وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : وكالات
السبت

١٥ يناير ٢٠٢٢

١٠:٥٩:٠٨ ص
1219069

رواية جديدة عن تغييب "الإمام موسى الصدر" بأمر من القذافي

في كل عام، وقبيل بدء الاحتفالات بأسابيع، يجتمع معمّر بمدير المراسم وكذلك بمسؤول العلاقات مع الأحزاب والمنظمات في العالم أحمد الشحادتي...

وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ قال رئيس وزراء ليبيا الأسبق عبد السلام جلود في كتاب مذكراته إن الدكتاتور الليبي المعدوم معمر القذافي طلب من أجهزة الأمن أن تختار شخصًا بحجم وطول الإمام موسى الصدر، ليتقمص شخصيته ويلبس ملابسه ليغادر إلى روما بالتزامن مع مجيئ الإمام الصدر الى ليبيا عام 1978.

وجاء في مذكرات جلود حول قضية اختفاء الإمام موسى الصدر:

وخلال احتفالات الفاتح من سبتمبر كل عام، يحضر العديد من الوفود الرسمية والحزبية والشخصيات المرموقة. في كل عام، وقبيل بدء الاحتفالات بأسابيع، يجتمع معمّر بمدير المراسم وكذلك بمسؤول العلاقات مع الأحزاب والمنظمات في العالم أحمد الشحادتي، ويبلغ إليهما أسماء الشخصيات التي يرغب في حضورها. في احتفالات الفاتح من سبتمبر 1978، كان الإمام موسى الصدر من بين الشخصيات التي دعاها القذافي. وفي الواقع لم أكن أعرف أن القذافي دعا الصدر لزيارة ليبيا، إلا بعد أن أعلنت وكالات الأنباء اختفاءه.

ما إن سمعت بالنبأ، حتى اتصلت هاتفيًّا بأحمد رمضان مدير مكتب القذافي وطلبت منه أن يوصلني هاتفيًّا بالأخ معمّر لأتحدث معه، وكنت في حالة غضب شديد. قلت له: "ما هذه الجريمة الشنعاء التي ارتكبتها؟ هل من المعقول أن تدعو شخصًا وهو في ضيافتك وفي بيتك، باعتبار ليبيا هي بيتنا الكبير، ثم ترتكب هذه الجريمة؟ هذا ليس من الشهامة والمروءة والرجولة. إنه عمل خسيس وغير أخلاقي ومدمر"، فقال لي بغضب: "أنت تتهمني بقتل موسى الصدر؟ برّا دوّر عليه (اذهب وابحث عنه) أنا لا أعرف عنه أي شيء"، ثم أغلق سماعة الهاتف في وجهي. وهذه الواقعة ذكرها أحمد رمضان عند التحقيق معه بعد سقوط النظام.

ثم اتصلت بمدير الأمن الداخلي العقيد، محمد الغزالي، وقال لي: "أنا لا علم لدي بهذه القصة. ما أعلمه هو ما تقوله وكالات الأنباء"، ثم اتصلت بأحمد خطاب، وهو مسؤول الأمن في صالة كبار الزوار في المطار، وقلت له غاضبًا: "عليكم أن تخرجوا لي الإمام موسى الصدر من تحت الأرض وإلا فسوف أعدمكم جميعًا"، وهذا ما قاله خطاب في صفحته في "فيسبوك". وبعد ذلك، علمت أن القذافي طلب من أجهزة الأمن أن يختاروا له شخصًا بحجم وطول الإمام الصدر، ليتقمص شخصيته ويلبس ملابسه ليغادر إلى روما. وبالفعل رشحوا له أحد الضباط وهو برتبة عقيد في الأمن الداخلي اسمه إمحمد علي المبروك الرحيبي. وفي هذا السياق، أذكر أنّ الأخ معمّر، خلال لقاءاتي معه، كان يقول لي دائمًا إنه يرفض ويعارض بشدة أن تتولى شخصية شيعية إيرانية زعامة الشيعة العرب في لبنان أو العراق، وكان يقول: "الإمام الصدر هذا إيراني ومدسوس في الطائفة الشيعية، وقيادة الشيعة في العالم العربي يجب أن تكون قيادة عربية".

وتابع جلود في مذكراته حول خلافه مع القذافي:

قرّرت الاستقالة من منصبي يوم 9 أيار/ مايو 1992، ولكن من دون تقديم ورقة الاستقالة. ببساطة، لأن ما من أحد قام بتعييني. لقد كنت أحد صنّاع الثورة. وهكذا قرّرت أن أعتكف في منزلي، ولكن مع الاحتفاظ بعلاقتي الشخصية بالأخ معمّر. بعد استقالتي بأشهر قليلة زارني في منزلي الشيخ عطية، وكان صديقًا لي، وهو رجل ثري وكريم إلى أبعد الحدود، وفي الوقت نفسه بسيط ومتواضع، فلم يغير ثراؤه من طباعه، وكان من أعيان منطقة سوق الجمعة في طرابلس، وقد طلب مني ومن أخي وعديلي راسم بن علي بن عثمان أن نحضر مراسم عقد قران ولديه في المنطقة نفسها. في يوم عقد القران، ذهبت مع راسم، وفوجئت بحضور عشرات الآلاف من المواطنين. لمّا وصلت استقبلني المواطنون بالترحاب والعواطف الجياشة، وغمرني الجميع بالحب والود وقال لي بعضهم: "هذا يوم مبارك لأننا رأيناك فيه"، وكانت النسوة يزغردن. وحينما جلسنا، قال لي الشيخ عطية: "يشرفني، ويشرف أسرتي أن تكون أنت وكيلًا لابني في عقد القران". بعد انتهاء مراسم عقد القران، دعانا الشيخ عطية وبعض أقاربه لتناول طعام الغداء، فصاح الشيخ عطية مخاطبًا المدعوين: "هيَّا، خمسة، خمسة (أي تجمعوا كل خمسة أشخاص حول مائدة)". فتناولت الطعام مع راسم والشيخ محمود صبحي - الذي كان عضوًا في مجلس النواب في العهد الملكي - والشيخ حسن العريبي، وهو أستاذ في موسيقى الأندلسيات. وفي أثناء تناولنا الغداء، قال لي الشيخ العريبي: "يا أخ عبد السلام، عرفت كيف تقبض على عقول وقلوب الليبيين"، فقلت له: "أنا لم أفكر أو أخطط لتكون لي شعبية. الشعبية تأتي بشكل تلقائي وطبيعي، وحينما تحاول القيادات الثورية والسياسية والاجتماعية أو الدينية الحصول على الشعبية، فإنها تفقد الشعبية؛ لأنها في هذه الحالة سيكون لها سلوكان، سلوك ظاهر وسلوك خفيّ، وتبدأ هذه القيادات في محاول التودد إلى الجماهير، وإظهار نفسها على عكس حقيقتها، والجماهير بذكائها الفطري تكتشف ذلك، فتكون النتيجة عكسية تمامًا، لأن من يعمل على الشعبية سيفقدها".

