وبالفعل، كان يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر عام 2023، أكبر ممّا يتصوّر الاحتلال الإسرائيلي أو يستوعبه وضربة استراتيجية وتاريخية على المستويين الأمني والسياسي لـ "تل أبيب".
ففي غضون أوّل 20 دقيقة فقط من بدء المعركة، استفاقت "إسرائيل" على استهداف المقاومة الفلسطينية في ضربة أولى، مواقع ومطارات وتحصينات عسكرية للاحتلال، بأكثر من 5 آلاف صاروخ وقذيفة، بالتزامن مع تسلل المقاومين الفلسطينيين إلى مستوطنات "غلاف غزة" عبر السياج الحدودي وعبر وحدات الضفادع البشرية من البحر، إضافةً إلى مظليين من فوج "صقر".
وهكذا، في دقائق معدودة، انهار الردع الإسرائيلي برّاً وجواً وبراً، واهتزّ بنيان الاستخبارات الإسرائيلية، وهُجّر مستوطنو الغلاف، وصُدم الداخل.. كيف حدث ذلك؟ كيف استطاعت مُقاومة مُحاصرة من كلّ جانب، وتحت المراقبة المتواصلة، أن تفعل ما فعلت؟ وأن تأسر أكثر من 200 جندي ومستوطن؟
هذه الصدمة المهينة بالنسبة إلى الاحتلال، دفعته إلى الجنون، وجعلته يضع أهدافاً واهية لحربه، مثل "القضاء على حماس" وإبعادها عن السلطة، وتهجير الفلسطينيين من أرضهم، واستعادة الأسرى من خلال الضغط العسكري.
صمود أسطوري
لكن في نظرةٍ شاملةٍ على أرض الواقع بعد عام من المواجهة، فشل "جيش" الاحتلال في تحقيق هذه الأهداف باعتراف المسؤولين الإسرائيليين أنفسهم على المستويين العسكري والسياسي. فهو بعد سنة من الحرب، لا يزال يواجه مقاومة شرسة ومستبسلة، والتي لا تزال، على الرغم من كل الدمار والوحشية الإسرائيلية، والضغط السياسي والحصار، تُري المحتل المفاجآت والويلات، بصمودها في الميدان، وبتسطيرها البطولات من مسافة صفر، وتنفيذها الكمائن النوعية، وباشتباكها وتصدّيها في مختلف محاور القتال، كما أنّ الاحتلال لم يستطع أن يستعيد أسراه، ولا أن يدفع حماس نحو المساومة على حقوق الشعب الفلسطيني في المفاوضات، ولم يحقق هدفه بتهجير الشعب من أرضه. وقد دفع إخفاق الاحتلال في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة، إلى التوحّش وارتكاب أقسى المجازر.
كانت المقاومة تعلم أنّ مثل هكذا عملية كبيرة، ستكون لها أثمانٌ وتضحيات عظيمة، في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية، مع مواجهة عدو لا خطوط حمر لديه، ولا قوانين ولا أعراف دولية، لكنّها كانت تدرك، وبيئتها، أنّ ذلك ضريبة لا مهرب منها في سبيل التحرير والتحرر من الاحتلال والاستعمار.
وعليه، صمدت المقاومة والغزيون، في وجه كل الضغوط، وتمسكوا بالأرض والتراب وبالحطام والرماد، وبذلوا الدم وآلاف الأرواح والجراح، وتحملوا، ولا زالوا يتحملون، شظف العيش وأهوال القصف المتواصل، والمجاعة والحصار، فداءً للأقصى وفلسطين. ولولا احتضان الشعب الفلسطيني لمقاوميه وأبطاله. ولولا صمودهم هذا في وجه عدوان الاحتلال وإبادته الشاملة، ورفضهم لمخططات التهجير إلى خارج القطاع، لما استطاع المقاومون أن يصمدوا.
وحدة الساحات
وفي خضمّ كل ذلك، لم تُترك غزة وحدها، بل فتحت "طوفان الأقصى" الباب على مصراعيه أمام مقاومي الأمة الأحرار للالتحام بمقاومي فلسطين ومناضليها كخطوة على طريق تحرير. فكان أوّل المنضمين إلى المعركة المقاومة الإسلامية في لبنان – حزب الله، التي سارعت في اليوم التالي من بدء الطوفان، إلى إطلاق جبهة الإسناد اللبنانية عبر استهداف مواقع وتحشدات الاحتلال في الأراضي اللبنانية المحتلة، ثم توسعت العمليات لتشمل المستوطنات الشمالية، ما أدى إلى تهجير مئات آلاف المستوطنين، وتكبد الاحتلال خسائر فادحة.
تأثير الجبهة اللبنانية ضمن وحدة الساحات وفعاليتها، دفع الاحتلال إلى شن عدوان موسع على لبنان، طال الجنوب والبقاع والشمال وجبل لبنان والضاحية الجنوبية لبيروت، وبيروت أيضاً.
وباستشهاد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وغيره من القادة البارزين في عدوان الاحتلال على لبنان، أوهم الاحتلال نفسه بأنه حقق نصراً، فباشر في عملية عسكرية جنوبي البلاد، ظناً منه أنّه بذلك سيقضي على المقاومة في لبنان، وسيضغط عليها من أجل فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة. لكن سرعان ما أتاه الجواب من الميدان، بمواصلة التصدي لتوغلات الاحتلال، وبتوسيع نطاق نيران الصواريخ، التي وصلت في الذكرى السنوية الأولى للحرب، إلى حيفا.
