وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ تعتبرُ إقالة يوآف غالانت من منصبه كوزير للدفاع خطوة لافتة وفي توقيتها المناسب، كما هي عادة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فقد جاءت في ظلّ توترات داخلية واسعة بدأت بشأن قانون تجنيد الحريديم المثير للجدل، خاصة أنّ الحريديم هم الوحيدون الذين يملكون بيدهم عصمة هذه الحكومة، بالإضافة إلى مطالبة غالانت المُلحة بإقامة لجان تحقيق رسمية بشأن السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
كما أن هناك عددًا لا بأس به قد وصفه بأنه مجردُ حصان طروادة داخل هذه الحكومة، ولكن يبقى السؤال: لماذا الآن؟
علينا أن نشير أولًا إلى الاختلافات بين إقالته الآن وبين ليلة الإطاحة به في مارس/ آذار 2023؛ فالاختلاف الأول كان وجودُ موجة احتجاجات عارمة، في حين أن غالانت بات هذه المرّة ضعيفًا أو "غير كاريزماتي"، فهذه المرة نرى أن موجةَ الاحتجاجات أصبحت أقلّ زخمًا – وإن كانت ستمتدُ لأيام – وفي غالبها تقتصر على ذوي الأسرى الذين استطاع نتنياهو عبر ممارسات عدة عزلهم حتى عن احتجاجات ما قبلَ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.
ومن هنا نشيرُ إلى أنّ ترجمة شعور الحفاظ على الأمن القومي في الشارع الإسرائيلي تكونُ من خلال إظهار انشقاقات وانقسامات أقل أو شبه منعدمة، حتى وإن كان هناك الكثير من الامتعاض، فالعدوُ المتربصُ في الخارج لن يرأف بهم في ضعفهم وفقَ تعريفهم، والانقسام هو أول ملامح الضعف وأولى خطوات السقوط.
كما أنّ غالانت فقدَ الكثير من شعبيته، وكسر الثقةَ بين أوساط المحتجين، سواء عن قصد أو بدون قصد أثناء محاولته احتواءَ نتنياهو، حيث تماهى مع الأخير في ظلّ الضغوطات التي مارسها عليه، أهمُها عندما خرج الكنيست لعطلته وبات شبهَ محدود الصلاحية، وفقد غالانت في ذلك القدرة على المناورة أمام نتنياهو.
أما الاختلاف الثاني فيكمنُ في القدرة على الإضراب لإحداث الضرر الاقتصادي، ففي سبتمبر/ أيلول الماضي أعلن الهستدروت إضرابًا مفتوحًا في محاولة أخيرة للضغط على نتنياهو للدخول في صفقة تبادل الأسرى، لكنّ نتنياهو استغلّ ضعف القضاء وقدرته على المناورة السياسية لإبطال قرار الإضراب، وفي غضون ساعات تحوّل الإضرابُ المفتوح إلى إضراب نصف نهاري، ما يعني إضرابًا غير مجدٍ وفاشلًا، بل فاقدًا للشرعية أيضًا.
إضافة إلى أنه حتى اللحظة، وَفق تقرير لـ"يديعوت أحرونوت"، لم يحوّل الهستدروت بدلَ تعويض للمضربين، وبالتالي لن يستطيعَ الهستدروت أن يلف حوله الكثير من المضربين، ولن يكون لديه القدرة على المناورة بالذات؛ لأنه فقد ذلك الزخم لأسباب أسمى كإعادة الأسرى.
من هنا يتكشف ملمح اختلاف ثالث، وهو وجود معارضة ضعيفة، إذ لطالما كانت المعارضة محدودة الصلاحية في كنيست إسرائيل، وعملها لطالما كان مقتصرًا في أغلب الحالات على تقديم استجوابات، وقلّما هي المرات التي استطاعت بها إقالة حكومة أو معارضة تشريع قوانين مصيرية.