كنت أؤمن دائمًا بأن القائد الثوري أو السياسي هو لكل المواطنين. ولأنني لا أستطيع مشاركة كل مواطن في أعراسه أو أحزانه، فقد كنت أشارك إخوتي فقط مناسباتهم الخاصة، ولكن بعد استقالتي قررت أن أشارك أصدقائي وأحبتي، وكذلك بعض الرموز والشخصيات الوطنية، أعراسهم مجالس عزائهم، كما أنني رأيت في ذلك اتصالًا مباشرًا مع الناس لتحريضهم على مقاومة الطاغية والتخلص من الخوف، وكنت أقول للحضور إن الطاغية يقتل منكم العشرات والمئات سنويًا، ولكن لو أنكم خرجتم ضده وسقط منكم 100 أو 150 شخصًا فإنه سيسقط وتتحررون، كما كنت أقول لهم: "كان الفيلسوف والشاعر الهندي رابندرانات طاغور يقول: عدوّ الشعوب ليس الفقر والجهل والمرض. عدو الشعوب هو الخوف. عندما تنتصر الشعوب على الخوف تنتصر على كل شيء".

في صباح اليوم الأول من عيد الأضحى من عام 1993، اتصلت بالأخ معمّر في منزله نحو الساعة الواحدة والنصف ظهرًا، فردّ عليّ الأخ عبد الله السنوسي. سألته إنْ كان الأخ معمّر مستيقظًا أم لا يزال نائمًا، فقال لي "إنه نائم"، فقلت له: "أبلغه حين يستيقظ أنني أريد أن أزوره للتهنئة بالعيد" ثم قلت له: "انتبه، لا أريد أن يكون هناك أي شخص؛ حتى عامل الشاي يجب ألّا يكون موجودًا. وحدنا فقط أنا وهو"، فردّ عليّ: "حاضر". وبينما كنت مستلقيًا في فراشي وقت الظهيرة في غرفتي، وعادة ما أستمع في هذا الوقت إلى برامج إذاعة لندن نحو الساعة الثالثة ظهرًا بتوقيت غرينيتش (الخامسة بتوقيت ليبيا)، إذا بي أستمع إلى الخبر الفاجعة، الخبر المشؤوم الذي يقول إن مئات من الليبيين يزورون القدس المحتلة للحج، فثارت ثائرتي ونهضت من الفراش غاضبًا حتى إنني قمت بتحطيم المذياع. في هذه اللحظات أخبرتني أسرتي أن الرائد مختار القروي جاء للتهنئة بالعيد وهو في انتظارك في الصالة، وعلى الفور ارتديت ملابس الحداد السوداء وهبطت السلالم من غرفتي متجهًا إلى الصالة.

وفي هذه اللحظات رن الهاتف. كان المتحدث عبد الله السنوسي. قال لي: "الأخ معمّر في انتظارك لوحدكما كما طلبت". أغلقت سماعة الهاتف وقلت للرائد مختار: "لا أريد اللقاء بالأخ معمّر"، لكنه ألحّ علي في الذهاب للقائه. حين ذهبت إلى منزل الأخ معمّر وجدته مع زوجته وعبد الله السنوسي، فقال لي: "ما بك؟ زعلان ولابس أسود"، ثم سألني: "ما رأيك في زيارة الليبيين للقدس؟"، فرددت عليه بغضب "يا أخ معمّر أنت تعلم أنني مستقيل من منصبي ولو كنت في موقعي لقطعت الأرجل التي ذهبت إلى القدس والأيدي التي صافحت الصهاينة"، ثم استدركت قائلًا: "إن الليبيين الذين ذهبوا إلى فلسطين المحتلة هم مأمورون. أما الذين أشاروا واقترحوا عليك ارتكاب هذه الجريمة في حق الأمة، هؤلاء هم الذين سوف أحاكمهم وأطبق عليهم الحكم العادل، لأن كل الدساتير في الدول العربية تحرّم الاتصال بالعدو وتعتبره خيانة وطنية"، فقالت لي زوجته وكانت متألمة: "يا وخيّ تركت أخوك لوحده؟ هؤلاء الذين من حوله حشموه (أخجلوه) وهم الذين دبروا وجهزوا الحافلات"، فقلت لها: "كلا، هذا قرار سياسي اتخذه الأخ معمّر". ثم خاطبته شخصيًا وقلت له: "يا أخ معمّر أنت حوّلت ليبيا إلى إقطاعية سياسية، وفي النهاية ها أنت ترسل الليبيين إلى القدس. لقد حوّلت العيد الكبير عيد التضحية والفداء إلى يوم للخنوع والاستسلام، كما حوّلت يوم الفاتح من سبتمبر من يوم انتصار إلى يوم هزيمة، حين اخترت يوم الفاتح للتوقيع على الاتفاقية مع حسين هبري حول أوزو بتحويلها إلى محكمة العدل الدولية".

سأعود في ذاكرتي إلى موقف مشابه: حين اقترح الأخ معمّر عام 1989 إحالة ملف شريط أوزو المتنازع عليه مع تشاد إلى محكمة العدل الدولية، كنت قد رفضت هذا القرار، ثم اتفقت أنا ومعمّر على عدم الموافقة على إحالة الملف. لكنه اتخذ القرار سرًّا وبمفرده، ولم أعلم به إلا خلال استقبال الرؤساء العرب والأجانب الذين توافدوا للمشاركة في احتفالات الذكرى العشرين للثورة في قاعدة الملاحة. وبينما كنّا في صالة الشرف، فتح معمّر المذياع على إذاعة لندن باللغة العربية وكانت الساعة الخامسة بتوقيت ليبيا، سمعت النبأ الصاعقة: "ليبيا وتشاد توقعان على اتفاقية لتحويل ملف أوزو إلى محكمة العدل الدولية"، فشعرت بغضب شديد وقلت له: "يا أخ معمّر على ماذا اتفقنا؟ ألم نتفق على عدم إحالة الملف للمحكمة، ها أنت تختار يوم الفاتح من سبتمبر للتوقيع على الاتفاقية. لقد حولت يوم الفاتح إلى يوم هزيمة".

في هذه اللحظات، جاء إلينا مدير المراسم ليقول: "طائرة الرئيس حافظ الأسد بدأت في الهبوط الآن"، فقال لي الأخ معمّر وأنا في حالة غضب شديد: "ليس عندك مرونة يا عبد السلام. ما تزال تفكر بعقلية الطالب في الخمسينيات". ثم أردف قائلًا: "ليس معي شعب وليس معي رجال. أين الثوريون الذين يقولون لي لا؟"، فقلت له: "أنت لم تخلق شعبًا. أنت قهرت الشعب وقمت بتغييبه. لا يوجد شعب شجاع وشعب غير شجاع إلا بقدر ما تبني أي قيادة شعبها وتجعل قضايا القيادة هي قضايا الشعب عن طريق الثوريين والمثقفين المتجذرين في الشعب. والشعب لن يتحمس أو يتفاعل مع أي قرار لأن القيادة احتكرته، وسيكون دوره هو مسايرة القيادة في كل قراراتها. أما الثوريون، فأنت لا تريد شركاء ولا تريد حركة ثورية لديها رأي وموقف، أنت تريد حركة مهرجة مهمتها التطبيل والتصفيق. والذين يدّعون أنهم ثوريون هم ليسوا ثوريين حقيقيين، إنهم منافقون ودجالون ولا رأي لهم". وغادرت المطار عائدًا إلى منزلي ولم أشارك في مراسم استقبال الرئيس حافظ الأسد.

