وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـ ابنا ـ قال العلّامة الشبراوي الشافعي عن الإمام الحسن العسكري (ع): "الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري... ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر (عج) من أولاده، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار...
الإمام الحسن العسكري (ع) في سطور..وانطباعات عن شخصيته (ع)
نسبه الشريف
هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).
وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وأُمه اُم ولد يقال لها: حديث، أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات. وذكر سبط بن الجوزي: أنّ اسمها سوسن.
محل الولادة وتاريخها
ولد الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (ع) ـ كما عليه أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة (232هـ) من الهجرة النبويّة المشرفة في المدينة المنوّرة.
ألقابه (ع) وكُناه
اُطلق على الإمامين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر.
و(العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام).
وكان يكنّى بابن الرضا ، كأبيه وجدّه، وكنيته التي اختص بها هي: (أبو محمّد).
ملامحـه
وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله : إنّه أسمر أعين حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة، وقيل: إنّه كان بين السمرة والبياض.
النشأة وظروفها
نشأ الإمام أبو محمّد (ع) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وقد ظفر الإمام أبو محمّد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ...}، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.
وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (ع) يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة، فكان يوليه أكبر اهتمامه ، ولقد أشاد الإمام الهادي (ع) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:"أبو محمّد ابني أصحّ آل محمّد غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها"، والإمام الهادي (ع) بعيد عن المحاباة والإندفاع العاطفي مثله في ذلك آباؤه المعصومون.
وقد لازم الإمام أبو محمّد (ع) أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والإعتداء، وانتقل الإمام العسكري (ع) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حيث كتب المتوكل إليه في الشخوص من المدينة، وذلك حينما وُشي بالإمام الهادي (ع) عنده، حيث كتب إليه عبد الله بن محمّد بن داود الهاشمي: "يذكر أنّ قوماً يقولون إنّه الإمام ـ أي عليّ الهادي (ع) ـ فشخص عن المدينة وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلمّا كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سُرَّ من رأى".
وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الإمامة بعده، وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار (ع) وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة، قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) فتكون مدة إمامته (ع) ست سنين.
وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العبّاسية منه ومن دوره الفاعل في الأُمّة، لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن المنقول التاريخي عن الإمام العسكري (ع) في ظل حياة والده الإمام عليّ الهادي (ع) ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمام(ع) الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأُمّة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.
غير أنّ مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى اُمور مهمّة من حياة الإمام العسكري(ع)، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقوله(ع): "ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ".
وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ(ص) والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها، أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجّة به على الخواص والثقات من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس.
انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكري(ع)
احتلّ أهل البيت (ع) المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين، لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوى والعبادة، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسول(ص) في الحث على التمسّك بهم والأخذ عنهم.
والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسول(ص) على رسالته كما قال تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
غير أنّ الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأُمّة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأُمّة عنهم بمختلف الوسائل والطرق، ثم ختموا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ.
ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسول(ص) بأهل البيت (ع) لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية على امتداد تأريخها بعد وفاة الرسول(ص) حتى عصر الإمام الحسن العسكري(ع).
وقد حُجب عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم، إما خشية من السلطان، أو لأنّ من كتب تاريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية اُموية ومداد عبّاسي; لأنه قد عاش على فتات موائد الحكام المستبدّين.
ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمام(ع) وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيّة جميع من عاصره من رجال وعلماء الأُمّة الإسلامية.
1 ـ شهادة المعتمد العبّاسي
كانت منزلة الإمام معروفة ومشهورة لدى الخاصة والعامة، كما كانت معلومة لدى خلفاء عصره.
فقد روي أنّ جعفر بن عليّ الهادي(ع) طلب من المعتمد أن ينصّبه للإمامة ويعطيه مقام أخيه الإمام الحسن(ع) بعده، فقال له المعتمد: "إعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت بالله عزّوجل، ونحن كنا نجتهد في حطِ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك ، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً".