ولربما هذا تحديدًا ظهر بشكل جليّ وواضح في سلسلة التشريعات الأخيرة التي تمثل طعنة في خاصرة الديمقراطية في إسرائيل، كقانون تجريم الأونروا، وإقالة المعلمين، وغيرها. ومع ذلك، لو فرضنا أن المعارضة كانت ستناور، فستجد طبعًا "منشقين" متمردين من داخل الحكومة؛ لتمرير قانون حجب الثقة، لكنها هذه المرة، خصوصًا بعد انضمام ساعر للحكومة، بحاجة لثمانية أعضاء بالإضافة إلى غالانت، مقارنة بالمرة السابقة التي احتاجت أربعة أعضاء لا غير. وهذا يأخذنا للاختلاف الرابع، وهو الليكود.
إن كلمة الليكود بالعربية تعني "التكتل"، والليكود الآن بات الأكثر تكتلًا. في مارس/ آذار عام 2023، كان هنالك الكثير من الأصوات التي أبدت امتعاضها من هذه الخطوة من داخل الليكود، لا سيما تلك الأصوات التي رشحت لتقود ثورة ضدّ نتنياهو إن استمر في التعديلات القضائية.
لكن هذه الأصوات رُشحت وغُربلت ولم يعد يُسمع لها أيّ ضجيج، خاصة أنها لا تملك شرعية ولا زخمًا لأقوالها في خضمّ حرب مصيرية باتت جزءًا من مصيرهم السياسي، بعدما رهنوا رقابهم في عهدة نتنياهو ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولربما كان لهم حظوظٌ أكثر وفرصةٌ أكبر للتمرد عليه قبل أن يغرقوا معه في وحل هذه الحرب التي لا نصر فيها ولا شيءَ مطلقًا فيها سوى حكم نتنياهو.
ومن هنا لن يكون أمام غالانت المعزول إلا أن يعتزل حياته السياسية بعدما جُرّد من كلّ صلاحياته، ومن كلّ قدراته على المناورة.
الاختلاف الأخير هو اختلاف على المستوى الخارجي، فالشأن الأميركي باعتباره الداعم الأول هو الأهم. إقالة غالانت، الذي يُعتبر رجل واشنطن الوحيد في هذه الحكومة بعد خروج غانتس وآيزنكوت منها، باتت تأكيدًا على سيناريو التعقيد الميداني الذي ضمره نتنياهو خلال الشهرين المقبلين ليعقّد المشهد أمام أيّ مخرج سياسي ممكن أمام أية إدارة قادمة في أواخر يناير/ كانون الثاني المقبل، ولكن تبقى مخاوفه من تحرر بايدن من القيود الانتخابية، ولربما ستحاول ليّ ذراع نتنياهو كفرصة أخيرة لتصحيح مسار وسمعة "إرث بايدن".
وغالبًا فإن العلاقات الأميركية الإسرائيلية ستشهد تصعيدًا لافتًا، لكن لن يصل حدّ الخلاف المعلن ميدانيًا. لكن مراهنة نتنياهو هي مراهنة على تصحيح المسار مع الإدارة القادمة أيًا كانت، من خلال مناورة سياسية دبلوماسية والعودة لإستراتيجية "من يرمش أولًا يخسر".
لكن وبعد كل ما سبق لا بد أن نسأل، ما أثر ذلك على إسرائيل الحكومة والحرب؟
نتنياهو بات وزير الدفاع بشكل فعلي، فكاتس محدود الصلاحية والفكر، ولربما كان أحد أسوأ وزراء خارجية إسرائيل، وفي مشهد حرج كهذا يمكن القول إنه وصمة عار في هذه المشهدية التي جلّ ما أتقن من دبلوماسيتها هو التغريد على منصة إكس، لكن من يحتاج وزير خارجية ما دامت الولايات المتحدة تقوم بالدور الدبلوماسي الإسرائيلي بشكل متقن؟
كما أن نتنياهو لطالما اعتبر هذه الوزارة مقبرة سياسية، فإمّا مُقالين أو مستقيلين، كغالانت وبينيت مثلًا أو وزير دفاع محدود الصلاحية كليبرمان. ومع ذلك فإن الوضع مع كاتس مختلف، فهنا نتحدث عن تعيين صوري، غالبًا قال فيه نتنياهو لكاتس: "تعالَ كل صباح الساعة الثامنة ضع بصمة إصبعك ثم اختفِ"، وبهذا يكون نتنياهو هو وزير الدفاع الفعلي.