في اليوم التالي من زيارة الليبيين القدس، تقدّمت برسالة استقالة أخرى رفضًا للزيارة، وحينما التقينا، أنا ومعمّر ومصطفى الخروبي وأبو بكر يونس، في منطقة المربعات على طريق مطار طرابلس، قلت له: "يا أخ معمّر، يجب أن نقلل من أضرار هذه الزيارة المشؤومة وأن نعتذر من القوى القومية عن هذه الجريمة، ونؤكد لهم التزامنا بتحرير فلسطين وعدم الاعتراف بالعدو"، فالتفت إلى أبو بكر يونس والخروبي متهكمًا وساخرًا، وقال: "يا بوبكر ويا مصطفى، عبد السلام يريد منّا أن نعتذر لشعراوي جمعة وعبد المجيد فريد وسامي شرف وعبد الرحيم مراد"، وكأن لسان حاله يقول: "مَن هؤلاء، أنا القيادة القومية"، فقلت له: "يا أخ معمّر، لا أوافق على طريقتك هذه في التفكير، لا أحد يستطيع أن يحتكر قيادة الأمة، بالأمس كانت مصر عبد الناصر هي القيادة، واليوم ثورة الفاتح، وغدًا يمكن أن تقوم ثورة في تونس أو المغرب وتصبح هي قيادة الأمة".

قلت له: "يا أخ معمّر، لا أوافق على طريقتك هذه في التفكير، لا أحد يستطيع أن يحتكر قيادة الأمة

في تموز/ يوليو 1993، طلب مني الأخ معمّر إجراء حوار آخر؛ فالتقينا في منزله وبدأنا حوارًا صاخبًا وحادًّا، قلت له: "مرة أخرى يا أخ معمّر أقول لك أنت حوّلت ليبيا إلى إقطاعية سياسية أصبح فيها الإنسان الليبي أشبه بسلعة خاصة بك، لا مشاعر له ولا أحاسيس، إنه مثل حذائك أو نظاراتك، تفعل بهما ما تشاء، وهذا ما أوصلك في النهاية إلى قرار زيارة القدس المحتلة". ثم قلت له: "أصبحت مثل شخص أطرش وأخرس وأعمى، لا يرى الحقيقة ولا يسمعها. لقد سيطر عليك الغرور"، فقال لي: "أنت جعلت مني متاع اليهود؟". انتهى الاجتماع من دون الوصول إلى أي نتيجة وكان اجتماعًا محبطًا.

وسأعود إلى الوراء قليلًا: في عام 1992، جاءني العقيد عبد الفتاح يونس والنقيب أحمد قذاف الدم، بعد أربعة أيام من استقالتي، وكنت في منزلي في مصيف يدعى عين الزرقاء، وقالا لي: "كنا في رئاسة الأركان، وقد استلم الأخ العقيد أبو بكر يونس رئيس الأركان، توجيهات مكتوبة من القائد - بحسب تعبيرهم - تمنع على الضباط زيارة عبد السلام جلود أو الاتصال به، كما جرى تعميم هذه التوجيهات على أمناء اللجان الشعبية وأمناء المؤتمرات والمسؤولين، وجاء في هذه التوجيهات: لا تجعلوا لنا سلطة ومعارضة". ثم قالا: "حين اطلعنا على هذه التوجيهات جئنا مسرعين لرؤيتك على أساس أن هذه التوجيهات لم تعمم بعد ولم نطلع عليها، وخشينا ألا نراك في حياتنا مرة أخرى".

في ليلة الفاتح من عام 1993، كنت في منزلي بالمصيف، وفجأة وصل الأخ معمّر لزيارتي، وقال لي: "من الضروري أن نتفق. الناس معنوياتها سيئة وهي مُحبطة بسبب موقفك وخاصة الشباب والثوريين"، فقلت له: "المشكلة ليست في عودتي عن استقالتي وممارسة مهماتي، المشكلة تكمن في الردّة التي تقودها أنت شخصيًا، فهل لديك الرغبة في التراجع والعودة إلى الشعب والوطنيين والثوريين؟ هذا هو السؤال الكبير الذي يطرح نفسه بقوة على الثورة"، ثم أضفت: "مجيئك إليّ ليلة الفاتح لا يبدو لي مقنعًا أو مفهومًا، لو كنت جادًّا في التوصل إلى اتفاق حول ضرورة التغيير الشامل، لكان علينا أن نرتب لهذا اللقاء قبل عشرة أو خمسة عشر يومًا قبل الفاتح، كان في إمكاننا أن نجري حوارًا معمقًا، ونتفق على أسس التغيير. أما اليوم فيبدو لي أننا لن نتمكن من إنجاز شيء. لقد تأخر الوقت كثيرًا". ولمّا ألحّ عليّ بالظهور العلني أمام الجماهير، قائلًا إنها بدأت تتساءل عن سبب اعتكافي، قلت له: "أنت تعرف رأيي وظهوري العلني متوقف على ما ستقوله غدًا في خطاب الفاتح من سبتمبر". ثم ذكّرته بالحملة التي شنها عليّ هو وحاشيته، وقلت له: "أنتم كنتم تقولون عني بأنني سادات ليبيا، وأنني أريد أن أرث الثورة. الحمد لله، إني رأيتكم أنتم جميعًا ساداتيين، تسيرون على طريق السادات وطنيًا وقوميًا". فردّ عليّ قائلًا: "صحيح معك حق".

كنّا نجلس في المصيف، ولمّا علم المصطافون بلقائنا وشاهدونا معًا، تجمعوا بالقرب منّا فرحين باللقاء وتفاءلوا خيرًا، حتى إنّ بعض النساء زغردن ابتهاجًا، فنهض الأخ معمّر وأطلق بضع رصاصات من مسدسه في الهواء تحية للمتجمهرين المحتفلين بلقائنا. كنت في أعماق نفسي أعلم جيدًا أن هذا اللقاء ليس جادًّا، وأنه لن يسفر عن أي اتفاق حقيقي، فقد كنّا على طرفَي نقيض. وبالفعل، كان خطاب الأخ معمّر في احتفال الفاتح، كما توقعت، استمرارًا في تأكيد نهجه الفردي. ويبدو أنه كان يشعر بالضيق من سخرية الجماهير التي راحت تطلق الشائعات والنكات ضده، حتى إنه أشار إليها في خطابه، بأنه سوف يصدر قوانين تجرّم مروجي الشائعات والنكت. ثم فوجئت في أثناء الخطاب والأخ معمّر يقول: إن اليهود عرضوا عليه إعادة غزة إلى الفلسطينيين إذا ما قام هو بزيارة فلسطين المحتلة. كان هذا الإعلان صاعقًا بالنسبة إلي، وهو ما يؤكد أنه بدأ منذ عام 1991 اتصالات سرية مع إسرائيل.

ما إن انتهى الأخ معمّر من إلقاء خطابه، حتى غادرت مسكني متوجهًا إلى منزله وأنا في حالة غضب شديد، وأذكر أنني ذهبت مسرعًا حتى إنني وصلت قبله بدقائق. حين التقينا قلت له: "أنت لا تزال مصرًا على مواصلة طريق الرّدة والكفر بالثورة، يا أخ معمّر لا فائدة، أنت تحطّم نفسك بهذه الطريقة، فأنت تسير في الطريق الخطأ وخطاباتك تكرار لسياساتك التجريبية التي ستكون نتيجتها انهيار البلاد وتدمير نفسك، كما أن إعلانك أنك سوف تصدر قوانين تجرّم وتمنع النكات والسخرية من قراراتك، أمر يستحيل قبوله. ليس هناك قانون في العالم يحاسب الناس على نياتها وما يدور في عقولها، كما أن إعلانك أن اليهود عرضوا عليك إعادة غزة إلى الفلسطينيين، مقابل زيارة تقوم بها لفلسطين المحتلة، يؤكد للجميع أن قرار زيارة الليبيين للقدس المحتلة هو قرارك أنت". ثم قلت له: "إنني أشفق عليك وعلى حالك".