2 ـ شهادة طبيب البلاط العبّاسي
كان بختيشوع ألمع شخصية طبية في عصر الإمام الحسن العسكري(ع)، فهو طبيب الأُسرة الحاكمة، وقد احتاج الإمام ذات يوم الى طبيب فطلب من بختيشوع أن يرسل إليه بعض تلامذته ليقوم بذلك، فاستدعى أحد تلاميذه وأوصاه أن يعالج الإمام(ع) وحدّثه عن سموّ منزلته ومكانته العالية، ثم قال له: «طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء ، فاحذر أن تعترض عليه في ما يأمرك به".
3 ـ أحمد بن عبيد الله بن خاقان
كان عامل الخراج والضياع في كورة قم، وأبوه عبيدالله بن خاقان أحد أبرز شخصيات البلاط السياسية وكان وزيراً للمعتمد، وكان أحمد بن عبيدالله أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لأهل البيت (ع).
وينقل أحمد هذا قصة شهدها في مجلس أبيه إذ دخل عليه حُجّابه فقالوا له: أبو محمّد ابن الرضا ـ أي الإمام العسكري(ع) ـ بالباب فقال بصوت عال: إئذنوا له، فقال أحمد: فتعجبت ممّا سمعت منهم، إنّهم جسروا يكنّون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكنَّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خُطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دخل عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه.
وتبيّن الرواية أنّ أحمد بقي متعجباً متحيراً حتى كان الليل، فلمّا صلّى أبوه وجلس، جاء وجلس بين يديه، فقال: ياأحمد لك حاجة ؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت.
قلت: يا أبه مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال: يابني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن عليّ المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة ثمّ قال: يابني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
4 ـ راهب دير العاقول
وكان من كبراء رجال النصرانية وأعلمهم بها، لمّا سمع بكرامات الإمام(ع) ورأى ما رآه ، أسلم على يديه وخلع لباس النصرانية ولبس ثياباً بيضاء.
ولما سأله الطبيب بختيشوع عما أزاله عن دينه، قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده ـ يعني بذلك الإمام الحسن العسكري(ع) ـ قال : وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره... وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إلى الإمام ولزم خدمته إلى أن مات.
5 ـ محمّد بن طلحة الشافعي
قال عن الإمام الحسن العسكري(ع):
"فأعلم المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصه الله عزّ وجلّ بها وقلّده فريدها ومنحه تقليدها وجعلها صفة دائمة لا يُبلي الدهر جديدها ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها، أنّ المهدي محمّد نسله، المخلوق منه ، وولده المنتسب إليه، وبضعته المنفصلة عنه".
6 ـ ابن الصباغ المالكي
قال: إنّه "سيّد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكانه الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى ومبين غوامضها، فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب مظهر الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأُمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه ، بمحمد(ص)آمين".
7 ـ العلّامة الشبراوي الشافعي
قال عنه : "الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري... ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر (عج) من أولاده، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار... فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك (السماء ـ خل) علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلة ومحلاً واستغرق صفات الكمال، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلاّ ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه...".
الى أقوال كثيرة غيرها في فضله صرح بها الفقهاء والمؤرخون والمحدثون من العامة والخاصة ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو فرع الرسول(ص) وأبو الإمام المنتظر والحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم عدل القرآن كما ورد عن الرسول(ص) وهم سفينة النجاة، وقد شهد له أبوه الإمام الهادي(ع) بسموّ مقامه ورفعة منزلته بقوله الخالد: "أبو محمّد ابني أنصح آل محمّد غريزة وأوثقهم حجّة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها ، فما كنت سائلي فسله عنه ، فعنده ما يُحتاج إليه".
..................
انتهى / 232
الإمام الحسن العسكري (ع) في سطور..وانطباعات عن شخصيته (ع)
نسبه الشريف
هو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (ع).
وهو الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع) الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
وأُمه اُم ولد يقال لها: حديث، أو سليل، وكانت من العارفات الصالحات. وذكر سبط بن الجوزي: أنّ اسمها سوسن.
محل الولادة وتاريخها
ولد الإمام أبو محمّد الحسن العسكري (ع) ـ كما عليه أكثر المؤرخين ـ في شهر ربيع الآخر سنة (232هـ) من الهجرة النبويّة المشرفة في المدينة المنوّرة.
ألقابه (ع) وكُناه
اُطلق على الإمامين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ (العسكريّان) لأنّ المحلة التي كان يسكنها هذان الإمامان ـ في سامراء ـ كانت تسمى عسكر.
