وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل لصلاح أمور الناس وليتم التأسيس لحياة مستقرة ومجتمع متضامن ليمكنهم من أن يعيشوا متآخين ومتحابين، وأي مجتمع لا يمكن أن تستقيم حياته بدون وجود قيادة تنظم حياة الأفراد وتسهر على مصالحهم وتمنع الخروج عن حدود شرع الله، ولهذا ألزم القرآن الكريم الجميع بالسمع والطاعة لهذه القيادة ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ))، وقد بين القرآن الحكيم بعض سمات القيادة الصالحة التي ينبغي ان يتولى أمور الناس حيث يقول سبحانه وتعالى ((إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )) ويقول الحق أيضاً في مورد آخر((وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)).
فسعة العلم والشجاعة والإقدام والإيمان الراسخ وغيرها صفات يتمتع بها الحاكم أياً كان المجتمع الذي يحكمه مسلماً أم غيره وعلى الناس السمع والطاعة له بما يمكنه من تحقيق مقاصد الشرع المقدس، ولكن المشكلة إن الدولة الإسلامية شهدت بعد النبي "ص" العديد من الصراعات المسلحة لأسباب شتى وفي عهد خلافة الإمام علي ظهر الخلاف بأجلى صوره وخاض الخليفة ثلاثة حروب رئيسة كانت ساحتها العراق والمناطق المحيطة به خلفت انشقاقاً في جسد الدولة وخروج أحد الولايات عن السلطة المركزية تمثلت في الشام التي بقيت بإمرة معاوية، وبعد وفاة الإمام علي التف الناس حول الإمام الحسن عليه السلام وبويع للخلافة وما لبث أن اصطدم من جديد بمعسكر الشام بإمرة معاوية بن أبي سفيان، وعسكر كل طرف بمكان معين وكادت الحرب ان تقع، ولكن الإمام الحسن عليه السلام بعد أن استقرأ الظروف المحيطة بالحرب عموماً وجيشه خصوصاً وما ستؤول إليه الأوضاع سار باتجاه قبول الصلح وغلب المسار الدبلوماسي على الخيار الحربي، والدافع إلى ذلك هو حفظ المصالح الضرورية وتغليبها ونكران الذات وعدم الانجرار الى حرب لمجرد الرغبة في الرئاسة.
وعند النظر إلى بنود الصلح الذي وقع بين الحسن ومعاوية نجد إن الصلح تركز على نقاط بعينها يمكن أن نستجلي منها أسمى آيات إنكار الذات بالتنازل عن السلطة ممن هو على رأسها والزهد بمغرياتها للنأي بالمجتمع عن حالة الحرب والانقسام والسير باتجاه التعايش السلمي بين مكونات المجتمع كافة، كما نلتمس من وثيقة الصلح التذكير ببعض المفاهيم الإسلامية التي انتهكت وأراد الحسن من إدراجها إحيائها والتذكير بها بوصف مخالفتها لا تتفق مع ما يراد للمجتمع الإسلامي أن يكون عليه، وقد تضمن الصلح بنود نعرض لبعضها كالآتي:
أولاً: البند الأول:
تسليم أمر الخلافة إلى معاوية بشرط العمل بكتاب الله وسنّة رسوله، والقراءة المعاصرة لهذا الشرط تكشف عن بعد النظر الذي تمتع به الإمام الحسن عليه السلام فهو يشترط على الجانب الآخر ضمان حقوق الأمة المسلمة جميعاً فحين يتم ألزم من يتولى سلطة الحكم بالعمل بالدستور الإسلامي الممثل بالقرآن الكريم وسنة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، ففي ذلك ضمانة لمصلحة الأمة ومحاولة جادة لحفظ كيان الدولة الإسلامية القانوني، وتحذير من الخروج على القواعد القانونية التي تمنح القرارات والسياسات التي سينتهجها ويتخذها الحاكم الشرعية، فالصراع بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية لا يمكن وصفه بأنه صراع من أجل الرئاسة أو النفوذ، إنما هو صراع أيدلوجي بين منطلقات وثوابت الإمام الحسن المنبثقة من مصلحة الدين والعباد وصلاح الأمة امتثالاً لأوامر الله سبحانه وتعالى إذ يقول في محكم كتابه العزيز "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" ويوثق القرآن ضرورة العمل بأوامر الله والرسول "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" وبين ما يريده الجانب الآخر من الترأس على الناس وبسط سلطته بكل الوسائل، كما ونستشف من شرط الحسن أيضاً موقفاً إنسانياً نبيلاً متمثلاً بتذكير الطرف الآخر بحقوق وحريات الأفراد المسلمين وغير المسلمين ممن يقطنون في البلاد الواقعة تحت حكم الدولة وضرورة التعامل معهم بما يحفظ إنسانيتهم والمساواة بينهم وصون كرامتهم فمقاصد الدين الإسلامي معروفة للقاصي والداني تتمثل بحفظ الدين والنفس والمال والنسل والعمل بغير القرآن والسنة النبوية الكريمة لن يحقق للمحكومين ذلك.
