من المسلّم به أن تختلف رؤية إيران للقضية الفلسطينية عن رؤية الدول العربية لها. ففلسطين وطن لشعب عربي يرتبط مع الشعوب المجاورة بروابط قومية صنعتها وحدة الثقافة والتاريخ المشترك. وعندما أرادت الدول العربية المستقلة نسبياً إنشاء "جامعة الدول العربية" في منتصف أربعينيات القرن الماضي، ولم يكن عددها في ذلك الوقت يزيد عن 7 دول، لم تنسَ الشعب الفلسطيني الذي كان يناضل ضدّ الاحتلال البريطاني والمشروع الصهيوني الاستيطاني معاً، والتزمت بمساعدته إلى أن يتمكّن من تحقيق استقلاله كاملاً، بل ولم تتردّد في خوض الحرب إلى جانبه بمجرد إعلان بن غوريون قيام "دولة إسرائيل" عام 1948. صحيح أن الدول العربية هزمت في تلك الحرب، لكن الصراع بينها وبين الكيان ظل محتدماً وأصبح يطلق عليه مصطلح "الصراع العربي الإسرائيلي"، وليس "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي".
لم تشعر إيران، وكانت واقعة آنذاك تحت حكم أسرة رضا بهلوي، أنها طرف في هذا الصراع، على الرغم من تصويتها ضدّ مشروع قرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، واعتراضها على قبول "إسرائيل" عضواً في الأمم المتحدة عام 1949. فقد راحت العلاقات الإيرانية الإسرائيلية تتحسّن باطراد عقب سقوط حكومة مصدق ونجاح وكالة المخابرات المركزية الأميركية في إعادة تنصيب محمد رضا بهلوي حاكماً على إيران عام 1953، وأصبحت إيران ثاني أكبر دولة إسلامية، بعد تركيا، تعترف بـ "إسرائيل" وتقيم معها علاقات رسمية، وظلت علاقات التعاون بين البلدين تتنامى حتى اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979.
ولأنها كانت ثورة ضد نظام الشاه، وبالتالي ضد الدول التي تربطها به علاقات خاصة، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة و"إسرائيل"، وأيضاً ضد المظلومين والمضطهدين في كل أنحاء العالم، وفي مقدّمتهم الشعب الفلسطيني، فقد كان من الطبيعي أن يبدي النظام الإيراني الجديد تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، وهو ما يفسّر قراره الفوري بقطع العلاقات مع الكيان وتحويل مبنى بعثته الدبلوماسية في طهران إلى مقر لمنظّمة التحرير الفلسطينية.
شاءت الأقدار أن تندلع الثورة الإيرانية بعد أشهر قليلة من توقيع السادات على اتفاقيتي كامب ديفيد، وقبل شهرين فقط من توقيعه على "معاهدة سلام" مع الكيان الصهيوني. وبينما كانت إيران تسعى لتثبيت أقدام نظامها الجديد في الداخل وحماية نفسها من المؤمرات الخارجية، خصوصاً وأنها كانت تخشى من تكرار سيناريو ما جرى لها وفيها عقب ثورة مصدق، كان السادات يستقبل الشاه المخلوع من عرشه والمطرود من شعبه ويحتفي به في القاهرة التي أصرّ على دفنه فيها.
بعبارة أخرى يمكن القول إنه بينما كان النظام الثوري في إيران يسعى جاهداً لقيادة التيار المناهض لمشروع الهيمنة الأميركي والصهيوني في المنطقة، كانت الدولة العربية الأكبر تسعى تحت قيادة السادات لدفع المنطقة نحو الاتجاه المعاكس كلياً. ولا جدال في أنّ انسحاب مصر من معادلة الصراع العسكري مع الكيان ترك فراغاً حاولت القوى المتنافسة على قيادة المنطقة ملأه.
ومن الطبيعي، في سياق كهذا، أن يتصاعد العداء تدريجياً بين إيران والكيان وأن يتجذّر باستمرار، خصوصاً وأن أياً من الدول العربية الوازنة لم يستطع ملء الفراغ الذي تركته مصر، بل إن عدداً لا يستهان به من هذه الدول راح يتخلّى تدريجياً عن القضية الفلسطينية ويطبّع علاقاته مع الكيان، قبل التزام الأخير بقيام دولة فلسطينية مستقلة. كما كان من الطبيعي في الوقت نفسه أن تصبح إيران الثورة، في ظلّ تقاعس النظام الرسمي العربي عن المواجهة العسكرية مع الكيان وعجزه في الوقت نفسه عن إيجاد تسوية سلميّة للقضية الفلسطينية، هي الطرف المؤهّل عملياً لقيادة التيارات السياسية والأيديولوجية المناهضة للهيمنة الصهيونية في المنطقة.
لا توجد بين إيران والكيان الصهيوني حدود مشتركة وتزيد المسافة التي تفصل بين عاصمتيهما عن ألفي كيلومتر، ما يفسّر اعتماد كلّ منهما على ركائز مختلفة في إدارة صراعه مع الطرف الآخر. فاعتمدت إيران في إدارتها للصراع مع الكيان على تطوير قدراتها الذاتية، خاصة في المجالين النووي والصاروخي، من ناحية، وعلى تطوير علاقاتها بحلفائها القريبين منه جغرافياً، خاصة سوريا وحزب الله، من ناحية أخرى.
