ولعل
إحدى أبرز القضايا المثيرة في هذا الإطار، هي قضية رجل الأعمال
الإسرائيلي، موطي مَمان، الذي تُظهر لائحة الاتهام ضده أنه سافر إلى إيران
مرتين، والتقى عناصر المخابرات الإيرانية، وناقش معهم القيام بعمليات أمنية
في إسرائيل، من ضمنها اغتيال شخصيات قيادية إسرائيلية. كان المحّرك لدى
ممان هو المال وبعد ذلك «تورطه»؛ إذ كان قد غرق في الديون، وهو الذي يملك
أكواخاً فندقية، ومخازن للإيجار في «بستان هجليل».
وبالنسبة إلى
الاجتماع الأول مع مجنّده الإيراني، فإن ممان، وفقاً لمحاميه أيال بسرغليك،
«كان مقتنعاً في البداية بأنه اجتماع عمل، ولكن هناك، في أراضي العدو...
ومع ذلك، لم يرد أن يفوّت الفرصة، فوافق على الاستماع إلى المقترح». وعرض
عليه الإيرانيون القيام ببعض المهام السهلة بينها «البريد الميّت» أي وضع
أموال وأسلحة في نقاط معيّنة حتّى يأتي طرف ثالث ويأخذها، وتصوير أماكن
فيها تجمهرات كبيرة، وتهديد «عرب إسرائيليين»، ليرد ممان بأنه سيدرس
المسألة. وعلى رغم أنه عاد مع زوجته إلى إسرائيل، إلا أنه لم يبلغ بما حدث
معه ولا بأنه زار دولةً عدواً، والسبب هو أنه «ساعد في السابق مسؤولين في
الموساد، وعندما احتاج إلى دعمهم تنكّروا له. ولذلك فقد الثقة بهم». وبعد
شهور، دخل ممان مجدداً إلى إيران بالطريقة ذاتها، والتقى هناك مع مشغّله
وإيرانيين آخرين، عرضوا عليه القيام بمهمة أعقد وهي «اغتيال شخصيات
إسرائيلية بينها رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو».
على أن ممان ليس
الوحيد؛ ففي الشهور الأخيرة، كُشفت سبع قضايا مختلفة من النوع نفسه، شملت
20 إسرائيلياً اعتُقلوا حتّى الآن، 14 من ضمنهم متهمون بالبند الأكثر خطورة
وهو مساعدة العدو في زمن الحرب. وإذا كان محرّك بعض المعتقلين هو المال،
وآخرين «الإيغو»، وقسم ثالث الأيديولوجيا، فإن قسماً رابعاً انزلق إلى ذلك
بالتدريج، وفق ما يشرحه إيلان ديامنت، وهو عالم نفس ومختص في القضايا
الأمنية، ويتوافق معه أيضاً المشرف في الشرطة ورئيس القسم في وحدة «لاهاف
433»، مأور غورين، الذي يوضّح أن المحرّك لدى بعض هؤلاء كان أيضاً «عدم
الشعور بالانتماء إلى إسرائيل».
وبحسب ديامنت، فإن المال كان عنصراً
أساسياً في دوافع ممان؛ فعندما وصل إلى إيران للمرة الثانية، كان ينتظره
على الجانب الآخر من الحدود «إيدي» و«حجي»، حيث قال له الأول إن ضابطي
مخابرات من طهران سيأتيان وفي أيديهما «شيك مفتوح» لعملية انتقامية رداً
على اغتيال رئيس حركة «حماس»، إسماعيل هنية، الذي استشهد في إيران. وإذ
وافق ممان على مناقشة المهام، فهو وضع شرطاً لأي إجراء: سِلفة قدرها مليون
دولار. وفي المقابل، تحدّث العملاء عن مبالغ أقل - عدة مئات الآلاف من
الدولارات -، مقترحين استهداف نتنياهو، أو رئيس«الشاباك»، رونين بار، أو
وزير الأمن، يوآف غالانت، لكن ممان قال إن هناك مستوى عالياً للغاية من
الأمن حول تلك الشخصيات في هذه المرحلة؛ فسأله أحدهم: «هل تعرف ماذا يوجد
في رعنانا؟»، في إشارة إلى منزل رئيس الوزراء الأسبق، نفتالي بينت، ليجيب
بأن الأخير «مسؤول سابق، لذلك من المحتمل أن تكون إجراءاته الأمنية أقل».
واستمرت النقاشات حتّى المساء، غير أن ممان لم يتنازل عن المليون دولار،
وانتهى اللقاء من دون توافق.
المال،
كان الدافع الرئيسي أيضاً في حالة فلاديمير فريحوفسكي (35 عاماً)، وهو
يهودي - أوكراني هاجر إلى إسرائيل قبل 8 سنوات، ولم يكن وضعه المالي
جيّداً. وبحسب لائحة الاتهام، فإنه عندما تواصل معه «إيلي» عبر تطبيق
«تليغرام»، شعر بإغراء كبير للقيام بمهام مقابل الحصول على عملات رقمية.
بدأ الأمر في هذه القضية برش كتابات غرافيتي على الجدران في تل أبيب بينها
«نتنياهو = هتلر»، ثم تصوير مشاركين في التظاهرات في تل أبيب بهدف تجنيدهم،
وعندما رأى الجانب الإيراني أن فريحوفسكي يتعاون، قاموا بطلب المزيد منه؛
إذ تلقّى عرضاً بقتل عالم إسرائيلي مقابل مئة ألف دولار، وتهريبه إلى
روسيا. وبالفعل، وصل فريحوفسكي إلى العنوان الذي أعطاه إياه الإيرانيون في
تل أبيب، وبدأ بالبحث عن العالم، حتّى إنه طرق باب بيته وسأل الناس في الحي
عنه، لكنه لم يعثر عليه.