ويبدو إن معاوية وقع على العهد وهو يعترف بأنه لا يعمل بالقرآن والسنة وإلا لكان أعترض على الإمام الحسن عليه السلام وطلب رفع هذا البند من العهد، ودليل ذلك إن استقراء سيرة هذا الرجل بشكل منصف تدل على انه كان لا ينصف بين الناس وساد في ظل حكومته الفساد وانتهكت الحرمات بما يخالف ما تسالم عليه مع الحسن عليه السلام، وليس ما تقدم بالغريب فرغبات معاوية أفصح عنها بنفسه بعد أن تم الصلح فقال صراحة انه لم يقاتل أهل العراق ليصوموا أو يصلوا أو ما شاكل بل ليتأمر عليهم بأي وسيلة كانت .
ثانياً: البند الثاني
تضمن "أن تكون الخلافة من بعد معاوية للإمام الحسن، فإن حدث به حدث فلأخيه الإمام الحسين عليهما السلام، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد" وهذا النص يشير إلى إن الحسن كان يتحسب لمنع معاوية من تغيير نظام إسناد السلطة في الدولة المسلمة بعد رسول الله "ص" ويحاول منعه من تحويل الأمر إلى وراثة في أسرة معينة وضرورة إرجاع للأصلح فالأصلح ومن هو الأكثر ملائمة لتولي زمام السلطة، كما أن المنطق المجرد يفرض على الجميع تسليم السلطة للأكفأ من المسلمين ليأمن الناس على دينهم ودنياهم، والنص المتقدم في وثيقة الصلح يمنع الحاكم من أن يتدخل في اختيار من سيخلفه لما قد يخالط رأيه من هوى أو ميل لعصبية فيختار للرئاسة شخصاً غير مؤهل لتولي زمام السلطة فيكون بذلك قد ضيع حقوق الرعية لهذا اشترط عليه الإمام الحسن أن لا يعهد معاوية بالأمر لأحد وأخذ منه المواثيق الغليظة على الالتزام بما ورد في وثيقة الصلح، إلا إن الأخير ما لبث أن خالف جميع ما تم الاتفاق عليه وعهد بالسلطة لابنه يزيد فشهدت الدولة ونظام الحكم فيها انحرافاً أخلاقياً خطيراً تمثل بمخالفة المواثيق التي يقول القرآن عنها "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا"، فحين يخالف من يدعي الإسلام ويقف على قمة رئاسة الدولة المسلمة القرآن فهذا يكشف للعامة والخاصة ان الانحراف عن مقاصد الشرع والقانون من قبل ذوي السلطة والسلطان ليس بالأمر الجديد رغم تحذير القرآن للمسلمين عموماً والمعاهدين خصوصا حيث يقول الحق سبحانه "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ".
ثالثاً: البند الثالث
تضمن قاعدة قرآنية جاءت إدراجها في صلب الوثيقة الخاصة بالصلح ان الطرف الآخر اعتاد على مخالفتها فتم التأكيد عليها لعل وعسى لا يصار إلى مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى في المستقبل بلا سبب معقول فقد اشترط على الطرف الآخر أن يترك سبّ أمير المؤمنين علي عليه السلام وبالخصوص في قنوت الصلاة، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير" وما سنة السب واللعن في الصلاة إلا بدعة اعتاد عليها معاوية منذ حرب صفين مخالفاً بذلك أوامر الحق سبحانه الذي يقول "وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" ويذكر إن الإمام علي عليه السلام في واقعة صفين بلغه أن بعض أصحابه يلعنون ويسبون فبعث خلفهم وأحضرهم أمامه وأمرهم بما هو خير وقال فيما قال لهم (ولو قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، ويرعوى عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَهج بِهِ، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيّ).