و(العسكري) هو اللقب الذي اشتهر به الإمام الحسن بن عليّ (عليه السلام).
وكان يكنّى بابن الرضا ، كأبيه وجدّه، وكنيته التي اختص بها هي: (أبو محمّد).
ملامحـه
وصف أحمد بن عبيد الله بن خاقان ملامح الإمام الحسن العسكري بقوله : إنّه أسمر أعين حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، له جلالة وهيبة، وقيل: إنّه كان بين السمرة والبياض.
النشأة وظروفها
نشأ الإمام أبو محمّد (ع) في بيت الهداية ومركز الإمامة الكُبرى، ذلك البيت الرفيع الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيراً.
وقد ظفر الإمام أبو محمّد بأسمى صور التربية الرفيعة وهو يترعرع في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ...}، ذلك البيت الذي رفع كلمة الله لتكون هي العليا في الأرض وقدّم القرابين الغالية في سبيل رسالة الله.
وقطع الإمام الزكي شوطاً من حياته مع أبيه الإمام الهادي (ع) يفارقه في حلّه وترحاله، وكان يرى فيه صورة صادقة لمُثل جدّه الرسول الأعظم، كما كان يرى فيه أبوه أنّه امتداد الرسالة والإمامة، فكان يوليه أكبر اهتمامه ، ولقد أشاد الإمام الهادي (ع) بفضل ابنه الحسن العسكري قائلاً:"أبو محمّد ابني أصحّ آل محمّد غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها"، والإمام الهادي (ع) بعيد عن المحاباة والإندفاع العاطفي مثله في ذلك آباؤه المعصومون.
وقد لازم الإمام أبو محمّد (ع) أباه طيلة عقدين من الزمن وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والإعتداء، وانتقل الإمام العسكري (ع) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حيث كتب المتوكل إليه في الشخوص من المدينة، وذلك حينما وُشي بالإمام الهادي (ع) عنده، حيث كتب إليه عبد الله بن محمّد بن داود الهاشمي: "يذكر أنّ قوماً يقولون إنّه الإمام ـ أي عليّ الهادي (ع) ـ فشخص عن المدينة وشخص يحيى بن هرثمة معه حتى صار إلى بغداد، فلمّا كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب إسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سُرَّ من رأى".
وكان استشهاد والده (سنة 254هـ) وتقلّد الإمامة بعده، وكانت فترة إمامته أقصر فترة قضاها إمام من أئمة أهل البيت الأطهار (ع) وهم أصح الناس أبداناً وسلامة نفسيّة وجسديّة، قد استشهد وهو بعد لمّا يكمل العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان استشهاده في سنة (260هـ) فتكون مدة إمامته (ع) ست سنين.
وهذه المدة القصيرة تعكس لنا مدى رعب حكّام الدولة العبّاسية منه ومن دوره الفاعل في الأُمّة، لذا عاجلوه بعد السجن والتضييق بدس السم له وهو لم يزل شاباً في الثامنة أو التاسعة والعشرين من عمره الميمون.
ولا بدّ من الإشارة إلى أن المنقول التاريخي عن الإمام العسكري (ع) في ظل حياة والده الإمام عليّ الهادي (ع) ومواقفهما لا يتعدى الولادة والوفاة والنسب الشريف وحوادث ومواقف يسيرة لا تتناسب ودور الإمام(ع) الذي كان يتمثل في حفظ الشريعة والعمل على إبعاد الأُمّة عن الانحراف ومواجهة التحديات التي كانت تواجهها من قبل أعداء الإسلام.
غير أنّ مجموعة من الروايات التي نقلها لنا بعض المحدثين تشير إلى اُمور مهمّة من حياة الإمام العسكري(ع)، وقد أشار الإمام العسكري نفسه إلى صعوبة ظرفه بقوله(ع): "ما مُنيَ أحد من آبائي بمثل ما مُنيتُ به من شك هذه العصابة فيّ".
وهذا شاهد آخر على حراجة الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تحيط بالإمامين العسكريين عليّ بن محمّد والحسن بن عليّ(ص) والتي كانت تحتم إبعاد الإمام العسكري من الأضواء والاتصال بالعامة إلاّ في حدود يسمح الظرف بها، أو تفرضها ضرورة بيان منزلته وإمامته وعلو مكانته وإتمام الحجّة به على الخواص والثقات من أصحابه، كل ذلك من أجل الحفاظ على حياته من طواغيت بني العباس.