بعد ستة أشهر من هذا اللقاء، في أول يونيو/ حزيران 1994، طلب الأخ معمّر اللقاء وإجراء حوار بيننا. أرسل إلي أبو القاسم القنقا وخليفة إحنيش وسعيد راشد. في هذا الوقت، كان الأخ معمّر في سرت؛ ولذا قررت السفر إلى هناك للقاء به.

كانت هناك مناسبة عائلية خاصة بزفاف ابنَيْ عمر أشكال، وهو أحد أقارب الأخ معمّر. التقينا في حفل الزفاف وكان يشارك فيه عدد من الشعراء الشعبيين. كانوا يتسابقون في مديحه وتمجيده حتى إن بعضهم رسم له صورة هي أقرب إلى التأليه. كان الأخ معمّر وهو يستمع إلى أشعارهم في غاية السعادة، لأنه شغوف بالإطراء الشخصي والمديح. وأذكر أن أحد الشعراء أعاد قراءة قصيدة شعبية قيلت في السبعينيات، وفي مطلعها يقول الشاعر ناعتًا النظام الملكي بعبارة "يا سارقي النفط يا نهّابة"، فقلت للأخ معمّر: "يا أخ معمّر، حين كنّا نسمع القصيدة في السبعينيات نشعر بالرضا. الآن نحن نفعل أكثر مما فعل العهد البائد".

في صباح اليوم التالي، ذهبت للقائه في المصيف في سرت. وجدته في خيمة كبيرة ومعه كبار رجالات قبيلة القذاذفة وأعيانها، ويبدو أنه أحضرهم للتأثير فيّ وكان عددهم يراوح بين 70 و80 شخصًا. قال لي بعض شيوخ القبيلة: "كيف تترك أخاك لوحده؟" ثم خاطبوا الأخ معمّر: "يا معمّر، أنت لا تستطيع أن تقود البلد أو تحكم. اترك عبد السلام يقود ويدير البلد وأنت خليك في أعراسك وسهراتك في باب العزيزية". فرددت عليهم قائلًا: "أنا لم أتركه هو الذي تركنا"، وكنت أعني أن القذافي هو الذي ترك الثوريين والمخلصين والوطنيين، واختار أعداء الشعب والمنافقين، فردّ الأخ معمّر قائلًا: "إذا كنت تركتكم فأنا مستعد أن أعود لكم". شعر المجتمعون بالبهجة حين نطق الأخ معمّر بهذه الكلمات، فصفقوا له. في اليوم التالي، عقدنا اجتماعًا استمر لساعات. في نهاية الاجتماع قال لي: "هذه المرة لن أتركك، والبرنامج الذي قدّمته أعتبره برنامج الثورة. أنا موافق عليه كلّه". بعد يوم واحد فقط من هذا الاجتماع، عدنا لاستئناف النقاش حول مختلف القضايا، لكنني فوجئت به ينقلب كليًّا على كل ما أعلنه؛ إذْ قال لي: "إذا وافقت على برنامجك ماذا سأعمل؟ أنا واقع فعليًا تحت رحمة شروطك وشروط اليهود والأميركيين، ثم لو أنني وافقت على البرنامج؛ فهذا يعني أنني كلما حاولت أن أفعل شيئًا ستقول لي هذا مخالف للبرنامج". ثم تابع قائلًا: "أنت تسجل عليّ مواقف (أي أنك تتصيد أخطائي)". كان وقع كلماته كالصاعقة عليّ، فقلت له: "هذا أمر غريب، بالأمس فقط قلت لي إنك توافق على البرنامج، المسألة برمتها هي مسألة تحقيق الثورة لأهدافها، وليست أن نفعل ما نشاء، ثم إنّني عرضت عليك البرنامج في حوار استغرق 6 أيام متواصلة، وطلبت مني أن أقدّمه مكتوبًا وفعلت. هذا البرنامج كما قلت لك مرارًا ليس شروطًا، بل هو خطة تغيير تجعلنا أقوياء بالفعل في أعين شعبنا، وهو ما يجعلنا قادرين على مقاومة الشروط الصهيونية والأميركية. أنا لا علم لي بأي اتصالات سرية بينك وبين الإسرائيليين ولا علم لي بأي شروط".

وهكذا انفضّ الاجتماع نحو الساعة العاشرة ليلًا من دون أي اتفاق، لكنه قال لي وهو يودّعني: "سنظل على اتصال". في اليوم التالي، عدت إلى طرابلس واعتكفت في منزلي. بعد أسابيع قليلة، تلقيت اتصالًا من الأخ معمّر يخبرني فيه أنه "تحدث مع الرئيس المصري محمد حسني مبارك على مبادرة لتوحيد البلدين ليبيا ومصر، على أن يكون مبارك رئيس دولة الوحدة، وأن يكون عبد السلام جلود رئيسًا للوزراء"، فقلت له: "يا أخ معمّر أنا مستقيل، فكيف تتحدث عن أمر يخصّني، وأنت تعلم أنني تخليت عن منصبي وموقعي. لو أنني كنت لا أزال في موقعي، فبكل تأكيد سوف أرفض هذه الفكرة وأرفض العرض المقدّم لي، لأن القبول بالعرض يعني أنني سوف اعترف بإسرائيل بصورة غير مباشرة"، ثم أضفت: "أنا أرفض أيّ وحدة سياسية مع أيّ نظام عربي يعترف بإسرائيل".

وخلال فترة اعتكافي في منزلي بطرابلس، توصلت إلى قناعة راسخة مفادها أن الأخ معمّر لا يملك أي إرادة حقيقية للتغيير؛ ولذا اتخذت قرارًا صارمًا بمقاطعته وعدم اللقاء به. وبالفعل لم نتحدث هاتفيًّا ولم ألتق به طوال سنتين ونصف سنة، لكنه حاول مرات كثيرة حملي على أن أقبل فكرة اللقاء به وكنت في كل مرة أرفض فكرة أي لقاء. وذات يوم استدعى الأخ معمّر أخي سالم، وطلب منه أن يعدّ لنا عشاء، أنا وهو، فقال له سالم: "ليست المشكلة في إعداد طعام العشاء. المشكلة في إقناع عبد السلام بالحضور".

وحين جاءني أخي سالم وأخبرني برغبة الأخ معمّر، قلت له إنني أرفض الفكرة من أساسها. بعد ذلك جاءني خليفة إحنيش وهو يحمل اقتراحًا من الأخ معمّر أن نلتقي، فقلت له: "لا يمكن أن نلتقي. لن تمتد يدي لمصافحته، ما دام مستمرًا في قمع الليبيين ويمارس جرائمه". وأذكر أن خليفة إحنيش قال لي وهو يسمع ردّي الغاضب: "لا أستطيع أن أنقل إليه ما قلته لي، وأنك ترفض اللقاء، لكنني سأقول له إن عبد السلام يبلغك تحياته، وهو سوف يفهم المقصود". فأجبته: "أنت حرّ في ما تقول، لكن هذا هو ردّي وهذا هو جوابي من دون لبس". بعد أيام، أرسل إليّ المقدم عبد الله الحجازي طالبًا أن نلتقي، وكان ذلك في شهر رمضان 1996، فرفضت، وقلت له: "لن ألتقيَ به لا في رمضان ولا في شعبان".