رابعاً: البند الرابع
تضمن مسألة مالية تتصل بالحق في الضمان الاجتماعي لأسر المحتاجين وممن قتل في جيش المسلمين في الحروب التي قادها الإمام علي (ع) وبالخصوص من بني هاشم للخشية من حرمانهم وإنكار مساواتهم مع بقية المسلمين، كما اشترط الإمام الحسن عليه السلام أن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل وصفين المال كتعويض عما لحقهم من أضرار نتيجة قتل ذويهم في الحرب، وهذا الشرط يبدو انه مقصود للتذكير بأن هؤلاء قد يتعرضون للتنكيل من قبل معاوية بوصفهم قد حاربوه أو حاربوا بني أمية في الجمل وبما أنهم من الأناس العزل فلابد أن تكفل لهم الدولة الضمان الاجتماعي للتخفيف من آلامهم، ومن جهة أخرى يكشف لنا هذا البند التأكيد على حق المعارضة في الدولة للسلطة الحاكمة وأن على السلطة ان لا تتعسف مع من يخالفها الرأي بل تبقي باب النقد والاعتراض على سياساتها مفتوحاً وبخلافه ستتحول إلى سلطة غاشمة تنكل بالمخالفين وتقطع سبل الحياة الكريمة عن ذويهم لتمنع الناس من مجرد التفكير بمخالفة الحاكم سواءً أكان على خطأ أم على صواب.
خامساً: البند الخامس
"إن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما صدر من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة وحقد، وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت الرسول "ص" غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق" فكتب معاوية جميع ذلك بخطّه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكّدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، وهذا الشرط في الصلح يعبر عن الرغبة في إتمام الحجة على الطرف الأخر فبعد أن ذكره البند الأول بضرورة التزام بكتاب الله وسنة النبي(ص) جاء التفصيل بضرورة حماية وحقن دماء المسلمين وعدم التعرض للناس بحجة المعارضة السياسية لحكم معاوية، فالله سبحانه وتعالى أرسى للمسلم وغير المسلم الحق في الحياة وحرية الفكر والعقيدة إذ يقول الحق سبحانه وتعالى "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ".
والصلح بايراده هذا البند البديهي يبدو أنه تحسب لما سيقدم عليه الطرف الآخر في المستقبل وبذلك تتم الحجة على الناس ليعرفوا مقدار الاستهانة بحياة المسلمين وأموالهم وأعراضهم من قبل الحكام فكل كلمة من هذا البند انتهكت جهاراً نهاراً فقد سيرت الجيوش لليمن والحجاز وتم التنكيل بالناس بشكل فض وقتل الآلاف منهم بلا أي ذنب أو مسوغ في الوقت الذي يقول فيه الإمام الحسن (ع) بعد الصلح للناس وبحضور معاوية ما نصه (أيها الناس إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وإنكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين وقد علمتم إن الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم من الضلالة ورفعكم به من الجهالة وأعزكم بعد الذلة وأكثركم بعد القلة وإن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه ورأيت أنَّ حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلحكم وبقاءكم وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).
كما وأقدم معاوية بعد حين على التحضير لإغتيال الإمام الحسن وهو ما تم بالفعل باستعمال دس السم، وما تقدم من سلوكيات تكشف الانحراف في بوصلة الحكم الإسلامي الذي أراد له الله والرسول أن يكون مثالاً تقتدي به الأمم في احترام النفس والعرض والمال وكفالة حق المعارضة بكل تجلياتها السياسية وغيرها لتتحول الرئاسة إلى مغنم يتم تداوله وراثياً اشباعاً للنزوات والرغبات الشخصية فحسب.
..................
