عملت إسرائيل المحتلة بكل قوّتها الطاغية المدعومة من واشنطن والمنظومة الغربية، للانتقام من الفلسطينيين، واسترداد ردعها المهدور، طوال عام مضى، إلا أنها فشلت فشلًا ذريعًا في هزيمة الشعب الفلسطيني، وحركة حماس، والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة الذي تحوّل إلى نزيف حاد في الوعي والردع الإسرائيلي.
هذا الواقع المر دفع إسرائيل للذهاب إلى لبنان؛ بحثًا عن نصر متخيّل، فخطّطت لإيقاع الهزيمة بحزب الله بالضربة القاضية عبر عمليات أمنية معقّدة؛ للتخلص من قيادة الحزب العسكرية والسياسية، لإحداث انهيار مباشر في جسمه، يُفضي إلى حسم المعركة عسكريًا مع الحزب ونزع سلاحه، ومن ثم التأثير على المعادلة السياسية الداخلية للبنان، وإعادة هندسة الشرق الأوسط لاحقًا، كما أعلن وتمنّى بنيامين نتنياهو عقب اغتيال الأمين العام السيد حسن نصر الله في بيروت.
لكن إسرائيل سرعان ما فقدت نشوتها، بعد قيام إيران بضربتها الصاروخية المؤلمة لها في الأوّل من أكتوبر/تشرين الأول، ردًا على اغتيالها كلًا من إسماعيل هنية، وحسن نصر الله. فعادت إسرائيل إلى واقعها المعقّد، بعد أن ذهبت سكرة النصر المتوهّم ضد حزب الله، الذي سرعان ما استعاد زمام السيطرة والمبادرة وبدأ يهاجم إسرائيل بقوّة صاروخية بعمق 40 كيلومترًا شمال فلسطين، ويوقع خسائر فادحة في جنود الاحتلال وضباطه في جنوب لبنان الذي تحوّل إلى وحلٍ لجيش الاحتلال، الذي لم يتمكن إلى اللحظة من احتلال أي منطقة أو قرية وما زال يقاتل على الحافة الأمامية من الحدود اللبنانية الفلسطينية.
لعبة توازن الردع
قامت إسرائيل في 26 أكتوبر/تشرين الأول، بتوجيه ضربة باهتة إلى إيران، مقارنة بما هدّدت به، لا سيّما على لسان وزير حربها يوآف غالانت الذي توعّد إيران بضربة مفاجئة قاتلة غير متوقّعة.
في النهاية، وبعد تحضيرات قاربت الشهر، خضعت تل أبيب للسقف الأميركي الداعي لعدم استهداف البرنامج النووي لإيران ومنشآتها النفطية والاقتصادية، واقتصر ردّها على أهداف عسكرية؛ لتجنب استفزاز إيران واحتمال الدخول في حرب إقليمية أو حلقة من الردود المتبادلة، حتى لا يتأثر مسار الانتخابات الأميركية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، وتجد واشنطن نفسها غارقة في الشرق الأوسط بعيدًا عن مواجهة روسيا والصين الصاعدة عالميًا بقوّة.
استجابة إسرائيل للإرادة الأميركية جاءت لعدة أسباب إضافية أخرى، أهمها:
أولًا: جدّية إيران في الرد على أية ضربة قوية قد تستهدف برنامجها النووي أو منشآتها الاقتصادية والنفطية والبنى التحتية. هذه الجدية بُنيت على قوّة الضربة الأخيرة التي قامت بها إيران ضد أهداف حسّاسة في إسرائيل، ومنها المطارات العسكرية.ثانيًا: تعافي حزب الله من موجة الاغتيالات التي طالت قادته السياسيين والعسكريين، وامتلاكه زمام المبادرة، وتصديه للاجتياح البري الإسرائيلي بنجاح، وتكبيده جيش الاحتلال خسائر فادحة في العدد والعتاد، هذا بالإضافة إلى قيام الحزب بضرب عمق الكيان بموجات صاروخية طالت مواقع عسكرية حتى جنوب حيفا بعمق 40 كيلومترًا بشكل يومي، مع استهداف محيط مدينة تل أبيب بين الفينة والأخرى، ما شكّل تهديدًا رادعًا لإسرائيل في حال أقدمت على ضربة كبيرة لإيران. خاصّة أن التقديرات تشي بأن الحزب ما زال يملك أوراق قوّة على مستوى الإمكانات الصاروخية، والقدرات القتالية غير المستخدمة بعد.