وقد نجحت بالفعل في إقامة برنامج نووي أصبح حالياً يمتلك من الموارد التقنية والعلمية ما يسمح له بصناعة سلاح نووي خلال فترة قصيرة جداً، إن أراد، وفي إقامة برنامج صاروخي أصبح حالياً يمتلك ترسانة من الصواريخ والمسيّرات تكاد تضارع ما تملكه دول كبرى، كما نجحت أيضاً في إقامة علاقات وثيقة مع حلفائها القريبين من الكيان، خاصة مع حزب الله.
أما الكيان فقد اعتمد في إدارته للصراع مع إيران، بالإضافة إلى حرصه على تطوير قدراته الذاتية ليكون "الدولة" الأقوى في المنطقة كلها، على علاقته الفريدة والمتجذّرة مع الولايات المتحدة، من ناحية، وعلى علاقاته الحديثة والمتنامية مع النظام الرسمي العربي، من ناحية أخرى.
ظلّ الصراع المتنامي بين إيران والكيان يدار لفترة طويلة من الزمن بطريقة تساعد على تجنّب المواجهة المباشرة، خاصة على الصعيد العسكري. غير أن اندلاع "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي خلق سلسلة من التفاعلات والحقائق الجديدة على الأرض فرضت طيّ هذه الصفحة وفتح صفحة جديدة.
فبعد إقدام الكيان على تدمير القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/أبريل الماضي، أقدمت إيران، وللمرة الأولى في تاريخها على شنّ هجوم عسكري مباشر بمئات المسيّرات والصواريخ ليلة 13 – 14 نيسان/أبريل. ومع ذلك يلاحظ أن هذا الهجوم أخذ شكلاً استعراضياً واستهدف إظهار القوة والقدرة وليس استخدامهما، أملاً في أن يرتدع الكيان الذي لم يرتدع وراح يواصل استفزازاته التي تكرّرت إلى أن أقدم يوم 31 تموز /يوليو على اغتيال إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، في قلب العاصمة الإيرانية وأثناء زيارة رسمية له في طهران.
ورغم ما أظهرته إيران من صبر قبل أن تقرّر الردّ على هذه الجريمة البشعة، لعل الجهود الرامية للتوصّل إلى وقف لإطلاق النار في قطاع غزة تثمر، فقد جاء ردّها في 1 تشرين الأول/أكتوبر موجعاً هذه المرة، ما فتح الطريق أمام احتمال تصاعد المواجهة العسكرية المباشرة بينهما، إلى أن تتمّ تسوية الصراع، أو التوصّل إلى نقطة توازن تسمح باستقرار معادلة ردع جديدة بين الطرفين، الأمر الذي يبدو مستبعداً في ظلّ احتدام الحرب المشتعلة حالياً على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية.
دخول إيران طرفاً مباشراً في صراع مسلّح مع الكيان، في وقت يحاول فيه النظام العربي الرسمي الانسحاب كلياً من هذا الصراع، على الأقل في بعده العسكري، يغيّر المعطيات الجيوسياسية لهذا الصراع، ويحيل العلاقة بين إيران ومحور المقاومة إلى علاقة عضوية تكاد تصل إلى وحدة المصير.
فلإيران، والتي تمتلك قدرات عسكرية وتكنولوجية لا يستهان بها، ثقل إقليمي وديموغرافي كبير. ولأنها رأس محور المقاومة، وفي القلب منه فصائل المقاومة الفلسطينية، فسوف يستحيل على الكيان تصفية القضية الفلسطينية طالما ظلّ محور المقاومة قائماً ومتماسكاً، ما يفسّر سعيه لفصل مكوّنات هذا المحور بعضها عن بعض، بل ولتحطيم رأس هذا المحور إن استطاع، وإصراره بالتالي على أن يظل القوة التي تحتكر السلاح النووي في المنطقة.
وفي تقديري أن نتنياهو يريد انتهاز فرصة الحرب المشتعلة حالياً على الجبهتين اللبنانية والفلسطينية، خصوصاً بعد إقدام إيران على تسديد ضربة موجعة للكيان، على تدمير برنامجها الصاروخي وربما برنامجها النووي أيضاً، إن استطاع. ومن هنا اعتقاد البعض في إيران أن الوقت قد حان لتصنع السلاح النووي.
فقد أشارت تقارير صحفية مؤخراً إلى أن 39 نائباً في مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني)، وجّهوا في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2024، رسالة إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، يطالبون فيها بتغيير السياسة الدفاعية للدولة، بالتوازي مع دعوة إلى إعادة النظر في "العقيدة النووية" الخاصة بتحريم إنتاج وتخزين الأسلحة النووية، المستندة إلى فتوى كان الإمام الخميني قد أصدرها عام 2003.
وقد لفت نظر المراقبين في هذا الصدد خروج صحيفة "طهران تايمز" في عددها الصادر في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2024، بعنوان رئيسي جاء على النحو الآتي: "تزايد الدعوة لامتلاك الأسلحة النووية.. العدوان الإسرائيلي غير المقيّد يُغذّي المطالب الشعبية بالحصول على الأسلحة النووية". وإذا صحت هذه التقارير يرجّح أن تكون الأسابيع القليلة المقبلة والمتبقّية على انتخابات الرئاسة الأميركية مفتوحة على كل الاحتمالات، خصوصاً إذا قرّر نتنياهو توجيه ضربة قوية إلى إيران تمسّ برنامجها النووي أو الصاروخي أو مواردها النفطية. ففي هذه الحالة سيكون على إيران أن تردّ بقوة أكبر، وستكون الحرب الإقليمية هي الخطوة التالية.
يبدو أن نتنياهو لم يدرك بعد أن دخول إيران طرفاً مباشراً في الصراع المسلّح مع الكيان يشكّل معضلة لن يكون بمقدوره تجاوزها، طال الزمن أم قصر.