انتهى / 232
فسعة العلم والشجاعة والإقدام والإيمان الراسخ وغيرها صفات يتمتع بها الحاكم أياً كان المجتمع الذي يحكمه مسلماً أم غيره وعلى الناس السمع والطاعة له بما يمكنه من تحقيق مقاصد الشرع المقدس، ولكن المشكلة إن الدولة الإسلامية شهدت بعد النبي "ص" العديد من الصراعات المسلحة لأسباب شتى وفي عهد خلافة الإمام علي ظهر الخلاف بأجلى صوره وخاض الخليفة ثلاثة حروب رئيسة كانت ساحتها العراق والمناطق المحيطة به خلفت انشقاقاً في جسد الدولة وخروج أحد الولايات عن السلطة المركزية تمثلت في الشام التي بقيت بإمرة معاوية، وبعد وفاة الإمام علي التف الناس حول الإمام الحسن عليه السلام وبويع للخلافة وما لبث أن اصطدم من جديد بمعسكر الشام بإمرة معاوية بن أبي سفيان، وعسكر كل طرف بمكان معين وكادت الحرب ان تقع، ولكن الإمام الحسن عليه السلام بعد أن استقرأ الظروف المحيطة بالحرب عموماً وجيشه خصوصاً وما ستؤول إليه الأوضاع سار باتجاه قبول الصلح وغلب المسار الدبلوماسي على الخيار الحربي، والدافع إلى ذلك هو حفظ المصالح الضرورية وتغليبها ونكران الذات وعدم الانجرار الى حرب لمجرد الرغبة في الرئاسة.
وعند النظر إلى بنود الصلح الذي وقع بين الحسن ومعاوية نجد إن الصلح تركز على نقاط بعينها يمكن أن نستجلي منها أسمى آيات إنكار الذات بالتنازل عن السلطة ممن هو على رأسها والزهد بمغرياتها للنأي بالمجتمع عن حالة الحرب والانقسام والسير باتجاه التعايش السلمي بين مكونات المجتمع كافة، كما نلتمس من وثيقة الصلح التذكير ببعض المفاهيم الإسلامية التي انتهكت وأراد الحسن من إدراجها إحيائها والتذكير بها بوصف مخالفتها لا تتفق مع ما يراد للمجتمع الإسلامي أن يكون عليه، وقد تضمن الصلح بنود نعرض لبعضها كالآتي:
أولاً: البند الأول:
تسليم أمر الخلافة إلى معاوية بشرط العمل بكتاب الله وسنّة رسوله، والقراءة المعاصرة لهذا الشرط تكشف عن بعد النظر الذي تمتع به الإمام الحسن عليه السلام فهو يشترط على الجانب الآخر ضمان حقوق الأمة المسلمة جميعاً فحين يتم ألزم من يتولى سلطة الحكم بالعمل بالدستور الإسلامي الممثل بالقرآن الكريم وسنة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله، ففي ذلك ضمانة لمصلحة الأمة ومحاولة جادة لحفظ كيان الدولة الإسلامية القانوني، وتحذير من الخروج على القواعد القانونية التي تمنح القرارات والسياسات التي سينتهجها ويتخذها الحاكم الشرعية، فالصراع بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية لا يمكن وصفه بأنه صراع من أجل الرئاسة أو النفوذ، إنما هو صراع أيدلوجي بين منطلقات وثوابت الإمام الحسن المنبثقة من مصلحة الدين والعباد وصلاح الأمة امتثالاً لأوامر الله سبحانه وتعالى إذ يقول في محكم كتابه العزيز "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ" ويوثق القرآن ضرورة العمل بأوامر الله والرسول "وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" وبين ما يريده الجانب الآخر من الترأس على الناس وبسط سلطته بكل الوسائل، كما ونستشف من شرط الحسن أيضاً موقفاً إنسانياً نبيلاً متمثلاً بتذكير الطرف الآخر بحقوق وحريات الأفراد المسلمين وغير المسلمين ممن يقطنون في البلاد الواقعة تحت حكم الدولة وضرورة التعامل معهم بما يحفظ إنسانيتهم والمساواة بينهم وصون كرامتهم فمقاصد الدين الإسلامي معروفة للقاصي والداني تتمثل بحفظ الدين والنفس والمال والنسل والعمل بغير القرآن والسنة النبوية الكريمة لن يحقق للمحكومين ذلك.