انطباعات عن شخصية الإمام الحسن العسكري(ع)
احتلّ أهل البيت (ع) المنزلة الرفيعة في قلوب المسلمين، لما تحلّوا به من درجات عالية من العلم والفضل والتقوى والعبادة، فضلاً عن النصوص الكثيرة الواردة عن الرسول(ص) في الحث على التمسّك بهم والأخذ عنهم.
والقرآن الكريم ـ كما نعلم ـ قد جعل مودّة أهل البيت وموالاتهم أجراً للرسول(ص) على رسالته كما قال تعالى: {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
غير أنّ الحكّام والخلفاء الذين تحكّموا في رقاب الأُمّة بالسيف والقهر حاولوا طمس معالمهم وإبعاد الأُمّة عنهم بمختلف الوسائل والطرق، ثم ختموا أعمالهم بقتلهم بالسيف أو بدس السمّ.
ومع كل ما فعله الحكّام المنحرفون عن خطّ الرسول(ص) بأهل البيت (ع) لم يمنعهم ذلك السلوك العدائي من النصح والإرشاد للحكّام وحل الكثير من المعضلات التي واجهتها الدولة الإسلامية على امتداد تأريخها بعد وفاة الرسول(ص) حتى عصر الإمام الحسن العسكري(ع).
وقد حُجب عنّا الكثير من مواقفهم وسِيَرهم، إما خشية من السلطان، أو لأنّ من كتب تاريخنا الإسلامي إنّما كتبه بذهنية اُموية ومداد عبّاسي; لأنه قد عاش على فتات موائد الحكام المستبدّين.
ونورد هنا جملة من أقوال وشهادات معاصري الإمام(ع) وانطباعاتهم عن شخصيّته النموذجيّة التي فاقت شخصيّة جميع من عاصره من رجال وعلماء الأُمّة الإسلامية.
1 ـ شهادة المعتمد العبّاسي
كانت منزلة الإمام معروفة ومشهورة لدى الخاصة والعامة، كما كانت معلومة لدى خلفاء عصره.
فقد روي أنّ جعفر بن عليّ الهادي(ع) طلب من المعتمد أن ينصّبه للإمامة ويعطيه مقام أخيه الإمام الحسن(ع) بعده، فقال له المعتمد: "إعلم أنّ منزلة أخيك لم تكن بنا، إنّما كانت بالله عزّوجل، ونحن كنا نجتهد في حطِ منزلته والوضع منه ، وكان الله يأبى إلاّ أن يزيده كل يوم رفعة بما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة، فإنْ كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك ، لم نغنِ عنك في ذلك شيئاً".
2 ـ شهادة طبيب البلاط العبّاسي
كان بختيشوع ألمع شخصية طبية في عصر الإمام الحسن العسكري(ع)، فهو طبيب الأُسرة الحاكمة، وقد احتاج الإمام ذات يوم الى طبيب فطلب من بختيشوع أن يرسل إليه بعض تلامذته ليقوم بذلك، فاستدعى أحد تلاميذه وأوصاه أن يعالج الإمام(ع) وحدّثه عن سموّ منزلته ومكانته العالية، ثم قال له: «طلب مني ابن الرضا من يفصده فصر إليه، وهو أعلم في يومنا هذا بمن تحت السماء ، فاحذر أن تعترض عليه في ما يأمرك به".
3 ـ أحمد بن عبيد الله بن خاقان
كان عامل الخراج والضياع في كورة قم، وأبوه عبيدالله بن خاقان أحد أبرز شخصيات البلاط السياسية وكان وزيراً للمعتمد، وكان أحمد بن عبيدالله أنصب خلق الله وأشدهم عداوة لأهل البيت (ع).
وينقل أحمد هذا قصة شهدها في مجلس أبيه إذ دخل عليه حُجّابه فقالوا له: أبو محمّد ابن الرضا ـ أي الإمام العسكري(ع) ـ بالباب فقال بصوت عال: إئذنوا له، فقال أحمد: فتعجبت ممّا سمعت منهم، إنّهم جسروا يكنّون رجلاً على أبي بحضرته، ولم يكنَّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى، فدخل رجل أسمر حسن القامة، جميل الوجه، جيّد البدن، حدث السن، له جلالة وهيبة، فلمّا نظر إليه أبي قام فمشى إليه خُطى ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقوّاد، فلمّا دخل عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه.
