من السابع عشر من أيلول/ سبتمبر وحتى السابع والعشرين منه، عشرة أيام عجاف هزّت لبنان والإقليم برمته، وكانت كفيلة بزعزعة دول وهزّ عروش وممالك... من "غزوة البيجر" إلى اغتيال السيد الشهيد حسن نصر الله، وما تلا الواقعتين من مسلسل اغتيالات واختراقات في العمق، ظنّ الكثيرون، وفي مقدمهم بنيامين نتنياهو وأركان حكومة الفاشيين الجدد، وبعض ذيولهم في لبنان والمنطقة، أن الشرق الأوسط قد دان لهم، وأنه بات ليّناً يمكن إعادة تشكيله على صورة ومقاس أطماعهم وأحلامهم السوداء، لكن قدرة الحزب الفائقة على التعافي المبكر، ونجاحه في استرداد زمام المبادرة، قد بدآ يلقيان بظلال كثيفة وكئيبة من الشك، حول قدرة أصحاب هذه الأحلام السوداء على ترجمتها و"تقريشها"، ومع كل رشقة صواريخ تنطلق صوب أهدافها في في شمال فلسطين ووسطها، ومع كل وجبة من القتلى والمصابين العائدين بالمروحيات إلى المستشفيات الإسرائيلية، تتقلص دائرة الرهانات وينخفض سقف التوقعات، وما زالت الكلمة للميدان، وما زال الميدان سيد الموقف.
وفي ظني، وليس كل الظن إثماً، أن حزب الله مقبل على الانتقال من مرحلة التعافي إلى مرحلة استرداد ميزان الردع، وإن لم يكن الظن في محلّه، فأحسب أنها رسالة للحزب وقيادته الجديدة، بأن مرحلة توجيه "الرسائل" إلى العدو والصديق، قد انتهت، وأن المعركة باتت معركة حسم، وأن ما يمكن أن يجنيه اليوم، باستخدام فائض قوته، قد لا يتحصّل عليه في الغد، وإذا كان لا بد من إيلام العدو، فليكن الآن وهنا، قبل أن تفقد أوراق القوة، بعض أو كل فاعليتها.
بين جبهتين
وأحسب أن ثمة ما يغري على المقارنة والمقاربة بين ساحتين من "وحدة الساحات": غزة ولبنان ... ففي غزة، ينعقد الرهان على سقوط المقاومة واستسلامها، وكلما سقط قائد تكاثرت التكهنات بقرب سقوط المقاومة وارتفاع الرايات البيض... أعنف معارك جباليا ورفح وشمال غزة، وقعت بعد رحيل القائد الشهيد يحيى السنوار... فيما المقاومة اللبنانية، أعلنت عن ولوج عتبات مرحلة جديدة من التصاعد والتصعيد، بعد رحيل كوكبة من قادتها السياسيين والميدانيين الكبار، في مقدمهم الشهيد الأمين العام.... في غزة، تتكثف المؤامرات تحت عنوان "اليوم التالي"، وثمة "يوم تال" للبنان كذلك.... يوم غزة التالي، فيه بقايا من سلطة رام الله، وشبكة أمان إبراهيمية، وحضور إسرائيلي أمني وعسكري، ومظلة دولية برعاية أميركية، على جثة حماس وأنقاض القطاع... يوم لبنان التالي، يراد له أن يستعيد بعضاً من صور 17 أيار، ورئاسة منصّبة من واشنطن و"تل أبيب"، وبمقاسات "الشريط الحدودي"، و1701 معدلاً، بما ينسجم مع مشاريع الاستباحة الإسرائيلية.
يوم غزة التالي، يراد له أن يكون "خالياً" من حماس، ليس نتنياهو وحده من يطالب بذلك، بل ثمة عرب وفلسطينيون يعيدون إنتاج العبارات ذاتها، ولكن بلسان عربي غير مبين... ويوم لبنان التالي، لا مطرح فيه لسلاح حزب الله، ولا وجود لمقاتليه وكوادره العسكرية، لا جنوب الليطاني ولا شماله.... وثمة عرب ولبنانيون، يرددون باللسان ذاته، ما يقوله بعبرية فصحى نتنياهو وغالانت، ويردده بلكنة أميركية آموس هوكستين.
قلنا ونقول لهم من جديد: غزة لا تحكم بحماس، ولكن لا حكم لغزة من دون حماس، هذه هي المعادلة الأولى بالرعاية إن أريد لهذه الحرب أن تضع أوزارها... وفي لبنان، حزب الله لم يحكم البلد، كان لاعباً أساسياً من بين نصف دزينة من اللاعبين متفاوتي الأوزان والأحجام، بيد أن لبنان لن يحكم من دون حزب الله، ومن يظن بغير ذلك، فهو واهم ومشتبه.