ويبدو إن معاوية وقع على العهد وهو يعترف بأنه لا يعمل بالقرآن والسنة وإلا لكان أعترض على الإمام الحسن عليه السلام وطلب رفع هذا البند من العهد، ودليل ذلك إن استقراء سيرة هذا الرجل بشكل منصف تدل على انه كان لا ينصف بين الناس وساد في ظل حكومته الفساد وانتهكت الحرمات بما يخالف ما تسالم عليه مع الحسن عليه السلام، وليس ما تقدم بالغريب فرغبات معاوية أفصح عنها بنفسه بعد أن تم الصلح فقال صراحة انه لم يقاتل أهل العراق ليصوموا أو يصلوا أو ما شاكل بل ليتأمر عليهم بأي وسيلة كانت .
ثانياً: البند الثاني
تضمن "أن تكون الخلافة من بعد معاوية للإمام الحسن، فإن حدث به حدث فلأخيه الإمام الحسين عليهما السلام، وليس لمعاوية أن يعهد بها إلى أحد" وهذا النص يشير إلى إن الحسن كان يتحسب لمنع معاوية من تغيير نظام إسناد السلطة في الدولة المسلمة بعد رسول الله "ص" ويحاول منعه من تحويل الأمر إلى وراثة في أسرة معينة وضرورة إرجاع للأصلح فالأصلح ومن هو الأكثر ملائمة لتولي زمام السلطة، كما أن المنطق المجرد يفرض على الجميع تسليم السلطة للأكفأ من المسلمين ليأمن الناس على دينهم ودنياهم، والنص المتقدم في وثيقة الصلح يمنع الحاكم من أن يتدخل في اختيار من سيخلفه لما قد يخالط رأيه من هوى أو ميل لعصبية فيختار للرئاسة شخصاً غير مؤهل لتولي زمام السلطة فيكون بذلك قد ضيع حقوق الرعية لهذا اشترط عليه الإمام الحسن أن لا يعهد معاوية بالأمر لأحد وأخذ منه المواثيق الغليظة على الالتزام بما ورد في وثيقة الصلح، إلا إن الأخير ما لبث أن خالف جميع ما تم الاتفاق عليه وعهد بالسلطة لابنه يزيد فشهدت الدولة ونظام الحكم فيها انحرافاً أخلاقياً خطيراً تمثل بمخالفة المواثيق التي يقول القرآن عنها "وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا"، فحين يخالف من يدعي الإسلام ويقف على قمة رئاسة الدولة المسلمة القرآن فهذا يكشف للعامة والخاصة ان الانحراف عن مقاصد الشرع والقانون من قبل ذوي السلطة والسلطان ليس بالأمر الجديد رغم تحذير القرآن للمسلمين عموماً والمعاهدين خصوصا حيث يقول الحق سبحانه "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ".
ثالثاً: البند الثالث
تضمن قاعدة قرآنية جاءت إدراجها في صلب الوثيقة الخاصة بالصلح ان الطرف الآخر اعتاد على مخالفتها فتم التأكيد عليها لعل وعسى لا يصار إلى مخالفة أوامر الله سبحانه وتعالى في المستقبل بلا سبب معقول فقد اشترط على الطرف الآخر أن يترك سبّ أمير المؤمنين علي عليه السلام وبالخصوص في قنوت الصلاة، وأن لا يذكر علياً إلاّ بخير" وما سنة السب واللعن في الصلاة إلا بدعة اعتاد عليها معاوية منذ حرب صفين مخالفاً بذلك أوامر الحق سبحانه الذي يقول "وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ" ويذكر إن الإمام علي عليه السلام في واقعة صفين بلغه أن بعض أصحابه يلعنون ويسبون فبعث خلفهم وأحضرهم أمامه وأمرهم بما هو خير وقال فيما قال لهم (ولو قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ، وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ، وَدِمَاءَنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ، ويرعوى عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَهج بِهِ، لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيّ).
