الصهیونیة دعوة إجتماعیة سیاسیة انتشرت في الامة الاسرائیلیة باواخر القرن الماضي و کثر تحدث الناس فیها بالاعوام الاخیرة .وقد همنا امرها علی الخصوص في اثناء رحلتنا بفلسطین .و لا بدلنا في بحثنا عن احوال تلک البلاد الاجتماعیة و الاقتصادیة من الاشارة الی هذه الدعوة و تأثیرها الشدید في تلک الاحوال .فرأینا ان ناتي علی خلاصة تاریخها و حقیقة غرضها لزیادة الایضاح فنقول.
موضوعها
قد تقدم في کلامنا عن تاریخ فلسطین في الهلال الماضي کیف تشتت الیهود في انحاء العالم بعد ان جاهدوا في الدفاع عن اورشلیم دفاع الاسود .وقد مضی علیهم في هذه الهجرة نحو 18 قرنا و هم یندبون وطنهم و دولتهم و هیاکلهم . و لا سیما هیکل سلیمان الباقیة آثاره في القدس الی الان. و قد حاولوا استرداد ذلک الوطن عبثا و نظموا الاشعار في رثائه . و لا یزالون الی الیوم یبکون ذلک المجد الذاهب کل اسبوع عند احجار یعتقدون انها من بقایا هیکل سلیمان و قد حاول الیهود المهاجرون السعي في استرجاع ذلک الوطن غیر مرة باسالیب مختلفة آخرها الحرکة الصهیونیة التي نحن في صددها.
و لا بد لکل دعوة إجتماعیة أو سیاسیة من غرض ترمي الیه و غرض الصهیونیة « جمع الشعب الاسرائیلي في فلسطین و جعلها وطنا خاصا به » و هي مبنیة من الوجهة الدینیة علی آیات جاءت في سفر ارمیا الفصل 30 حیث یقول « لا تخف یا عبدي یعقوب یقول الرب و لا تفزع یا إسرائیل فإني اخلطک من الغربة و ذریتک من ارض جلائهم فیرجع یعقوب و یستقر في الراحة والخصب و لا یرعبه أحد» و في حزقیال (ص 39 عدد28 ) « فیعلمون اني انا الرب الههم باجلائي ایاهم الی الاثم ثم جمعي ایاهم الی ارضهم بحیث لا أبقي هناک منهم احدا من بعد » و في عاموس قول صریح (ص 9: 14 ) « واردّ شعبي اسرائیل فیبنون المدن المخربة و یسکنونها و یغرسون کروما یشربون من خمرها و ینشئون جنات یأکلون من ثمرها و اغرسهم علی ارضهم فلا یقتلعون فیما بعد من ارضهم التي اعطیتها لهم ».
و هناک نبوات أخری بهذا المعنی او نحوه في زکریا و اشعیا و میخا و غیرها .ماعندهم من الاعتقاد بالمسیح الذي سیأتي و یجمع بني اسرائیل حوله و یزحف علی القدس و یعید العبادة للهیاکل و غیر ذلک مما جاء في التلمود.
علی ان هذه الاقوال و امثالها لا تکفي لاجماع الامة علی العمل بها ان لم یتوقع اصحابها نفعا اقتصادیا او سیاسیا من ورائها او ان یدفهم للعمل جوع او اضطهاد او ظلم .و کم من اعتقاد یعتقده الناس و لا یجتعون للعمل له لعجزهم عن ذلک او لعدم الاضطرار الیه؟ و انما یجتمعون للعمل في ما یرون لهم فیه مصلحة حقیقیة .یتذرعون الی الاجتماع غالبا باسباب دینیة یتوکلون علیها و یؤولونها الی ما یساعدهم علی ذلک القیام و لا بد في مثل هذه الحال من محرک ببعث علی النهوض و قد بعث الیهود علی هذه الحرکة امران : ا لاول تمکن الروح الملیة من نفوسهم علی اثر الارتقاء الاجتماعي و العلمي في العالم المتمدن .فان شیوع الحریة الشخصیة ولد في نفوس الامم عصبیة عنصریة غلبت علی الجامعات الاخری .وبهذه العصبیة یطلب المجر التخلص من النمسا و یحاول البلقانیون الخروج من سلطة ترکیا. و البلقانیون انفسهم یتحاربون الان باسم العنصریة مع انهم من مذهب واحد و ا قلیم واحد.