سأعود قليلًا إلى الوراء لأتذكر حادثة: في نهاية شهر الفاتح (أيلول/ سبتمبر) وبداية تشرين الأول/ أكتوبر 1993، التقيت الأخ معمّر في مدينة سرت، وأجرينا حوارًا مطولًا وصريحًا على امتداد عدّة أيام، ناقشنا فيه كل شيء حول الأوضاع في ليبيا. في نهاية المطاف، اتفقنا على أن أعدّ من جديد برنامج "التغيير الجذري والشامل"، بما يضمن عودة الثورة للشعب. حينما وافق الأخ معمّر على أن أقوم بوضع هذا البرنامج، قلت له: "البرنامج متبلور في ذهني، ولكنني أريد أن أسألك في قضية حساسة: هل توافق على أن يساعدني في إعداد البرنامج عناصر ذات كفاءة وجادّة؟"، فقال لي: "نعم استعن بمن تريد وأشرك معك كل العناصر الجادة التي يمكن أن تكون مفيدة"، فعدت إلى طرابلس. وعلى الفور، وضعت قائمة بأسماء الفريق المساعد، ومن بين هذه الأسماء جاد الله عزوز، وأبو زيد دوردة، وعبد القادر البغدادي، ورجب المسلاتي، ومحمد سيالة، وعبد الله السعودي، ومحمد عبد الجواد، والروائي أحمد إبراهيم الفقيه، ونقيب الأدباء أمين مازن، والدكتور علي فهمي إخشيم، وعمر الحامدي، وصبحي قنوص، والدكتور شعيب المنصوري، والدكتور مصطفى عمر التير. كان عدد أعضاء الفريق يراوح بين 30 و35 شخصًا. وبحسب ما علمت، خلال هذا الوقت، كان الأخ معمّر يعتقد أن موافقته على إعداد البرنامج ستكون فرصة لعودتي إلى ممارسة مهماتي، ثم علمت أن موافقته كان يقصد منها توريطي. وكانت تلك بالنسبة إلي مناورة مكشوفة. ويبدو أنه انزعج لمّا علم أنني لم أذهب إلى مكتبي، وأنني كنت أقود فريق العمل من مبنى اللجنة الشعبية، كما علمت أنه كان يسأل العقيد مصطفى الخروبي وأبو بكر يونس: "لماذا لا يعمل عبد السلام من مكتبه؟"، بل إن الأخ معمّر كان يسأل أبو زيد دوردة - وكان في هذا الوقت أمين اللجنة الشعبية

العامة - السؤال نفسه: "لماذا لا يعمل عبد السلام من مكتبه؟". ولمّا أدرك الأخ معمّر أن مناورته هذه لا يمكن أن تمرّ، وأن الأخبار والمعلومات عن الحوار الصريح والطويل الذي دار بيننا - إذ اتفقنا على أن أعد برنامجًا جذريًا - باتت حديث الشارع الليبي، بدا منزعجًا وشديد الحساسية. في هذه الأثناء، بدأت العناصر الانتهازية التي تلتف حوله بترويج مزاعم أن هذا البرنامج "هو برنامج عبد السلام" وليس برنامج الثورة. كان هؤلاء يدركون أن البرنامج يستهدفهم في الصميم؛ ولذا عملوا على نقل الوشايات والأكاذيب، بأن "عبد السلام يريد من خلال هذا البرنامج العودة بشروطه، وهو يريد أن يفرض برنامجه وشروطه على القائد".

بعد ذلك، غادر الأخ معمّر إلى مدينة سبها في فزّان، وحين عاد إلى طرابلس، أبلغته بأنني انتهيت من إعداد البرنامج وأنني جاهز لمناقشته معه، لكن نظرًا إلى سيطرة العقلية المخابراتية على تفكيره، كان هناك متطوعون من ناقلي الأخبار والشائعات ينقلون إليه "أولًا بأول" الحوارات والمناقشات حول البرنامج، ويبدو أنه انزعج من "جذرية البرنامج"، وانتشار أخباره في الشارع الليبي وتعلق آمال الجماهير به، وهذا ما زاد في عناده ورفضه للتغيير. حين وصل الأخ معمّر إلى طرابلس، ذهبت للقائه حاملًا معي "مشروع البرنامج"، وللأسف وجدت أنه قد أعد مناورة جديدة. كنت سبقته في الوصول إلى الخيمة بخمس دقائق. وبينما كنت أجلس داخل الخيمة، رأيته قادمًا رفقة العقيد أبو بكر يونس، وبدا عليه عدم الارتياح، وبعد أن سلّمت عليه جلسنا نحن الثلاثة. قال العقيد أبو بكر يونس حرفيًّا: "يا بوي هذا البرنامج مفروض علينا من الخارج"؛ فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت له: "أنت لم تطلع على البرنامج فكيف تقول إنه مفروض من الخارج؟ هذا ليس كلامك أنت يا أبو بكر؟"، ثم توجهت بكلامي إلى الأخ معمّر وقلت له حرفيًّا: "عيب يا أخ معمّر أن تضع أبو بكر يونس في هذا الوضع المحرج، وهو لا يحسن لعب هذا الدور"، ثم نهضت وحاولت أن آخذ نسخة البرنامج الذي كنت وضعته فوق الطاولة، فأسرع الأخ معمّر وأخذه وهو يقول لي: "اجلس يا عبد السلام"، فقلت له: "لماذا نناور على بعضنا؛ إذا لم تكن موافقًا على البرنامج فقل لي هذا مباشرة ومن دون لف ودوران، ومن دون أن تضع أبو بكر في الواجهة"، ثم خاطبت أبو بكر مباشرة وقلت له: "عيب عليك أن تقبل بهذا الدور. ما تقوله أنت عن محتوى البرنامج كنّا نقوله معًا في الغرف المغلقة، بل وأكثر بكثير مما ورد فيه"، فقال الأخ معمّر: "إذًا كنتم تتآمرون عليّ؟"، ثم قال للعقيد أبو بكر: "أنت والخويلدي ومصطفى تنزعجون لأصغر وأتفه الأسباب الشخصية وأحيانًا لأسباب لا أهمية لها، بينما عبد السلام حينما يتخذ موقفًا، فهو يتخذه من أجل قضية عامة ومن أجل مصلحة الثورة". انزعج العقيد أبو بكر يونس وردّ حرفيًّا: "أنا أش دخلي تحطوني فيما بينكم. أنتم أكباش تتناطح"، ثم نهض وغادر الخيمة غاضبًا، شاعرًا أن الأخ معمّر وضعه في موقف محرج وتخلى عنه. وهكذا انفض اللقاء من دون أي مناقشة للبرنامج. وفشلت هذه المحاولة كما فشلت أكثر من محاولة غيرها من قبل.

