وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "مَنْ تَوَكَّلَ كُفِيَ".
التَّوَكُّل لغةً يعني: الاعتماد والثقة. يقال "توكل فلان على الله" بمعنى اعتمد عليه وأوكل أمره إليه.
والتَّوَكُّل في اصطلاح العلماء: اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد ودفع ما يضره في دينه، ودنياه، مع الأخذ بالأسباب المشروعة .
ويتضمَّن التَّوَكُّل ترك الأمور بيد الله والثقة في تدبيره، والاعتقاد الجازم بأن الله هو المالك الوحيد للتدبير، والمحيط بكل شيء، والقادر على كل شيء، قال تعالى: "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴿12/ إبراهيم﴾ إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه، الموقِن من وليه و ناصره، المؤمن بأن الله الذي يهدي السبيل لا بد أن ينصر وأن يعين، وماذا يهم حتى ولو لم يتم في الحياة الدنيا نصر إذا كان العبد قد ضَمِنَ هداية السبيل؟
والقلب الذي يحسُّ أن الله يقود خطاه، ويهديه السبيل، هو قلب موصول بالله لا يُخطئ الشعور بوجوده تعالى وألوهيته القاهرة المسيطرة، وهو شعور لا مجال معه للتردُّد في المضي في الطريق أيا كانت العقبات، و أيا كانت قوى الطاغوت التي تتربص في هذا الطريق، وهذه الحقيقة -حقيقة الارتباط في قلب المؤمن بين شعوره بهداية الله وبين بديهية التوكل عليه- لا تستشعرها إلا القلوب التي تزاول الحركة فعلا في مواجهة الطاغوت، والتي تستشعر في أعماقها يد الله وهي تفتح لها نوافذ النور فتبصر الآفاق المُشرقة، وتحسُّ الأنس والقربى، وتشعر بالقوة والقدرة، وتوقِن بالنصر والغلَبة، وتثبُت أمام عُتُوِّ العُتاة والظَّلَمة، وحينئذ لا تعبأ بما يتوَعّدها به طواغيت الأرض، ولا تتزلزل أمام تهديدهم ووَعيدهم، بل تحتقرهم، وتحتقر ما في أيديهم من وسائل البطش والتنكيل، وماذا يخاف القلب الموصول بالله على هذا النحو؟ وماذا يخيفه من أولئك الطُّغاة وأمرهم كله بيد الله ساعة يشاء يقهرهم، ويُذلُّهم، ويزهق باطلهم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وإن القلوب المتصلة بالله، المتوكِّلة عليه، لتصبر على الأذى، وتثبت أمام البطش، لا تتزحزح، ولا تضعف، ولا تتراجع، ولا تَهِن، ولا تتزعزع، ولا تشُكّ بالذي هي عليه، ولا تحيد عنه.
"مَنْ تَوَكَّلَ كُفِيَ" هذه هي المعادلة التي يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع)، من يضع ثقته واعتماده على الله ويُوكل إليه أموره، فإنه سيُكفيه ما يهمّه، ويهيئ له حاجاته، ويُدبِّر له ما هو خير له في الدنيا والآخرة، وهذا يدفع الإنسان إلى الراحة النفسية والسكينة، ويُبعد عنه مشاعر القلق والتوتر، بل يشعره بالأمان حتى في أصعب الظروف، إذ يعلم المتوكل أن الله لن يتركه، وهذا ينكعس عليه عملياً فيعمل بثقة دون أن يربط النتائج بتوفيقه الشخصي فقط.
وينشأ التوكل على الله من الإيمان المطلق بقدرة الله، وأن لا مُؤَثِّر بالاستقلال في الوجود إلا الله، والإيمان المطلق بحكمته في التدبير، من جهة، ومن إدراك الإنسان لنواقصه وعجزه عن الإحاطة بكل شيء، وافتقاره إلى كل شيء، وأنه لا يضُرُّ ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع، ويساعد على التوكل التجارب الشخصية التي يمر بها المرء نفسه، وما يراه من بركات توكُّله على الله، وكذلك تجارب الآخرين.
ومن البديهي أن التوكُّل يناقض التواكل، فالأول مطلوب، والثاني مذموم ومَنهِيٌّ عنه، التوكل يدفع الإنسان إلى أن يختار لنفسه أهدافه الدنيوية والأخروية، ويبذل الجهد الكافي لتحقيقها، ويهيئ الأسباب المطلوبة ثم يتوكل على الله ويعتمد عليه ليعينه على تحقيق ما أراد، وبهذا يولِّد التوكل في الإنسان حيوية عالية، وطاقة روحية ومعنوية هائلة، وأملاً عظيماً في تحقيق ما يرومه، أما التواكل فهو ادعاء وحسب، ادعاء التوكل على الله من دون أن يكون له دور فيما يريد، بل حتى إنه لا يريد، لا لأنه يفوِّض أمره إلى الله، بل لأنه لا يدري ما يريد، وإن عرف ما يريد لا يبذل الجهد المطلوب ليتحقق له ما يريد، وبهذا يسلبه التواكل: الهدفية، والتخطيط، والعمل، ويسلبه الروحية والمعنوية، ويجعل منه شخصاً عديم الفاعلية، وكَلاً على الناس والحياة.
ويتمَيَّز المتوكلون على الله بصفات عديدة منها: البصيرة، عُلُوُّ الهِمة، الثِّقة بالفلاح والفوز، الشجاعة والاقدام، الصبر والثبات، الجِدّ في العمل، اليقين بقدرة الله، الرضا بما قسمه الله، والشعور الدائم بالطمأنينة، وعلاقتهم بالله علاقة وثيقة تعتمد على حبهم لله وثقتهم بقدرته وحكمته.
والله يُكافئ المتوكلين عليه بالكفاية والحماية والرعاية، والتسديد والهداية، ونفاذ البصيرة، ويصرف عنهم الشُّرور، ومن أفضال الله عليهم أنه يفتح لهم أبواباً للحلول، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، كما وعد في قوله: "وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴿3/ الطلاق﴾.
بقلم الكاتب والباحث اللبناني في الدراسات القرآنية السيد بلال وهبي
........
انتهى/ 278