هذا يفسّر دوافع لجوء إسرائيل لضربة محدودة على إيران، ودون المستوى المرتقب، في محاولة منها لترميم الردع دون الحرب الإقليمية، في وقت خسر فيه نتنياهو فرصةَ ضرب البرنامج النووي الإيراني الذي طمح إليه بشراكة أميركية.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن إيران تقدّمت بالنقاط على إسرائيل في معادلة الردع حتى اللحظة.
قراءة واستخلاصات
على وقع ما جرى، يمكن استخلاص ما يلي:
أولًا: إغلاق باب الحرب أو التصعيد مع إيران، ولو مؤقتًا، سيدفع نتنياهو واليمين المتطرف إلى تركيز العمليات العسكرية ضد حزب الله في لبنان، وحركة حماس والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، في محاولة لإنجاز ما يمكن إنجازه قبل وأثناء وبعد الانتخابات الأميركية، وفرضه على الرئيس الأميركي القادم إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025، كسياسة أمر واقع. ولذلك، فمن المرجّح أن تشهد الأشهر الثلاثة القادمة تصعيدًا عسكريًا ضد حزب الله وحركة حماس وعموم المقاومة في المنطقة، لا سيّما إذا كان الفائز في الانتخابات الأميركية دونالد ترامب.ثانيًا: أكّدت الإدارة الأميركية مجدّدًا أنها شريك متورّط في الإبادة الجماعية في قطاع غزة، وفي مجازر الاحتلال في لبنان أيضًا. فكل المبررات التي ساقتها واشنطن حول استقلال القرار الإسرائيلي واهية، ومجرد محاولة لعزل نفسها عن الجريمة. فالإدارة الأميركية إن أرادت ممارسة ضغط حقيقي على إسرائيل تستطيع، والاحتلال سيستجيب؛ فواشنطن هي أنبوب الأكسجين الذي يتنفس منه الاحتلال؛ مالًا وسلاحًا وحماية سياسية. ومنع أميركا نتنياهو وإسرائيل من استهداف المنشآت الاقتصادية والنفطية والبرنامج النووي الإيراني دليل على ذلك؛ فنتنياهو كان وما زال يعتبر البرنامج النووي هدفًا له، وهو المحرّض الأكبر على انسحاب الرئيس دونالد ترامب من اتفاق (1+5) 2015 الخاص بالاتفاق النووي الإيراني، ورفع العقوبات عن إيران.ثالثًا: نجحت إيران في اللعب في الزوايا الضيّقة وعلى حافة الهاوية، حيث امتلكت الجرأة على مهاجمة إسرائيل في اللحظة الحاسمة عبر ضربتها الصاروخية الأخيرة على إسرائيل (الوعد الصادق 2) في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، علاوة على مساعدتها حزب الله على التعافي من ضربة اغتيال القادة، وعودته إلى ميدان المعركة قويًا من جديد أمام إسرائيل.رابعًا: إسرائيل أضعف من أن تقاتل على عدة جبهات حيوية، رغم الدعم الأميركي المفتوح، وكل عنترياتها الإعلامية مجرد حرب نفسية ضد خصومها، واستعراض أمام بعض الأنظمة العربية الصديقة لها، في محاولة منها لتبقى نَمِرًا مهابًا في عيون الآخرين.
واقع الحال يشير إلى أن إسرائيل لم تتعافَ من ضربة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (طوفان الأقصى) وتبعاتها على الجبهات المتعدّدة، وما زالت تعاني من تآكل الردع أمام الشعب الفلسطيني الصامد ومقاومته بقيادة كتائب القسام، وأمام حزب الله اللبناني، والمقاومة في اليمن والعراق، ناهيك عن إيران. وهذا الانكسار في الردع مرشّح للازدياد والتعمّق، كلما طال أمد المعركة، وفشلت إسرائيل في تحقيق أهدافها أمام محور المقاومة.
استمرار الفشل، سيُنزل إسرائيل عن سُلّم ردعها الذهبي الأسطوري، وسيحطّ من قيمتها ومقامها في عيون أصدقائها، كما سيعظّم الخلافات بين اليمين الصهيوني اللاهوتي المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، والمعارضة الليبرالية التي تخشى أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة ثيوقراطية دكتاتورية بفعل الحرب المفتوحة.
هذا سيكون مقدمة لأن تصبح إسرائيل طاردة لأبنائها إذا فقدت الأمن والردع، لا سيّما الليبراليين الأغنياء والمبدعين منهم، الذين لن يروق لهم العيش في بيئة مضطربة أمنيًا وغير مستقرة اقتصاديًا بفعل هرطقات اليمين الصهيوني المتطرف؛ فالردع هو القلعة الحامية لإسرائيل في البداية والنهاية، وانهياره يعني انكشاف إسرائيل في المنطقة المحتقنة منها وعليها.