ظنوا أن لبنان بجنوبه وبقاعه وضاحيته، وغزة بشمالها وجنوبها ومعابرها وممراتها، سيكونان بوابتهم إلى شرق أوسط جديد، والشرق الأوسط حين يراد له أن يكون جديداً، فمعنى ذلك أنه يتعين تقليع أظفار إيران وأنيابها، وليس تقليمها وتشذيبها فحسب، وأنياب إيران لا تتمثل فقط، بمروحة حلفائها الممتدة من اليمن إلى العراق وسوريا وصولاً إلى الشواطئ الشرقية للمتوسط، بل وتكمن أساساً في عمقها، وعلى ضفاف قزوين، في برنامجيها النووي والصاروخي... الحرب مع إيران لم تبدأ بعد، وإن كانت وشيكة للغاية، ومن الحمق الجزم بمصائر الحرب ونتائجها، حتى قبل أن تنطلق الصواريخ والطائرات من منصاتها ومرابضها... فلمَ التسرّع في استعجال النتائج، وبناء الاستراتيجيات، ما دام الاستمهال يمكن أن يوصل إلى شواطئ الأمان.
المعركة تكتيكياً، لا تميل موازينها لصالح المقاومتين في لبنان وفلسطين وحلفائهما، لكن ملامحها على المدى الاستراتيجي لم تتضح بعد، وثمة دلائل على أن المقاومة التي نجحت في امتصاص الهزات المُزلزلة، قادرة على فرض الاستنزاف متعدد الجبهات، والمحمّل بما جآت تكتيكية، كفيلة برفع كلفة إدامة الحرب واستمرارها، وفي ظني أن المفتاح وكلمة السر في استراتيجية المقاومة، هما الاستنزاف، على قاعدة الصمود والثبات، ومن منطلق أن الراية البيضاء، لم تكن خياراً من قبل ولن تكون من بعد.
الفاشيون الجدد في "تل أبيب"، لا يكفون عن إطلاق وابل التهديد والوعيد، ويتوسعون في فتح جبهات الحرب والقتال، ويتهددون سوريا من بعد لبنان – وربما من قبله – في استعادة تكاد صورة طبق الأصل، لما فعله الفاشيون القدامى الذين أعمتهم غطرستهم واستعلاؤهم، عن فهم وإدراك حدود قوتهم وحدود قوة خصومهم... الغطرسة والاستعلاء، يعميان نتنياهو وأركان حكومته، عن رؤية الفواصل بين الممكن والمستحيل في إدارة هذه الحرب، وتحمّل أكلافها، وما قد يترتب على توسيع مدياتها ونطاقاتها، من أثمان وفواتير، في البشر والحجر والثمر، وقد لا يستفيق القوم من سكرات المنجز السريع، إلا بعد فوات الأوان.
لسنا في ما نذهب إليه منفصلين عمّا يلحق ببيئات المقاومة في لبنان وفلسطين من أذى ودمار، لكن كل فلسطيني وكل لبناني، من بيئة المقاومة على الأقل، يدرك أتم الإدراك، أن العدو لم يترك خياراً آخر غير خيار الصمود والثبات، وأن كلفة الهزيمة والاستسلام ستكون أشد فداحة من فاتورة الدم التي يتعين دفعها، وأن الحرب التي فرضت على البلدين والشعبين، باتت حرب وجود، لا تنفع معها تسويات تعيد النازحين إلى ضفتي الحدود، أو تفرج عن أسرى ومحتجزين.
نحن إزاء استحقاقين قريبين، سيكون لكل منهما ما بعده، لجهة تقرير وجهة هذه الحرب واتجاهات تطورها:
الأول؛ الضربة الإسرائيلية لإيران، ورد الأخيرة عليها.... هنا، سيتضح ما إذا كانت هذه الحرب، ستتوقف بـ"الضربة القاضية الفنية" أم أنها ستتواصل استنزافاً و"حرب مدن"، إلى أن تنضج صفقة الحل على نار ساخنة، وهذه الحرب، كما كل الحروب، تنتهي على موائد التفاوض، مباشراً كان أم عبر الوسطاء والوساطات.
والثاني؛ انتخابات الخامس من نوفمبر الرئاسية الأميركية، واتضاح هوية الساكن الجديد للبيت الأبيض، حيث ستبني الأطراف المختلفة على نتائج الانتخابات، مقتضاها... وسنكون أمام عامل تغيير بالغ الأهمية، من شأنه أن يطلق ديناميات جديدة في الإقليم، تطرب لها أطراف، وتتخوف منها أطراف أخرى.
وإلى أن ينجلي غبار الاستحقاقين، ويتضح الدخان الأبيض من الدخان الأسود، فليس منظوراً أن تضع الحرب على أي من جبهاتها القريبة أو البعيدة أوزارها... أما حركة الموفدين، من عرب وأجانب، إلى لبنان والمنطقة والعواصم ذات الصلة، فليست سوى "حركة بلا بركة"، أو ربما جولات انتخابية يقوم بها المرشحون للرئاسيات الأميركية في غير الولايات المتأرجحة.