في غضون ذلك، قام الإيرانيون بتشكيل عدّة
شبكات، بينها خلايا لتقصّي البحث عن العالم وجمع معلومات استخبارية أخرى.
وطبقاً لغورين، فإن «كل واحدة من هذه الخلايا عملت على انفراد، ولكن في بعض
الأحيان كانت المهام تتقاطع أو تتكامل، حيث كانوا يطلبون من خلية ما إيصال
معدّات أو مواد إلى خلية أخرى». وفي حالة فريحوفسكي، قيل له عليه تسلم
السلاح من منطقة مفتوحة ما قرب موديعين، وأن ينتظر الأوامر التي ستصله
لاحقاً. وبالفعل، ركب سيارة أجرة، ووصل إلى موديعين، حيث طلب من السائق
انتظاره بضع دقائق، ولما عاد كانت معه حقيبة في داخلها مسدس ومخازن و15
طلقة. وعندما وصل إلى منزله، اعتقله عناصر «الشاباك».
أمّا في قضية
إلميلخ شتيرن (22 عاماً) من «بيت شيمش»، فكان الأمر مختلفاً تماماً، إذ إن
شتيرن حريديٌّ حسيدي، وشخصيته أبعد ما تكون عن عوالم التجسّس. وبحسب لائحة
الاتهام، فإن الأمر بدأ بتعليق إعلانات في الشوارع، مع شعار: «لنقف على
الجانب الصحيح من التاريخ»، ويد ملطّخة بالدماء. وبعد اجتيازه هذه المرحلة
التي لم يعرف فيها أن مشغّله إيراني، كُلّف بمهمة أكبر وهي «إشعال النار في
غابة بالقرب من القدس». وكتب شتيرن حينها إلى صديقه يوناتان، وهو الذي
علّق الإعلانات بالنيابة عنه يقول: «قاموا بترقيتي إلى عضو عادي. أنا
أتحدّث مباشرة إلى رئيسي». ثم أضاف: «لا أستطيع أن أفهم لماذا يريدونني أن
أفعل ذلك». فأجاب يوناتان: «لأنهم مناهضون لإسرائيل. أنت تعرف ذلك».
وبعدئذ، امتنع عن القيام بحرق الغابة.
على أن ثمّة محركاً آخر هو
الأيديولوجيا، وهو أسهل المحرّكات لإقناع المجنّدين. وينطبق ذلك على الخلية
التي أوقفها «الشاباك» في بيت صفافا، وضمّت سبعة مقدسيين أدّوا مهمات
بينها تعليق منشورات، وحرق سيارة، وكذلك محاولة اغتيال عالم نووي إسرائيلي
من «معهد وايزمان»، ولكن «الشاباك» اعتقلهم قبل تنفيذ الاغتيال. لكن انعدام
الأيديولوجيا (أو الانتماء) قد يكون هو الآخر سبباً لتجنيد عملاء، وهذا
على ما يبدو الأمر الذي ساعد الإيرانيين على تجنيد الشبكة الأكثر أهمية على
الإطلاق، والتي تضم سبعة من سكان حيفا ونوف هجليل، جميعهم يهود، وقامت
بأكثر من 600 مهمة في قلب إسرائيل، وزوّدها المشغّلون بأدوات اتصال يصعب
كشفها، وتمكّن أفرادها من تصوير بنى تحتية وقواعد وأماكن حسّاسة ضُربت في
هجوم إيراني. حتّى إن هؤلاء أُرسلوا إلى مواقع تم قصفها، لتفقد الأضرار، في
قواعد لسلاح الجو الإسرائيلي.
وترأّس هذه الشبكة أزيز نيسنوف (43
عاماً)، وهو من حيفا وهاجر إلى إسرائيل من أذربيجان في التسعينيات من القرن
الماضي. وكان يعمل في تفريغ الحاويات في المرفأ قبل أن تُغلق الشركة قبل
عامين، ليواجه صعوبات مادية كبيرة دفعته إلى التواصل مع صديقه الذي يسكن في
أذربيجان. وبحسب التحقيقات، فإن الأخير ربطه بشخص يُدعى إلهان أغاييف، وهو
شخص لديه علاقات مع إيران وبإمكانه مساعدته في الحصول على المال مقابل
القيام بمهام معينة.
كان العملاء السبعة يعرفون أنهم يعملون لصالح
إيران، وقاموا بالاقتراب من جميع المناطق الحسّاسة والقواعد، واشتروا كل
الوسائل التي تساعدهم على القيام بمهامهم وبينها هواتف وحواسيب نقّالة،
وسيارة جيب ساعدتهم في الوصول إلى أماكن وعرة ومرتفعات وتلال مُشرفة لتصوير
القواعد العسكرية وتزويد الإيرانيين بإحداثياتها الدقيقة. وخلال عملهم،
تطوّعوا حتى من تلقاء أنفسهم لتصوير أمور غير مطلوبة. فمثلاً، بينما كانوا
في جولة، شاهدوا منطاد «ندى السماء» التجسّسي، فقاموا بتصويره وأرسلوه إلى
مشغّليهم من دون أن يعرفوا بالضبط ماهية المنطاد الذي دمّره «حزب الله» في
أيار الماضي.