و الامر الثاني مبالغة الامم النصرانیة في امتنان الیهود باسم الانتسمیتزم (antisemitism) و معنی اللفظة « مقاومة السامیین» لکنهم یریدون بهم الیهود خاصة . فآل ذلک إلی إجتماع کلمة الیهود باوروبا و فیهم طائفة حسنة من اصحاب الاموال و رجال السیاسة و العلم و أهل الهمة و النشاط فأخذوا یبحثون في الدفاع عن امنهم .و آنسوا في انفسهم المقدرة علی العمل بتلک الایات فوجهوا عنایاتهم الیها، فأخذ کتابهم یحرضون قومهم علی الاستعمار في فلسطین للتخلص من اضطهاد الامم لهم .و قال بعضهم « اذا لم یکن ابتیاع فلسطین ممکنا فلنطلب وطنا في مکان آخر علی وجه هذه البسیطة».
و نشط آخرون لاستنطار الجمعیات الخیریة الاسرائیلیة کجمعیة الاتحاد الاسرائیلي علی القیام بهذا العمل سنة 1863 و لکن هذه الجمعیة غرضها الرئیسي تهذیب الشبیبة الیهودیة .و حاول غیرهم استنهاض جمعیة الیهود الانکلیزیة في لندن و جمعیتهم في برلین فترتب علی ذلک تأسیس الجمعیة العمومیة الفلسطینیة و جمعیة الاستعمار الفلسطیني .لکن الدعوة لم تکن نضجت بعد فلم تأت هذه المساعي بثمرة .فوجهوا التفاتهم الی وادي الفرات لعله یصح أن یکون مهجرا لهم.و بذل السیاسي اولفانت الانکلیزي جهده في نیل امتیاز خط حدیدي في ذلک الوادي لیسکن فیه مهاجري الیهود من روسیا.و اقترح إنشاء مهجر یهودي في فلسطین بنواحي السلط علی أن تتألف جمعیة رأس مالها عشرة ملایین فرنک تبتاع ملیون فدان یستثمرها یهود بولندا و رومانیا و الاناطول. فلم یأذن لهم السلطان و قضی علی ذلک سائر مساعیهم في هذا السبیل.
لکن روح الصیونیة اخذت تتمکن من قلوب الیهود. و هم یزدادون تمسکا بالعنصریة کلما زاد مقاوموهم شدة . فکثرت الجمعیات التي تألفت لهذه الغایة . و اول جمعیة افلحت في استثمار ارض فلسطین نشأت سنة 1879 و لما التأم المؤتمر الاسرائیلي سنة 1884 للنظر في احوال المستعمرین والاخذ بناصرهم حضره مندبون عن خمسین جمعیة فازداد القوم نشاطا و بلغت الحرکة اشدها سنة 1894 و اوشکوا ان یبلغوا غایتهم لکن العثمانیین انتبهوا لاغراضهم فحالوا بینهم و بین ما یریدون . ولم یستقر عملهم علی قواعد متینة الا بعد ظهور الدکتور تیودور هرتسل صاحب الدعوة الصهیونیة .