رابعاً: البند الرابع
تضمن مسألة مالية تتصل بالحق في الضمان الاجتماعي لأسر المحتاجين وممن قتل في جيش المسلمين في الحروب التي قادها الإمام علي (ع) وبالخصوص من بني هاشم للخشية من حرمانهم وإنكار مساواتهم مع بقية المسلمين، كما اشترط الإمام الحسن عليه السلام أن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل وصفين المال كتعويض عما لحقهم من أضرار نتيجة قتل ذويهم في الحرب، وهذا الشرط يبدو انه مقصود للتذكير بأن هؤلاء قد يتعرضون للتنكيل من قبل معاوية بوصفهم قد حاربوه أو حاربوا بني أمية في الجمل وبما أنهم من الأناس العزل فلابد أن تكفل لهم الدولة الضمان الاجتماعي للتخفيف من آلامهم، ومن جهة أخرى يكشف لنا هذا البند التأكيد على حق المعارضة في الدولة للسلطة الحاكمة وأن على السلطة ان لا تتعسف مع من يخالفها الرأي بل تبقي باب النقد والاعتراض على سياساتها مفتوحاً وبخلافه ستتحول إلى سلطة غاشمة تنكل بالمخالفين وتقطع سبل الحياة الكريمة عن ذويهم لتمنع الناس من مجرد التفكير بمخالفة الحاكم سواءً أكان على خطأ أم على صواب.
خامساً: البند الخامس
"إن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما صدر من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، وأن لا يأخذ أهل العراق بأحنة وحقد، وعلى أمان أصحاب علي حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة علي بمكروه، وأنّ أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت الرسول "ص" غائلة سراً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق" فكتب معاوية جميع ذلك بخطّه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكّدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشام، وهذا الشرط في الصلح يعبر عن الرغبة في إتمام الحجة على الطرف الأخر فبعد أن ذكره البند الأول بضرورة التزام بكتاب الله وسنة النبي(ص) جاء التفصيل بضرورة حماية وحقن دماء المسلمين وعدم التعرض للناس بحجة المعارضة السياسية لحكم معاوية، فالله سبحانه وتعالى أرسى للمسلم وغير المسلم الحق في الحياة وحرية الفكر والعقيدة إذ يقول الحق سبحانه وتعالى "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا"، "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ".
والصلح بايراده هذا البند البديهي يبدو أنه تحسب لما سيقدم عليه الطرف الآخر في المستقبل وبذلك تتم الحجة على الناس ليعرفوا مقدار الاستهانة بحياة المسلمين وأموالهم وأعراضهم من قبل الحكام فكل كلمة من هذا البند انتهكت جهاراً نهاراً فقد سيرت الجيوش لليمن والحجاز وتم التنكيل بالناس بشكل فض وقتل الآلاف منهم بلا أي ذنب أو مسوغ في الوقت الذي يقول فيه الإمام الحسن (ع) بعد الصلح للناس وبحضور معاوية ما نصه (أيها الناس إن أكيس الكيس التقى وأحمق الحمق الفجور وإنكم لو طلبتم بين جابلق وجابرس رجلاً جده رسول الله ما وجدتموه غيري وغير أخي الحسين وقد علمتم إن الله هداكم بجدي محمد فأنقذكم من الضلالة ورفعكم به من الجهالة وأعزكم بعد الذلة وأكثركم بعد القلة وإن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمت وتحاربوا من حاربت، فرأيت أن أسالم معاوية وأضع الحرب بيني وبينه ورأيت أنَّ حقن الدماء خير من سفكها ولم أرد بذلك إلا صلحكم وبقاءكم وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين).
كما وأقدم معاوية بعد حين على التحضير لإغتيال الإمام الحسن وهو ما تم بالفعل باستعمال دس السم، وما تقدم من سلوكيات تكشف الانحراف في بوصلة الحكم الإسلامي الذي أراد له الله والرسول أن يكون مثالاً تقتدي به الأمم في احترام النفس والعرض والمال وكفالة حق المعارضة بكل تجلياتها السياسية وغيرها لتتحول الرئاسة إلى مغنم يتم تداوله وراثياً اشباعاً للنزوات والرغبات الشخصية فحسب.
..................
انتهى / 232