وسأعود مرة أخرى إلى الوراء قليلًا لأروي واقعة مهمة تؤكد ما أقول: في عام 1990، كنت في منزلي أشاهد الإذاعة المرئية الليبية، وكانت تنقل وقائع ما عُرف بالتحالف التاريخي بين قبيلة ورفلة وقبيلة القذاذفة في منطقة بني وليد في ورفلة. وصعقت حينما رأيت الأخ معمّر يحضر هذا اللقاء، وشاهدته وهو يسلم بيان التحالف، فاتصلت به وقلت: "أن تأمر القبيلتين بعقد هذا التحالف الصوري شيء، وأن تحضره أنت شخصيًا وأن يسلموك بيان إعلان التحالف [شيء آخر]، فأنت تثبت بالصوت والصورة أنك شيخ قبيلة. أنا أشعر بالأسف والحزن للحالة التي وصلت إليها". بعد أشهر من هذا الإعلان، قاد بعض ضباط قبيلة ورفلة مؤامرة لإسقاط النظام. بعد أيام قليلة فقط، وتحديدًا في اليوم الرابع للمؤامرة، طلبني الأخ معمّر للقاء به في خيمته بباب العزيزية وكان معي مصطفى الخروبي. وكانت هذه من أخطر المؤامرات التي وقعت في ليبيا، بعد مؤامرة المحيشي عام 1975. لمّا وصلت إلى الخيمة، وجدت رجلين (شيخين) من أقاربه. حين جلست أنا والعقيد مصطفى، قال لي: "يا عبد السلام سقطت القبيلة وانتصرت قيمك الثورية"، فقلت له: "يا ريت سقطت القبيلة وانتصرت قيمنا الثورية. هذه ليست قيمي أنا، وإنما هي قيمك أنت وقيم كل الثوريين". كان الأخ معمّر في هذا اللقاء، كما رأيته عن قرب، يشعر بالمرارة والإحباط ويعتصر الألم قلبه؛ فقد كانت المؤامرة خطيرة واستهدفت قتله. قبل هذا الحادث، كان الأخ معمّر قد عقد تحالفًا بين قبيلة القذاذفة وقبيلة ورفلة، وبات يعتمد على قبيلة ورفلة في حمايته وحماية نظامه. ولذا كان يشعر بالمرارة والألم. قال الشيخان وهما يوجهان كلامهما إلي: "قبيلة ورفلة ليسوا إخوتنا من جهة الجد. المقارحة هم إخوتنا"، فقلت بغضب وأنا أوجه كلامي إلى الأخ معمّر: "فكني منهما ومن كلامهما. قبل أربعة أيام لم يكونا يقولان هذا الكلام". أدركت أن الأخ معمّر هو منْ لقّن الشيخين، ليقولا لي إن "المقارحة إخوة القذاذفة"، فقلت للأخ معمّر: "أرجوك أخ معمّر. أنت تعلم أنني مستقيل، ولكنني أنصحك ألا ترتكب مرة أخرى خطأ مصراتة، لمّا تآمر المحيشي وبعض الضباط من مصراتة، اعتبرت أن مصراتة كلها متآمرة عليك. يجب أن تكون العقوبة شخصية. لا تزر وازرة وزر أخرى". ثم تابعت كلامي قائلًا: "لو نفذت هذا البرنامج، أقصد البرنامج الذي أعددته، فلن تعود هناك أي حاجة أو ضرورة إلى محاكمة هؤلاء الضباط والمدنيين. أما إذا لم تنفذ هذا البرنامج، وقمت بإعدامهم، فلن يتغيّر شيء، لأن الأمر الخطير هو أن الجماهير فقدت ثقتها بالثورة وباتت تقاوم مقاومة سلبية، وهي الأخطر"، فقال لي: "هذا البرنامج برنامج الثورة وأنا أوافق عليه كلّه". وقبل أن أغادر أنا ومصطفى الخروبي، قلت له حرفيًّا: "يا أخ معمّر إذا كنت غير جادّ، أو ليس لديك الإرادة السياسية الكافية لتنفيذ البرنامج فقل لي هذا بصراحة. لا أريد أن أبدأ بتنفيذ البرنامج، ثم أتفاجأ بأنك غير جادّ في الموافقة عليه". فقال لي الأخ معمّر: "أنا موافق". كان مصطفى الخروبي إلى جواري فقلت للأخ معمّر: "سأقول لك أمام مصطفى، غدًا سأجمع أمانة مؤتمر الشعب العام، واللجنة الشعبية العامة لأعرض عليهم البرنامج لإثرائه، ثم أبدأ بتطبيقه بحسب الآلية المرفقة".

بعد ذلك، عقدت اجتماعًا لأمانة مؤتمر الشعب العام واللجنة الشعبية العامة لدراسة آلية تنفيذ البرنامج. وكان من بين الآليات أن يُعرض البرنامج على المؤتمرات الشعبية. اتصل بي أحمد رمضان وقال لي: "الأخ القائد يقول لك إنه يرى ضرورة تأجيل طرح بعض الأفكار والقضايا في البرنامج". وقد وجدت أن الأفكار والقضايا التي يطلب الأخ معمّر تأجيل مناقشتها، أو حتى طرحها للنقاش، هي لبّ البرنامج وجوهره، وتأجيل النقاش حولها لا يعني سوى تفريغ البرنامج من مضمونه ومحاوره، فغضبت غضبًا شديدًا، وطلبت الأخ معمّر على الهاتف وقلت له: "إنْ كنت تريد عودتي عن استقالتي، فلا بد لك من الموافقة على تنفيذ البرنامج من أول صفحة حتى آخرها"، فقال لي: "باهي، باهي (أي حسنًا، حسنًا)"، ثم أغلق سماعة الهاتف. وأتذكر، حين أعيد انتخاب حسني مبارك رئيسًا في 5 تشرين الأول/أكتوبر 1987، كان الأخ معمّر في هذا الوقت يعيش حالة من الضعف والهوان، فقرر أن يذهب هو وأبو بكر يونس والخويلدي والخروبي إلى منطقة السلوم لتقديم التهنئة لمبارك، فاتصل بي أحمد رمضان وقال لي: "يقول لك أخوك معمّر وش رأيك تلحق بنا؟"، فقلت له: "قل لمعمّر أنا مستقيل. لو كنت في منصبي لرفضت أن تذهب قيادة ثورة الفاتح لتهنئة مبارك، ومنْ هو حسني مبارك؟". وفعلًا ذهبوا جميعًا إلى السلوم.

وأذكر أن الإخوة أبو بكر يونس والخروبي والخويلدي جاؤوا إلى منزلي في عام 1994 يحملون رسالة من الأخ معمّر، مضمونها: "أنت تنتقد سياساتي وتحرض الجماهير ضدي"، فقلت لهم: "سوف أذهب للقاء الأخ معمّر"، فقالوا لي: "سنذهب معك". فذهبنا في اليوم نفسه للقاء الأخ معمّر، فكرّر أمامي مضمون الرسالة، وقال: "أنا لا أستطيع اتخاذ أيّ إجراء ضدك، ولذا سأترك لك البلد. لا أريد أن أراك وهم يحققون معك ويعذبونك قبل أن تُعدم"، فقلت له: "مَن هم الذين سيحققون معي ويعذبوني، هؤلاء إما أنهم يخافون مني وإمّا أنهم يحترمونني. ولذا، في حال حصول هذا فذلك هو قرارك أنت. أنت تترك البلد؟ هذا مستحيل، أنت مستعد لأن تقتل مليون ليبي أو مليونين لكي تحكم ليبيا. أنا لا أستطيع العيش تحت التهديد والتخويف. لست خائفًا؛ لا من سجونك، ولا من إعدامي. ما يجري في ليبيا لا أوافق عليه إلا أن يمرّ فوق جثتي".

