عاش
الإمام الهادي (عليه السلام) أربعين أو إحدى وأربعين سنة، وقضى شطراً من عمره في المدينة المنورة، والشطر الآخر في سامراء، وقد عرفت ما عاناه الإمام من المصائب والمكاره طيلة أيام حياته، سواءاً في المدينة المنورة أوفي سامراء من أيدي الجبابرة الطغاة وأعوانهم وعملائهم.
وما اكتفى العباسيون بما قاموا به تجاه الإمام الهادي (عليه السلام)، وما ارتاحت ضمائرهم العفنة، ونفوسهم القذرة حتى دسوا إليه السم، وقتلوه –مسوماً مظلوماً- في جو من الكتمان والخفاء لأن أولئك الجبناء كانوا يعلمون مدى تعلق قلوب الناس بالأئمة الطاهرين، وحتى بعض رجال البلاط العباسي كانوا يكنون للإمام الهادي كل تقدير وتعظيم.
ولهذا لم يتجرأوا أن يقتلوا الإمام علناً خوفاً من الهياج العام، فاختاروا هذه الطرق لتحقيق أهدافهم الخبيثة ستراً لجرائمهم، وتغطية لجناياتهم على حد زعمهم.
ولهذا ذكر المؤرخون أن الإمام الهادي (عليه السلام) قضى نحبه مسموماً، وإليك بعض تلك المصادر التاريخية التي تصرّح بذلك:
المسعودي في (ورج الذهب): وقيل: إنه مات مسموماً.
الشبلنجي في (نور الأبصار): يقال: إنه مات مسموماً.
ابن الصباغ المالكي في (الفصول المهمة): .. لأنه يُقال: إنه كان مات مسموماً.
الطبري في (دلائل الإمامة): ...وفي آخر ملكه (المعتز) استشهد ولي الله... مسموماً.. الخ.
قال المسعودي: حدثنا جماعة، كل واحدٍ منهم يحكي: أنه دخل الدار (دار الإمام الهادي) يوم وفاته، وقد اجتمع فيها جلة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين واجتمع خلق من الشيعة، ولم يكن ظَهَرَ عندهم أمر أبي محمد (عليه السلام) ولا عرف خبره إلا الثقات الذين نصَّ أبو الحسن (عليه السلام) عندهم عليه.
فحكوا: أنهم كانوا في مصيبة وحيرة، فهُم في ذلك إذ خرج من الدار الداخلة خادم، فصاحَ بخادم آخر: يا رياش خذ هذه الرقعة وامضِ بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان، وقل له:هذه رقعة الحسن بن علي.
فاستشرف الناس لذلك، ثم فُتِحَ من صدر الرواق باب، وخرج خادم أسود ثم خرج بعده أبو محمد (عليه السلام) حاسراً، مكشوف الرأس، مشقوق الثياب، وعليه مبطنة بيضاء، وكأن وجهه وجه أبيه (عليه السلام) لا يخطيء منه شيئاً.
وكان في الدار أولاد المتوكل، وبعضهم ولاة العهود، فلم يبق أحد إلا قام على رجليه، ووثب إليه أبو محمد (عليه السلام) فقصده أبو محمد (العسكري عليه السلام) فعانقه، ثم قال له: مرحباً بابن العم. وجلس بين بابي الرواق، والناس كلهم بين يديه.
وكانت الدار كالسوق بالأحاديث فلما خرج (الحسن العسكري) أمسك الناس، فما كنا نسمع إلا العطسة والسعلة.
وخرجت جارية تندب أبا الحسن (الهادي عليه السلام) فقال أبو محمد (عليه السلام): ما ههنا من يكفي مؤنة هذه الجاهلة.
فبادر الشيعة إليها، فدخلت الدار، ثم خرج خادم فوقف بحذ اء أبي محمد (عليه السلام) فنهض (عليه السلام) وأخرجت الجنازة، وخرج يمشي حتى أخرج بها إلى الشارع الذي بإزاء دار موسى بن بغا.
وكان أبو محمد (الحسن) صلى عليه قبل أن يخرج إلى الناس، وصلى عليه لما أُخرج المعتمد، ثم دفن في دارٍ من دُوره.
واشتد الحرُّ على أبي محمد (ع) وضغطه الناس في طريقه ومنصرفه من الشارع بعد الصلاة عليه.
فصار في طريقه إلى دكان لبقال، رآه مرشوشاً، فسلم واستأذنه في الجلوس فأذن له وجلس، ووقف الناس حوله.
فبينا نحن كذلك إذ أتاه شاب حَسَن الوجه، نظيف الكسوة، على بغلة شهباء فنزل عنها، وسأله أن يركبها، فركب حتى أتى الدار ونزل.
وخرج في تلك العشية إلى الناس ما كان يخرج عن أبي الحسن (الهادي عليه السلام) حتى لم يفقدوا منه إلا الشخص.
وتكلّمت الشيعة في شق ثيابه، وقال بعضهم: أرأيتم أحداً من الأئمة شق ثوبه في مثل هذه الحال؟.
فوقّع إلى مَن قال ذلك: يا أحمق ما يُدريك ما هذا؟ قد شقَّ موسى على هارون (عليه السلام)؟.
أقول: ربما يتبادر إلى الذهن أنه لماذا دُفن الإمام الهادي (عليه السلام) في داره؟ ولماذا لم يُدفن في المقابر العامة كما هي العادة؟.
والسبب في ذلك على ما ذكره المؤرخون ومنهم اليعقوبي:
أن اجتماع الناس في دار الإمام الهادي وخارجها كان عظيماً جداً، ولم تتسع الدار لإقامة الصلاة على جثمان الإمام، ولهذا تقرر أن يخرجوا الجثمان المقدس إلى الشارع المعروف بشارع أبي أحمد وهو من أطول شوارع سامراء وأعرضها، حتى يسع المكان لأداء الصلاة.
فلما أخرجوا الجثمان الأطهر ارتفعت أصوات الناس بالبكاء والضجيج.
وكان أبو أحمد بن هارون الرشيد، المبعوث من قبل المعتز العباسي للصلاة على جثمان الإمام لما رأى اجتماع الناي وضجتهم أمرَ بردِّ النعش إلى الدار حتى يدفن هناك.
كل ذلك لمنع الناس من مراسم التشييع والتجليل عن جثمان الإمام وخوفاً من هياج عواطف الناس، وتعبيرهم عن ولائهم للإمام.
فإن المعتز العباسي الذي دسَّ السم عن طريق عملائه إلى الإمام الهادي (عليه السلام) وقضى على حياة الإمام لما رأى أن هدفه قد تحقق، وأن الإمام فارق الحياة، أرسل المعتز أولاده إلى دار الإمام، وكأنهم يشاركون أولاد الإمام في مصيبة أبيهم؟!.
وأرسل المعتز أبا أحمد بن هارون الرشيد ليصلي على جنازة الإمام، كل ذلك تغطية للجريمة، و