وكان فيما ذكره من ذلك ما جاءت به الرواية على اتفاق واجتماع قوله :
" يا أيها الناس !.. إني فُرُطكم ، وأنتم واردون عليّ الحوض ، ألا وإني سائلكم عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنهما لن يفترقا حتى يلقياني ، وسألت ربي ذلك فأعطانيه ، ألا وإني قد تركتهما فيكم : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فلا تسبقوهم فتفرّقوا ، ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ، ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم .
أيها الناس !.. لا ألفينكم بعدي ترجعون كفارا ، يضرب بعضكم رقاب بعض ، فتلقوني في كتيبة كمجرّ السيل الجرّار ، ألا وإنّ علي بن أبي طالب أخي ووصيي ، يقاتل بعدي على تأويل القرآن ، كما قاتلت على تنزيله " .
فكان (ص) يقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا الكلام ونحوه ، ثم إنه عقد لأسامة بن زيد بن حارثة الإمرة ، وأمره وندبه أن يخرج بجمهور الأمة إلى حيث أصيب أبوه من بلاد الروم ، واجتمع رأيه على إخراج جماعة من مقدّمي المهاجرين والأنصار في معسكره ، حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته مَن يختلف في الرياسة ، ويطمع في التقدم على الناس بالإمارة ، ويستتب الأمر لمن استخلفه من بعده ، ولا ينازعه في حقه منازع .
فعقد له الإمرة على ما ذكرناه ، وجدّ في إخراجهم ، وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف ، وحثّ الناس على الخروج إليه والمسير معه ، وحذّرهم من التلوّم والإبطاء عنه ، فبينا هو في ذلك إذ عرضت له الشكاة التي توفي فيها .
فلما أحسّ بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب ، واتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع ، فقال للذي اتّبعه : إنني قد أُمرت بالاستغفار لأهل البقيع ، فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم ، وقال :
" السلام عليكم أهل القبور ، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس ، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها " ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً، وأقبل على أمير المؤمنين (ع) فقال : " إنّ جبرائيل (ع) كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرة ، وقد عرضه عليّ العام مرتين ، ولا أراه إلا لحضور أجلي ".
ثم قال : " يا علي !.. إني خُيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة ، فاخترت لقاء ربي والجنة " .... فقال النبي (ص) : " نفّذوا جيش أسامة ، نفّذوا جيش أسامة " يكررها ثلاث مرات ، ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه والأسف ، فمكث هُنيئةً مغمىً عليه وبكى المسلمون ، وارتفع النحيب من أزواجه وولده ونساء المسلمين وجميع من حضر من المسلمين ، فأفاق رسول الله (ص) فنظر إليهم ثم قال :
" ايتوني بدواة وكتف لأكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً " ثم أغمي عليه فقام بعض من حضر يلتمس دواة وكتفاً ، فقال له عمر : " ارجع فإنه يهجر " فرجع وندم من حضر على ما كان منهم من التضجيع في إحضار الدواة والكتف وتلاوموا بينهم ، وقالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد أشفقنا من خلاف رسول الله (ص) .
فلما أفاق (ص) قال بعضهمم : ألا نأتيك بدواة وكتف يا رسول الله ؟!.. فقال : " أبعد الذي قلتم ؟.. لا ، ولكني أوصيكم بأهل بيتي خيراً " وأعرض بوجهه عن القوم فنهضوا ، وبقي عنده العباس والفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب وأهل بيته خاصة ، فقال له العباس : يا رسول الله !.. إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً من بعدك فبشّرنا ، وإن كنت تعلم أنّا نُغلب عليه فأوصِ بنا ، فقال : أنتم المستضعفون من بعدي وأصمت ، فنهض القوم وهم يبكون قد يئسوا من النبي (ص) ....
ثم ثقل وحضره الموت وأمير المؤمنين (ع) حاضرٌ عنده ، فلما قرب خروج نفسه قال له : " ضع يا عليّ رأسي في حِجْرك ، فقد جاء أمر الله تعالى ، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري ، وصلِّ عليِّ أول الناس ، ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي ، واستعن بالله تعالى " فأخذ علي (ع) رأسه فوضعه في حجره ، فأغمي عليه ، فأكبت فاطمة (ع) تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول :
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ففتح رسول الله (ص) عينه وقال بصوت ضئيل : يا بنية !.. هذا قول عمك أبي طالب لا تقوليه ، ولكن قولي : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم } ، فبكت طويلاً فأومأ إليها بالدنوّ منه ، فدنت منه فأسرّ إليها شيئاً تهلّل وجهها له .
ثم قُبض (ص) ويد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه ، ففاضت نفسه (ص) فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ، ثم وجّهه وغمضه ومدّ عليه إزاره ، واشتغل بالنظر في أمره .
فجاءت الرواية أنه قيل لفاطمة عليها السلام : ما الذي أسرّ إليك رسول الله (ص) فسَرى عنك به ما كنت عليه من الحزن والقلق بوفاته ؟.. قالت : إنه أخبرني أنني أول أهل بيته لحوقاً به ، وأنه لن تطول المدة لي بعده حتى أدركه ، فسرى ذلك عني . اعلام الورى/ص 82
انتهى / 131