بعد هذا اللقاء بأشهر، عرضت على بعض أعضاء القيادة، ومن بينهم أبو بكر يونس ومصطفى الخروبي ومختار القروي وبعض الضباط الأحرار، أن يعقد أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار اجتماعًا في منزلي لنتخذ فيه قرارًا بفرض التغيير على الأخ معمّر؛ لأن الأوضاع تستحق مجازفة غير محسوبة. وللأسف، رفض الجميع الاقتراح، وقالوا إن هذا يُعدّ تمرّدًا، وقالوا: "ما نسعى إليه هو لقاؤكما معًا واستئناف الحوار". في الساعة الثانية عشرة من يوم جمعة الفاتح من أيلول/سبتمبر 1995، رنّ الهاتف في منزلي بمنطقة المصيف، فرفعت السماعة وصمتّ، انتظرت قليلًا، وإذا بالأخ معمّر هو المتصل، فقال لي: "يا أخينا لماذا لا تتصل للتهنئة وتبارك"، فقلت له: "ما المناسبة؟"، فقال لي: "الفاتح"، قلت له: "يا أخ معمّر، لم يعد الفاتح يعني لي أي شيء؛ لا لأنني لم أعد في السلطة، وإنما لأن الفاتح لم يعد يعني لليبيين أي شيء، ومن ثمّ فهو لا يعنيني. الفاتح اليوم يعني لليبيين الفقر والجهل والخوف. لك طريقك ولي طريقي"، فردّ قائلًا: "طريقنا واحد منذ 1957"، فقلت له: "ما تفعله بالشعب الليبي من قهر وقمع وتجويع وإذلال، أمر يفوق كل وصف". ثم، قبل أن يغلق الهاتف، قال لي: "مشكلتي أنك زعيم، لولا هذا لحاكمتك وأعدمتك".

في المساء، ألقى خطابًا في الجماهير خلال احتفال بمدينة سرت، قال فيه: "في العالم الثالث منْ يستقيل من منصبه هو الشخص الأول. أما أي شخص آخر، إذا ما استقال فسوف يسجن أو يعدم، لكننا سنقدّره ونحترمه ونعامله كما عاملت روما أبناءها".

في حزيران 1996، وقعت مذبحة سجن بوسليم التي ذهب ضحيتها أكثر من ألف شاب ليبي. وكنت مستقيلا ولم تتح لي الفرصة للتحدث معه (القذافي) عن هذه الجريمة

في حزيران/ يونيو 1996، وقعت مذبحة سجن "بوسليم" التي ذهب ضحيتها أكثر من ألف شاب ليبي. ولأنني كنت في حالة قطيعة معه، وكنت مستقيلًا، لم تتح لي الفرصة للتحدث معه عن هذه الجريمة. ثم بعد عامين ونصف عام من هذا التاريخ، أي في عام 1998 وقعت محاولة انقلابية، دبرتها مجموعة من أقاربه وحرسه الخاص، وكانت تستهدف اغتياله. قام الأخ معمّر بإعدام المتآمرين والتمثيل بجثثهم، وسحلها بواسطة سيارة في ميدان باب العزيزية، ثم علقهم من أرجلهم فوق شجرة. بعد يوم واحد فقط من اكتشاف المؤامرة اتصلت به هاتفيًّا، وقلت له: "أنا قادم للقائك"، فقال مستغربًا وهو لا يكاد يصدق: "صحيح يا عبد السلام؟". وبالفعل، ذهبت للقاء به، وكان هدفي أن استغل ظروفه النفسية السيئة حيث كان منهارًا تمامًا من أجل إقناعه بالعودة إلى الشعب. ولمّا وصلت عانقني بحميمية وهو يبكي بكاء شديدًا بصوتٍ عالٍ، لمدة نصف ساعة تقريبًا، إلى درجة أن عبد الله السنوسي ومنصور ضو شعرا بالإحراج فغادرا المكان، ثم قام حراسه بذبح خروف أمامنا، وهي عادة بدوية تعبيرًا عن الفرح والاحتفاء بالقادم. بعد ذلك جلسنا، وقال لي: "هل يخطر عليك (أي على ذهنك) يا خوي يا عبد السلام، أن أقاربي وحراسي يريدون قتلي؟"، فقلت له: "يا أخ معمّر، لماذا يتآمر عليك أقرباؤك ويخططون لقتلك؟ هم ليسوا سياسيين. هذا يعني أنك تسير في الطريق الخطأ، حتى إن أقرباءك لم يقبلوا بتصرفاتك. لا أحد يحميك؛ لا الأقرباء ولا الحراس، بل الشعب، فعد إلى الشعب". ثم أردفت: "إن مذبحة سجن بوسليم يمكن اعتبارها أكبر مذبحة منذ مذابح هتلر ضد اليهود"، فردّ عليّ قائلًا: "هؤلاء مكلوبين (ويقصد أنهم مثل كلاب مسعورة)، لو أنني لم أتصرف معهم على هذا النحو لهربوا من السجن وأحرقوا مدينة طرابلس وأحرقوك أنت معها"، فقلت له: "حرق مدينة طرابلس وحرقي أهون من قتل 1400 شاب"، فردّ قائلًا: "هؤلاء - سُنّة - متعصبون"، فقلت له: "أنت ستجعل كل الليبيين سنّة يميلون إلى التشددّ وسوف يقاومونك، الشغب سيقاوم بالسلبية المقيتة، وهؤلاء المتشددون سيقاتلونك بأجسادهم. أنت يا أخ معمّر تدمر نفسك وتدمّر البلد معك. الأنظمة الدكتاتورية والقمعية تستخدم الأساليب المعروفة في القمع. أما أنت فتتفنن وتبتكر أساليب وأدوات قمع جديدة"، فقال لي: "يا عبد السلام. أنت تقود حملة ضدي من النقد والتحريض وأنا أكره النقد وأكره الإطراء والمديح وأحب النصيحة. الدين هو النصيحة؟"، فقلت له: "أنت يا أخ معمّر تكره النقد، لكنك تحب الإطراء والمديح. النقد هو أوكسجين الحياة، والإطراء والمديح هما المستنقع الذي تموت فيه الحياة. نعم الدين النصيحة، لأن الدين علاقة الإنسان بخالقه، أما في السياسة فهناك النقد وهو حجر الزاوية في كل تطور". فردّ عليّ وهو يضع أصبعه على حنجرته قائلًا: "هذا كله ليس مهمًا. الشيء المهم هو موقفك الذي جعل الغصة في حلقي. ولن أنسى ولن أغفر لك هذا الموقف الذي جعلني مدانًا في الداخل والخارج"، فقلت له: "كل هذا سببه سياساتك التدميرية وليس موقفي. موقفي يستند إلى حقوق الناس ومصالحهم، ولو اختلفت معك، وكانت سياساتك تنال رضا الناس، فإنهم لن يسألوا عن موقفي"، فقال: "لم أعد أستطيع تحمل هذا". وهكذا انتهى آخر حوار صاخب دار بيني وبين معمّر.