فالمشهد ليس مستهجنًا إسرائيليًا، فلقد كان رؤساء وزرائها يحتفظون بهذا المكتب لأنفسهم، لكن المختلف في المشهد أنهم كانوا رؤساء هيئة أركان سابقين. فهل أعمت نتنياهو الفاقد للتجربة العسكرية نرجسيته؟
هذا مقرون بنائب الوزير الذي سيعينه نتنياهو، تمامًا كما فعل مع كثير من حكوماته السابقة، حيث احتفظ ببعض الوزارات لنفسه، وعيّن نوابًا عمليين. فهل سيعين نائب وزير براغماتيًا يجيد التحدث "بالأميركية" واللغة "الأمنية" ويتقن المناورات اللوجيستية؟
وبالحديث عن نية إقالة رئيس الأركان هرتسي هاليفي، فإنّ الإقدام على إقالة رئيس هيئة الأركان ورئيس الشاباك، سيكون ضربًا من الجنون، ولذا أرجّح أن يكون التلويح بهذه الورقة ضربًا من "التسريبات" الكلاسيكية في هذه الحرب في محاولة لتحريك الشارع، ولكن بكل الأحوال لن يكون قرار الإقالة بهذه السرعة.
ومع ذلك، بتنا نتحدثُ عن هرتسي هاليفي الضعيف مُسبقًا، الضعيف بشكل مطلق، ففي كل مرة تخرج أصوات متمردة من داخل الجيش، ويشكل ذلك نوعًا من المتاعب لنتنياهو، خاصة أنه لا يريد أن يتورط أكثر في وحل هذه الحرب، التي باتت خسائرها الإستراتيجية من الناحية العسكرية شبه محسومة، وبالذات أن الخسارة ستسجل على الجيش بشكل مباشر.
هذا بالإضافة إلى لجان التحقيق في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، والمطالبة بحسم الجبهة الشمالية على الأقل. كل هذه المتاعب أدت إلى أن يقوم نتنياهو بسحب ورقة السند من الجيش، وهو غالانت، تمامًا كما فعل في يوليو/ تموز الأخير حين هدد بإقالة غانتس وآيزنكوت، اللذين استقالا بدورهما. وبعدها رأينا كيف بات الجيش أكثر انصياعًا وتماهيًا مع رغبات نتنياهو.
بالإضافة إلى وجه ضعف آخر، حيث إن اتخاذ القرارات العسكرية كان في السابق عبارة عن مناورة بين رئيس الحكومة، ووزير دفاعه، ورئيس هيئة الأركان. أما منذ هذه اللحظة، فسيكون على هرتسي هاليفي المناورة أمام نتنياهو كرئيس للحكومة ونتنياهو كوزير للدفاع، مما يضعه في موقف حرج وصعب.
السيطرة على الجيش من قبل التيار الديني الصهيوني باتت أقرب إلى الواقع، خصوصًا في ظلّ وجود حكومة قومية دينية يمينية، تملك سلطة التعيينات المطلقة. وأي استقالة أو إقالة لهرتسي هاليفي ستعني تفردًا واحتكارًا تامًا لليمين المتطرف فيما يخص التعيينات المصيرية لإسرائيل.
فهل سنرى رئيس هيئة أركان من التيار الصهيوني الديني لأول مرة في تاريخ إسرائيل؟ من المؤكد أن هذا هو المشهد الذي لطالما حلمت به هذه الحكومة منذ بدايات مشروع التعديلات القضائية.
والآن، وبعد إزالة "حصان طروادة" الأخير من أروقة الحكومة، وفقًا للمنظور الديني الحريدي والصهيوني القومي، يمكن القول إنها باتت أكثر استقرارًا، تناغمًا، وانسجامًا. بل يمكن القول إن غالانت أصبح مثالًا يُضرب لمن تسوّل له نفسه إزعاج سير هذه الحكومة من داخل أروقة الليكود أو حتى الصهيونية الدينية، خاصة بعد أن أصبح ساعر مطلق الولاء في المنصب الوزاري الأهم في مسيرته السياسية.
في خلفية كل هذا، يبقى واقعٌ واحدٌ أكيد تفرزه هذه المعطيات، وهو أن إسرائيل لم تكن يومًا بهذه الهشاشة.