وقد بدا واضحاً من مواقف قيادة المقاومة وتحليل عملياتها وأعمالها انطلاقاً
من لبنان أنّ هذه العمليات تتمّ وفقاً لقواعد واستراتيجيّة مدروسة وخدمة
لأهداف محدّدة، أوضحتها قيادة المقاومة بوصف الجبهة من حيث طبيعتها جبهة
مساندة للجبهة الرئيسيّة القائمة في قطاع غزة، وأنّ استراتيجيّة العمل هنا
هي «الضغط المرن المنسق مع الجبهة الرئيسية»، وبالتالي فإنّ الحرب التي
تخاض عبرها هي «حرب مقيّدة» بالمكان والوسيلة والأهداف والمناورة تتمّ
وفقاً للإيقاع في جبهة غزة، أيّ أنها لا ترمي للذهاب الى الحرب المفتوحة
الشاملة أو ما يُتعارف على تسميته بالحرب الكبرى، مع البقاء على جهوزيّة
للدخول فيها إذا فرضها العدو.
وهنا كان لزوم الردّ على مَن يطرح السؤال لماذا تجنّب الحرب الكبرى طالما
أنّ العدو فتح في قطاع غزة باباً لها وأعلن بوضوح أنه هناك ذاهب لاجتثاث
المقاومة من القطاع. والجواب هنا حدّد بعضه السيد حسن نصرالله ويستكمل
الباقي منه من مجريات الأحداث وعناصر المشهد، ففي كلمته الأخيرة أعلن السيد
وبكلّ وضوح انّ محور المقاومة يربح أو يسجل او يراكم الإنجازات بالنقاط
لأنه لم يصل بعد أو أن الظروف لم تتهيّأ للربح بالضربة القاضية.
أما في المشهد فيكفي أن نتابع كيف تقاطر قادة الغرب الأوروبي الأميركي الى
«إسرائيل» بعد عملية طوفان الأقصى، وكيف فتحت خزائن المال ومخازن السلاح
والذخيرة وأقيمت الجسور الجوية لنقلها الى «إسرائيل» وكيف حشدت القوى
والأساطيل في البحر المتوسط للدفاع عن «إسرائيل» واحتضانها، ويكفي أن ننظر
الى كلّ ذلك لنعرف أنّ ساعة الحرب الكبرى التي تؤذن بزوال «إسرائيل» في
الميدان انّ هذه الساعة لم تدقّ بعد. وفي ظلّ ذلك يفرض المنطق العمل بما هو
ممكن ومتاح أو قابل للتحقق، فما هو؟
لقد حققت المقاومة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إنجازاً عسكرياً
استراتيجياً بهجوم أسطوري مزلزل ضدّ مراكز عسكرية ومستوطنات «إسرائيلية» في
غلاف غزة، وانقلب دورها بعد ذلك الى مهمة الدفاع عن النفس ومنع العدو من
حجب هذا الانتصار، وعليه فإنّ الخطة أو الاستراتيجية الواجبة الاعتماد هي
الدفاع المباشر عن النفس في قطاع غزة بقدر ما هو ممكن وتتيحه الظروف
والإمكانات، مقروناً بالضغط المساند من جبهات أخرى لتكوين أعباء تثقل كاهل
العدو فيخفّف ضغطه عن القطاع وترفع من احتمالات صمود المقاومة وتطيل من أمد
هذا الصمود وتقصّر من قدرة لعدو على البقاء في الميدان، ولا يكون ذلك إلا
بتهيئة أو إنتاج بيئة عملانية تجبر العدو على توزيع قواته على أكثر من جبهة
وتشتت جهوده وتخلق متاعب له تشغله ولو جزئياً عن جبهته الأساسية. وفي هذا
الإطار نفهم ما يجري على الاتجاهات الأساسيّة الثلاثة (فلسطين، لبنان
واليمن) ويُضاف إليها الاتجاه الرابع ضدّ الاحتلال الأميركي في العراق
وسورية.
فعلى الجبهة الرئيسية في قطاع غزة أبدعت المقاومة بتحضير الأرض وتخطيط
الدفاع مسبقاً وتمكّنت من زجّ العدو في ميدان فقد السيطرة عليه وجعلته
مرتبكاً مختلّ التوازن يعاني من قتال صعب شديد الضراوة أوصله بعد 40 يوماً
من القتال الفعلي للاعتراف بأنه خسر ربع قوى لواء غولاني وهو اللواء الذي
يُعتبر نخبة النخبة في الوحدات العسكريّة الخاصة لجيش العدو الإسرائيلي.
إعلان توقفت عنده الأنظار واستوجب التحليل الذي في أقلّه القول إنّ 40
يوماً من القتال أودت بربع القوة القتالية للنخبة وانّ الوصول الى الثلث
يستوجب فقط قتالاً لأسبوعين تصبح بعدها التشكيلات العاملة في قطاع غزة خارج
الميدان عملاً بالقاعدة التي تقول إنّ «خسارة التشكيل لثلث قواه البشرية
تُخرجه من الخدمة»، وتفرض إعادة تنظيمه وتأهيله لمدة لا تقلّ عن 3 أشهر اذا
توفرت الإمكانات.
