکمة الکامنة وراء تشریع تلک العبادة العظیمة التي تبني الانسان الحقیقي السائر نحو الکمال المطلق.
و لا غرابة أن تکون أبعاد فریضة الحج هي أبعاد الحیاة نفسها ، لإن الحج نفسه یرمز إلی الحیاة الکونیة و الانسانیة المتحرکة أبدا نحو الله . أما تلک الأبعاد فهي التالیة:
· البعد الروحي :
حیث أن الروح تحنّ دوما إلی بارئها و أن الحج معراج للروح و سمو روحي عظیم و تقرّب إلی الله من خلال ذکر الله الدائم و الارتباط الدائم به عزوجل في کل المناسک الواجبة و المستحبة . و الحج تحدید واضح لمعالم الصراط المستقیم و توجیه للروح لتتجه نحو الله تعالی دون انحراف و انجذاب نحو الالهة المزیفة التي تشد الروح نحو المادة فتصبح أسیرة للجسد المهیمن.
· البعد النفسي :
الطمأنینة النفسیة نتیجة حتمیة لعبادة الحج حیث أنه « بذکر الله تطمئن القلوب » . کما أن إحیاء المعاني الحقیقیة للصور الرمزیة بحیث یکون السعي بین الصفا و المروة مثلا هو تعبیر رمزي عن توازن المؤمن بین الخوف و الرجاء ؛ أو أن یکون فعل خلع الثیاب المخیطة یرمز إلی خلع ثوب الریاء و النفاق و الغرور ... و هنا تکمن تزکیة النفس الحقیقیة و ذلک من خلال تطهیر النفس من الرذائل و تخلیتها بالفضائل .
البعد العقائدي : و هنا تکمن عظمة حج الاسلام الذي یتخطی کل الفروقات المناطقیة و العرقیة و الجنسیة و المذهبیة و القومیة و الوطنیة و اللغویة و الطبقیّة لیوحّد بین الشعوب في عقیدة واحدة جامعة هي عقیدة التوحید الإبراهیمي . ولذلک سمّي الحج « علم الاسلام»
· البعد العاطفي :
تتأجّج المشاعر و العواطف و الاحاسیس في تلک المناسبة و تتوجّه اتجاها صحیحا فتتدفق حبّا و عشقا للرحمن الرحیم ، حبیب قلوب العارفین و منتهی آمال السائلین . و یتمظهر الحبُ في محبة عباد الله أیضا و في عشق رسله و أولیائه فیتعلق القلب بالمحبوب في جو مفعم بالمودة و الرحمة و العشق.
· البعد الفقهي :
الفقه دلیل إلی الحرام و الحلال في المناسک الواجبة و شرح لکیفیة إتمام العبادة علی أکمل وجه و هو جزء من کلّ في عبادة الحج و في کل عبادة ، ولکن الخطر هو في الانقیاد للنماذج الجامدة من رجال الدین و أتباعهم من الذین علّبوا أدمغتهم في بعد واحد (البعد الفقهي ) و نسوا کل أبعاد الاسلام الاخري فقزّموا بذلک أنفسهم و لبسوا الاسلام علی مقاسهم.
· البعد التربوي :
الحج مدرسة لإعداد الشخصیات المجاهدة الواعیة و الصالحة المتکاملة و لبناء المجتمع الفاضلي المثالي . ولا یدرک هذا البعد الهام إلا من یخضع لهذه الدورة التربویة التدریبیة التي تقوّي الادارة و تشحذ الهمة و تنفي الذهن و تطهّر النفس و القلب من حجب المعاصي و علائق الدنیا. و هي تربّي الانسان علی الاخلاق الفاضلة و القیم الاسلامیة و التوحید و العطاء والتضحیة في سبیل الله و خدمة الناس.
· البعد الحسّي و المادي :
·
تتجند الحواس و الاعضاء و الجوارح في سبیل رضوان الله فتأتمر بأوامر العقل و تسترشد بهدی الله و إلهامات القلب السلیم . کما یتم البذل بالمال تمهیدا للبذل بالنفس و التضحیة بالروح . وهکذا فقط یتم بناء الانسان و ذلک عندما یجري تغلیب الروح علی الجسد انطلاقا من رؤیة الاسلام أن الروح جوهر الانسان.
· البعد الغیبي:
الحج ارتباط وثیق بعالم الغیب حیث أن الناس الذین یطوفون حول الکعبة ـ رمز التوحیدـ یقلّدون الملائکة الذین یطوفون حول « البیت المعمور» في السماء . أما اللباس الابیض البسیط فهو یذکّر بالاکفان ، و تجمّع ملایین البشر المتهافتین من کل فج عمیق سعیا للتوبة و الانابة إلی الله یدکّر بیوم القیامة.