وتبيّن الرواية أنّ أحمد بقي متعجباً متحيراً حتى كان الليل، فلمّا صلّى أبوه وجلس، جاء وجلس بين يديه، فقال: ياأحمد لك حاجة ؟ قلت: نعم يا أبه، فإن أذنت لي سألتك عنها، فقال: قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت.
قلت: يا أبه مَن الرجل الذي رأيتك بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل، وفديته بنفسك وأبويك؟
فقال: يابني ذاك إمام الرافضة، ذاك الحسن بن عليّ المعروف بابن الرضا، فسكت ساعة ثمّ قال: يابني لو زالت الخلافة عن خلفاء بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا، وإنّ هذا ليستحقّها في فضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً.
4 ـ راهب دير العاقول
وكان من كبراء رجال النصرانية وأعلمهم بها، لمّا سمع بكرامات الإمام(ع) ورأى ما رآه ، أسلم على يديه وخلع لباس النصرانية ولبس ثياباً بيضاء.
ولما سأله الطبيب بختيشوع عما أزاله عن دينه، قال: وجدت المسيح وأسلمت على يده ـ يعني بذلك الإمام الحسن العسكري(ع) ـ قال : وجدت المسيح؟! قال: أو نظيره... وهذا نظيره في آياته وبراهينه، ثم انصرف إلى الإمام ولزم خدمته إلى أن مات.
5 ـ محمّد بن طلحة الشافعي
قال عن الإمام الحسن العسكري(ع):
"فأعلم المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصه الله عزّ وجلّ بها وقلّده فريدها ومنحه تقليدها وجعلها صفة دائمة لا يُبلي الدهر جديدها ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها، أنّ المهدي محمّد نسله، المخلوق منه ، وولده المنتسب إليه، وبضعته المنفصلة عنه".
6 ـ ابن الصباغ المالكي
قال: إنّه "سيّد أهل عصره وإمام أهل دهره، أقواله سديدة وأفعاله حميدة، وإذا كانت أفاضل زمانه قصيدة فهو في بيت القصيدة، وإن انتظموا عقداً كان مكانه الواسطة الفريدة، فارس العلوم الذي لا يجارى ومبين غوامضها، فلا يحاول ولا يمارى، كاشف الحقائق بنظره الصائب مظهر الدقائق بفكره الثاقب المحدث في سره بالأُمور الخفيات الكريم الأصل والنفس والذات تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه ، بمحمد(ص)آمين".
7 ـ العلّامة الشبراوي الشافعي
قال عنه : "الحادي عشر من الأئمة الحسن الخالص ويلقب أيضاً بالعسكري... ويكفيه شرفاً أنّ الإمام المهدي المنتظر (عج) من أولاده، فللّه در هذا البيت الشريف والنسب الخضم المنيف وناهيك به من فخار وحسبك فيه من علو مقدار... فيا له من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماك (السماء ـ خل) علاً ونبلاً، وسما على الفرقدين منزلة ومحلاً واستغرق صفات الكمال، فلا يستثنى فيه بغير ولا بإلاّ ، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة، انتظام اللآلي وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم والله يرفعه...".
الى أقوال كثيرة غيرها في فضله صرح بها الفقهاء والمؤرخون والمحدثون من العامة والخاصة ، ولا عجب في ذلك ولا غرابة فهو فرع الرسول(ص) وأبو الإمام المنتظر والحادي عشر من أئمة أهل البيت (ع)، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً وهم عدل القرآن كما ورد عن الرسول(ص) وهم سفينة النجاة، وقد شهد له أبوه الإمام الهادي(ع) بسموّ مقامه ورفعة منزلته بقوله الخالد: "أبو محمّد ابني أنصح آل محمّد غريزة وأوثقهم حجّة وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عُرى الإمامة وأحكامها ، فما كنت سائلي فسله عنه ، فعنده ما يُحتاج إليه".
..................
انتهى / 232