وبعد جبهة لبنان، باشر اليمن أيضاً بحصار "إسرائيل" عبر إغلاق البحرين العربي والأحمر أمام السفن المتوجهة نحو موانئ فلسطين المحتلة وضرب تلك التي تخرق هذا القرار، لترتقي القوات المسلحة اليمنية بعدها درجة درجة بمعركة الإسناد عبر توسيع نطاق حصارها البحري لتشمل المحيط الهندي والبحر المتوسط، والتوجه براً عبر استهداف "تل أبيب"، و"إيلات" وعمق كيان الاحتلال.
كما انضمّت إليها المقاومة الإسلامية في العراق، عبر ضرب أهداف حيوية في إيلات وحيفا وأهداف حيوية أخرى، دعماً للشعب الفلسطيني وإسناداً لمقاومته، وأيضاً المقاومة في البحرين في عملية نحو عمق كيان الاحتلال، عدا عن جبهة الضفة التي ظلت مشتعلة.
وبالميدان والسياسة برز الدور الإيراني الداعم لفلسطين وبالإضافة إلى عمليتي "الوعد الصادق 1" و"الوعد الصادق 2" وما تلقاه الاحتلال من ضربات في العمق، كان لإيران معركتها السياسية والدبلوماسية في دعم فلسطين بكافة أشكال الدعم.
أما سوريا، فقد كان لها دور مميز في دعم "طوفان الأقصى" ، فهي جزء لا يتجزأ من محور المقاومة وأحد أعمدته. ولأن الاحتلال يدرك جيداً تأثير هذا الدور شن ولا يزال سلسلة اعتداءات متتالية، أدت إلى شهداء وجرحى.
عندها، وجدت "إسرائيل" نفسها، وسط حرب متعددة الجبهات، وهو واقع كانت تخاف وتحذر منه، إذ ضاعف ذلك من إخفاقاتها، ومزّق ردعها أكثر فأكثر.
القضية الفلسطينية قضية عالمية
ولم تتوقف تبعات ملحمة "طوفان الأقصى" على كيان الاحتلال عند هذا الحد، بل وجدت "إسرائيل" نفسها منبوذةً بين شعوب العالم، بعد سنوات طويلة من محاولات تبييض صورتها الملطخة بالدماء عبر أبواق الإعلام الغربي والعربي، ومحاولات توسيع اتفاقيات التطبيع التي خفت وهجها لما يسببه ذلك من إحراج للدول، وذلك مع خروج تظاهرات واسعة في الدول العربية والغربية ضد الحرب والإبادة الجماعية التي تمارسها "إٍسرائيل" في غزة، كان أبرزها تظاهرات الجامعات في الولايات المتحدة الأميركية، الداعم والشريك الأول للاحتلال في حربه ومجازره في غزة والمنطقة.
وقد تزامن ذلك مع رفع دولة جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد "إسرائيل" أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك التزاماتها بموجب اتفاقية منع جرائم الإبادة الجماعية.
ومع انضمام دول أخرى -بينها نيكاراغوا وإسبانيا- إلى الدعوى المذكورة في تثبيت الاتهام، وجد رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نفسه ووزيرالأمن يوآف غالانت نفسيهما في دائرة الخطر مرةً أخرى، مع مطالب مدعي عام المحكمة الجنائية كريم خان باعتقالهما بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
وفي خطوة أوروبية لافتة، أعلنت أيرلندا وإسبانيا والنرويج رسمياً الاعتراف بدولة فلسطين، لتصبح الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية 147 دولة من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة.
ماذا بعد 7 أكتوبر؟
كل مجرى الأحداث هذا، يؤكّد أنّنا ذاهبون نحو تغيير تاريخي وجذري في المنطقة، وفي اصطفافات الدول، ومصالحها وتحالفاتها. فبدا واضحاً وجلياً، مع استمرار المجازر الإسرائيلية، وتوسّعها، أنّنا نخوض مع المقاومة معركة وجودية وتحررية، مع عدو مدعوم من الولايات المتحدة والقوى الغربية، التي تشارك في سفك الدماء والمجازر، من أجل تثبيت مصالحها وقواعدها لدينا، حتى يتسنى لها أن تسيطر على عقولنا وأراضينا وخيراتنا أكثر فأكثر.
ما جرى في 7 أكتوبر، وما يجري منذ ذلك الوقت، يدل على أنّ مقاومة شعوب المنطقة للمحتلين والمستعمرين، لم تعد خياراً أو ترفاً، بل واجباً وحقاً مشروعاً، في سبيل صناعة عصر جديد لأجيال قادمة. فالدماء التي تعبّد اليوم أرجاء فلسطين ولبنان واليمن والعراق، تمهّد لنا طريقاً محتم علينا، بدايته صعبة ومؤلمة تحتاج صبراً وقوة وعزيمة، لكن نهايته ستكون النصر والانفراجة الكبرى، حيث ستفشل كل الرهانات على القضاء على محور المقاومة، كما فشلت سابقاً. وستبقى المقاومة وأهلها، حتى يطلع علينا فجرٌ جديد في المسجد الأقصى، من دون حواجز أو حدود.