و هو رجل نمساوي شدید الغیرة علی العنصر الاسرائیلي عالي الهمة قوي الحجةُ کتب و هو في باریس سنة 1895 کتابا في استعمار الیهود سماء « الوطن الاسرائیلي» لم یزعم أنه یستنهض به الهمم أو یستثیر العزائم بل قال أنه کتبه لنفسه و لا یقاف بعض اصدقائه علی آرائه. ولکن الکتاب ما لبث ان طبع في فینا بالنمساویة حتی نقل الی الفرنساویة و الانکلیزیة و العبرانیة و اعید طبعه مرارا و راج رواجا عظیما. وحرک الهمم فوق ما کان یتوقع الناس منه. و قد عارضه کثیرون لکن المجاري الاجتماعیة اقتضت ظهورثمره لان فکرة استعمار الیهود لفلسطین کانت قد نضجت و استعدت لها الاذهان و تاقت الیها النفوس
و خلاصة آراء هرتسل في ذلک الکتاب « ان اعداء السامیین آخذون في الازدیاد و لا یستطیع الیهود مقاومتهم لتشتت شملهم في الارض فهم في حاجة الی الاجتماع في وطن خاص بهم » فاقترح انشاء شرکة یهودیة اقتصادیة رأسمالها 50000000 جنیه مرکزها لندن. و ان تتألف جمعیة سیاسیة یهودیة تدبر اعمال هذه الشرکة و تشیر علیها بما ینبغي عمله . و اقترح للقیام بذلک ابتیاع فلسطین او الارجنتین علی ان ینتقل الیها الیهود انتقالا منتظما. ثم عدل هرتسل رأیه هذا فحصر طلبه باستعمار فلسطین دون سواها لعلمه ان الناس لا یساقون بمثل الشعائر الدینیة و الیهود هجروا فلسطین و قلوبهم في هیکل سلیمان
و لم تمض سنة علی نشر آراء هرتسل حتی اقبلت الجمعیات علی الاخذ بها . واول من فعل ذلک جمعیة الیهود النمساویة فوقع بضعة آلاف منهم سنة 1896 علی خطاب یطلبون فیه تأسیس جمعیة یهودیة في لندن ، غیر من أخذ برأیه و تعصب له من الناشئة المتألمین من مقاومة الیهود. علی ان طائفة کبیرة من الحاخامین في روسیا و المانیا و النمسا و النکلترا عارضوه في بادیء الرأي لانه لم یعتبر الوجهة الدینیة من المسألة کما ینبغي . و لان أتباعه أکثرهم من الشبان المتنورین و اتهموهم بکل قبیح . وکان المسیحیون أشد عطفا علی الصهیونیة من اولئک الحاخامین فنصروها باقلامهم و السنتهم و من جملة العقبات التي ُُُقامت في طریق الصهیونیة مسألة التعلیم لان الحاخامین اعتبروا نشر العلوم العصریة من قبیل الخروج علی الاداب الدینیة . واشاعوا ان الصهیونیة من آلات الکفر. فلما العقد الثاني رأی هرتسل من الحکمة مسالمة رجال الدین فاعترف ان الصهیونیة تشمل السعي في احیاء شعائر الدین فضلا عن الاقتصاد و السیاسة.
أعمال الصهیونیة و وسائلها
قد یستغرب القاریء نجاح هذه الدعوة في هذه المدة القصیرة . لکنه اذا علم الغرض و الوسیلة هان علیه ذلک . دعا هرتسل الشعب الیهودي من انحاء العالم المتمدن الی مؤتمر اجتمع في باسل سنة 1989 حضره نیف و مثنا عضو بعضهم یمثلون جماعات . و کانت الاذهان متأهبة لقبول الدعوة فلم یکتفوا باعلانها ـ و هي ایجاد و طن شرعي للشعب الاسرائیلي في فلسطینـ بل بحثوا في الوسائل المؤدیة الی نشرها و تأییدها فقرروا لذلک ثلاث وسائل من ارفی الوسائل المؤدیة الی النجاح و هي :
1ـ احیاء آداب العبرانیة و نشرها
2ـ إنشاء مدارس لتعلیم اللغة العبرانیة
3ـانشاء مالیة مشترکة للیهود
و اخذوا بعد انفضاض هذا المؤتمر في تأیید هذه القرارات بنشر الکتب و القاء الخطب فی اللغات العبرانیة والالمانیة والافرنسیة والانکلیزیة والعربیة .وشکلوا عمدة للاستعمار ال