وأذكر أنني كنت في منزلي، وفتحت الإذاعة المرئية الليبية، وكانت تنقل على الهواء لقاء الأخ معمّر مع بعض أعضاء اللجان الثورية، واستشطت غيظًا ومرارة حينما رأيت سيدة تنهض من مقعدها وهي تصيح: "يا أخ القائد، يا أخ القائد، يا أخ القائد، جوّع الكلب يتبعك. جوّع الليبيين يتبعوك"، وصعقت لمّا رأيت معمّر يضحك ويصفق ويهز رأسه موافقًا، فاتصلت به بعد انتهاء اللقاء وقلت له: "كيف تسمح لنفسك يا أخ معمّر أن تستمع لهذه المرأة وتسمح لها بمواصلة هذا الكلام، كان من المفروض أن تطردها لا أن تصفق لها"، كان رده عليّ: "يا أخينا أنت تتوقف عند كل شيء، ومهمتك أن تراقبني ماذا أقول وماذا أفعل"، ثم أغلق الهاتف.

بعد عام 1998، جاء إلى منزلي بعض الضباط الأحرار وبعض الثوريين الحقيقيين، وقالوا لي: "إذا أردت أن تنجح في إحداث التغيير، فعليك أن تعطي مخرجًا للأخ معمّر، لأن العناصر السيئة والمستفيدة تعتبر البرنامج ضد مصالحها، وهم يروّجون أنك تريد فرض برنامجك على القائد"، ففكرت، ثم كتبت ورقة قلت فيها: "لقد اجتمعت مع الأخ معمّر وطلب مني أن أستعين بخيرة الكفاءات لإعداد ليبيا والأمة العربية للقرن 21، وأرسلتها إلى مدير مكتبه أحمد رمضان". بعد وقت قصير، اتصل بي رمضان وقال: "أخوك معمّر مسرور بما كتبت". بعد هذه المكالمة، انكببت على إعداد البرنامج في جانبيه الوطني والقومي وأرسلت إليه صورة منه. بعد أن اطلع معمّر على البرنامج ألقى كلمة في أمانة مؤتمر الشعب العام، وفوجئت وهو يقول: "ماذا يعني إعداد ليبيا والأمة العربية للقرن 21. نحن في ليبيا لا نزال في القرن الرابع عشر"، وقال من دون أن يذكر اسمي: "كيف له أن يدّعي أنه يفهم أكثر من الشعب. الشعب هو الذي يفهم". الغريب، أن الأخ معمّر، بعد هذا الخطاب مباشرة، نسب البرنامج في جانبه القومي إليه، وأرسل أبو بكر يونس ليزور المشرق العربي، حاملًا مشروع البرنامج، بينما أرسل الخويلدي إلى المغرب العربي.

في عام 1999، قررت عائلة عدالة، وهي أسرة ليبية مشهورة بأبنائها المتعلمين والمتضامنين اجتماعيًا، وكانت تقيم في قرية قصر بن غشير بالقرب من طرابلس، أن تزوج اثنين من أبنائها، فحضر ثلاثة من أبناء هذه الأسرة إلى منزلي لدعوتي إلى حضور حفل عقد القران. وبالفعل، لبَّيت الدعوة. لمّا وصلت إلى منزل الأسرة، قالوا لي: "سنكون سعداء أن تكون وكيلًا لولدينا". وحينما علم القذافي بالدعوة والاستقبال الحافل الذي حظيت به انزعج انزعاجًا شديدًا، فصبّ جام غضبه على هذه الأسرة. كانت الأسرة تمتلك عيادة طبية متميزة تدعى عيادة العافية في باب بن غشير، وكانت تحظى بثقة الليبيين. أمر معمّر بإغلاقها وبالتحقيق معهم وتهديدهم وتوبيخهم، كما قام بالتحقيق مع كبار الضباط والمسؤولين الذين حضروا عقد القران، وقال لهم: "كيف تظلون في الحفل بوجود عبد السلام؟".

يوم تسليم المغرب عمر المحيشي للقذافي

في أواخر الثمانينيات، ذهبت إلى مدينة سبها في الجنوب الليبي للاجتماع بمعمّر. ولمّا وصلت إلى المطار، استقبلني المقدم السيّد قذاف الدم، واحتضنني ضاغطًا على ظهري وصدري بقوة، وهو يجهش في البكاء، وكأنه يريد أن يُخرج ما في داخله من حزنٍ وألم، وقال لي: "يخطر عليك، يا خوي يا عبد السلام، الملك الحسن الثاني يسلم المحيشي؟ لقد حطت به طائرة ليبية خاصة في مطار سبها قبل وصولك بساعة، وكانت السلطات المغربية قد خدّرته بكمية كبيرة وقوية من مادة مخدّرة، لم يستطع جسم عمر المحيشي تحملها، وحتى بعد انتهاء مفعول التخدير، ظل المحيشي فاقدًا للوعي. فقد السيطرة على نفسه حتى إنه صار يتغوّط ويبول على نفسه من دون توقف". ارتسمت أمام عينيّ وعقلي ووجداني، في هذه اللحظات، صورة يندى لها الجبين وتقشعرّ لها الأبدان، فتفجرت في داخلي ثورة من الغضب الشديد. غادرت المطار متجهًا للقاء معمّر، ولمّا دخلت عليه قلت له: "اسمع يا معمّر، أنا كنت دائمًا أمقت الحسن الثاني، والآن أمقته أكثر"، ثم قلت: "كنت متوجسًا ومتخوفًا من علاقاتك السرية بالحسن الثاني، التي كنت تديرها بنفسك. أنت انتهيت يا معمّر"، فابتسم ولم يعلق، وأنا لا أعرف ما إذا كان الأخ عمر المحيشي رحمه الله، قد فارق الحياة بسبب حالته هذه، أو أنه تعافى وتم التحقيق معه للحصول على أكبر كمية من المعلومات قبل أن يُعدم.

في عام 1994، توفيت والدة عبد الله السنوسي، وكانت عائلته تقيم في قرية قيرة بوادي الشاطئ ضمن منطقة فزان، فذهبت لتقديم واجب العزاء. لمّا وصلت، وجدت أن العزاء يقام في صالة كبيرة تتسع لآلاف. جاءني مسرعًا شيخ كبير ورجل فاضل اسمه محمد الفرجاني، وهو من قبيلة القذاذفة ومن فرع أسرة القذافي، فعانقني وهو يبكي ثم توجه إلى الحضور قائلًا بصوت عالٍ: "يا عرب، أنا منش خايف (أي لست خائفًا) إنْ لم ينتصر عبد السلام، ومت، أرموني في برميل الكناسة (أي برميل النفايات) ولا تدفنوني في قبر". لقد صدقت نبوءة هذا الرجل الفاضل، وانتصر الشعب الليبي، لكن قوى الظلام والإرهاب والتطرف أفسدت عليه عرسه، ودمرت حلمه. وأذكر أيضًا أن أحد كبار مشايخ القبيلة، من الفرع نفسه، يدعى نصر حنيش، كان يزورني في منزلي باستمرار، ويقول لي وهو في حالة من الشعور بالألم والمرارة: "معمّر لا يريد رجالًا. إذا لم أصفق له وأتودّد إليه وأنا في سني هذه ومكانتي في القبيلة؛ فإنه سوف يحقق معي ويقول: أنت رافع رأسك علي (أي أنت لا تعترف بي)".

....................

انتهى/185