في هذه النقطة تبرز أهمية الجبهة المساندة المفتوحة في شمال فلسطين المحتلة
مع المقاومة من لبنان، إذ إنّ هذه الجبهة فرضت على العدو تجميد قوى بحجم
يكاد يعادل القوى التي دفعت الى قطاع غزة، ولو لم تكن هذه الجبهة مفتوحة
لكان من السهل إجراء عملية التبديل وتزخيم المعركة هناك بقوى طازجة، لكن
فتح الجبهة منع ذلك وفرض نفسه على الميدان وأنتج واقعاً يقول إنّ «إسرائيل»
لن تكون قادرة على مواصلة القتال بالضراوة الحالية لأكثر من أسبوعين تنتهي
في نهاية العام. وعندها ستكون بين خيارين إما التراجع في شدة القتال
والإشعار بالوهن او طلب وقف إطلاق النار وفيه ما فيه من معاني الهزيمة،
لأنه لو حصل سيتمّ دون تحقيق أيّ إنجاز، وهذا ما تحاول «إسرائيل» تجنبه أو
تجرّعه.
ومن جهة أخرى فإنّ فتح جبهة جنوب لبنان وفقاً للقواعد التي ذكرنا أعلاه
أقام واقعاً يسجّل للمرة الأولى بهذا الشكل والمدى والعمق على الحدود
اللبنانية مع فلسطين التي تحتلها «إسرائيل»، حيث تمكّنت المقاومة الإسلامية
من تحقيق السيطرة بالنار على الحزام الأمني الحدوديّ داخل فلسطين المحتلة
حزام/ قطاع بطول 105 كلم وعمق يتراوح بين 5 الى 7 كلم، فـ «إسرائيل» التي
لم تحترم اتفاقية الهدنة 1949 التي ألزمتها بتحديد القوى في عمق 10 كلم من
الحدود (ألغتها في العام 1969) و»إسرائيل» التي اعتادت على إقامة مراكز
عسكرية قتالية على الحدّ مباشرة مع لبنان، او إقامة الحزام الأمني داخل
لبنان (من 1987 إلى 2000) أجبرت اليوم بفعل المقاومة على إخلاء هذا الشريط
وأسقطت نظرية الدفاع بالأحزمة الأمنية وسقطت نظرية الكيبوتس مركز دفاع
أماميّ وباتت «إسرائيل» بعد هذا السقوط المدوّي لنظريتها الدفاعية في
الشمال تطالب لبنان بإخلاء جنوبي الليطاني من المقاومة لتعود الطمأنينة الى
سكان المستعمرات والكيبوتسات وليعودوا الى بيوتهم، فيعالج الإحباط الذي
يعيشه هؤلاء من الحكومة الإسرائيلية وعملها.
لقد تسبّبت المقاومة في لبنان بأرق وقلق لـ «إسرائيل» جعلت قائد الجبهة
الداخلية يقول إنّ الوضع في الشمال أسوأ من الوضع في غلاف غزة، ما يعني أنّ
الأعباء التي تتشكل هنا تفوق ما يتشكل هناك ويفرض أيضاً أو يحدّ من قدرة
«إسرائيل» على الاستمرار في الحرب حتى تحقيق أهدافها التي لم يتحقّق منها
شيء بسبب ضراوة المقاومة الفلسطينيّة وقيود وأثقال تنتجها الجبهات
المساندة.
يبقى أن نشير إلى أنّ المقاومة من لبنان أحدثت كلّ هذه المفاعيل، رغم أنها
لم تستعمل من إمكاناتها أكثر من 7% وأنها لم تشاغل بقعة عمليات تتعدّى 7
كلم في عمق فلسطين المحتلة ما يطرح السؤال كيف سيكون الحال إذا زجّت
المقاومة بكلّ طاقاتها وأدخلت في المواجهة كامل فلسطين المحتلة؟ طبعاً لن
يكون الجواب مريحاً لـ «إسرائيل»، لأنّ فيه تعزيزاً لمعادلة الردع
الاستراتيجي الفاعل بكلّ تأكيد. وهنا يكون الردّ على من يهدّد أو يتخوّف من
حرب تشنّها «إسرائيل» قريباً على لبنان، حيث نجيب ببساطة انّ جيشاً منهكاً
فقد هذه النسب من قواه وإمكاناته لن يكون قادراً على الدخول في حرب مفتوحة
ضدّ مقاومة يعرف هو بعض قدراتها، ولا يعرف ما تدّخره له…
الكاتب: العميد د. أمين محمد حطيط*
*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي
المصدر : البناء
الثلاثاء
١٩ ديسمبر ٢٠٢٣
١١:٥٨:٤٦ ص
1421591
وهنا كان لزوم الردّ على مَن يطرح السؤال لماذا تجنّب الحرب الكبرى طالما أنّ العدو فتح في قطاع غزة باباً لها وأعلن بوضوح أنه هناك ذاهب لاجتثاث المقاومة من القطاع.
وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ
بعد أن نجحت عملية طوفان الأقصى التي أذلت «إسرائيل» وبعد أن وقف
نتنياهو، معلناً الحرب على حماس وكامل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة،
وبدأت فوهات النار الإسرائيلية من البرّ والبحر والجوّ تصبّ حممها على
القطاع المحاصَر، بعد ذلك اتخذت المقاومة الإسلامية في لبنان موقفاً من
الأمر أعلنت فيه أنّها لن تكون على الحياد في الحرب المعلنة، ثم شرعت
بتنفيذ تدخلها فيها بصواريخ دكّت المواقع الإسرائيلية في مزارع شبعا
اللبنانية المحتلة ممارسة منها لحق المقاومة في تحرير الأرض المحتلة، ثم
توسّع التدخل ارتقاء للمواجهة مع العدو خلال أيام قليلة حتى شمل كامل جبهة
لبنان مع الاحتلال الإسرائيلي بطول 105 كلم من رأس الناقورة إلى جبل الشيخ
شمال مزارع شبعا.