هذا القرار رغم أنه يحمل الصبغة القانونية إلا أنه يكاد يكون سياسيا مائة بالمائة ويعتبر احتكاما للغة العقل ، فالموافقة على حظر الحزب كانت كفيلة بإعادة تركيا للحكم العسكرى وعدم الاستقرار الناجم عن احتدام صراع التوجهات والهوية والثقافة والقطيعة مع التاريخ والجغرافيا، إلى جانب كون حل الحزب إنما يعني فراغاً قاتلاً في الساحة التركية لعدم وجود بديل سياسي له ، وما لهذا من انعكاسات قد يستغلها الانفصاليون الأكراد ، ويبقى الأمر الأهم في هذا الصدد ألا وهو أن حزب العدالة قدم نفسه للغرب على أنه الإسلام المعتدل وكان المتوقع في حال حظره تحول حليف استراتيجي له إلى مجتمع رهين "قمع عسكري" و"تطرف ديني" .
تهديدات أوروبية
والتهديدات التي خرجت من داخل أوروبا منذ نظر المحكمة الدستورية في قضية الحظر تثبت صحة ما سبق ، فقد حذر مفوض الاتحاد الأوروبي لشئون التوسيع "أولي رين" من أن الاتحاد لن يقبل عضوية تركيا في حال تم حظر حزب العدالة ، قائلا :" إن إغلاق الأحزاب السياسية لا يمكن الاستخفاف به في أوروبا . الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية ينبغي أن يكون موافقاً لمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون بما في ذلك مبادئ لجنة البندقية التابعة لمجلس أوروبا".
رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو وجه هو الآخر تحذيرا مماثلا لتركيا بل وقام أيضا بزيارة لها في مايو الماضي لإظهار الدعم والمساندة لحزب العدالة ، قائلا :" يجب على المحكمة الدستورية التركية أن تصدر قرارًا يتلاءم مع المعايير الأوروبية للديمقراطية " ، داعيا إلى الإصلاح القضائي وإصلاح القوانين المتعلقة بالأحزاب السياسية وبالحريات.
وفي السياق ذاته ، وجهت صحيفة "التايمز" البريطانية انتقادا لاذعا للمؤسسة العسكرية التركية لاستمرار "نزعتها الانقلابية" تحت "غطاء الدفاع عن العلمانية" ، قائلة :" المحكمة الدستورية التركية تنظر في قضية قد يكون لها عواقب جسيمة وربما وخيمة ليس على تركيا فقط بل على العالم الإسلامي برمته كذلك . قرار حل الحزب سيضع حدا لآمال تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي".
وأضافت أن حكومات العالم الإسلامي تنظر بعين الاهتمام إلى تركيا ، فالكثير يخشى أن يؤدي حظر حزب العدالة إلى نسف الجهود الرامية إلى ترغيب الحركات الإسلامية في العمل السياسي المشروع ، مشيرة إلى أنه إذا ما ارتأت المحكمة أن حزب العدالة يهدد علمانية أتاتورك، وبالتالي حل واحدة من أنجح الحكومات التركية وأكثرها شعبية، فإنها ستمنح الحركات الإسلامية ذريعة للتنكر للأساليب الديمقراطية في تداول السلطة، لصالح العنف".
وذكرت التايمز في هذا الصدد بالماضي الانقلابي للجيش التركي، وكيف حاول في 2007 أن يقود انقلابا -هو الخامس خلال نصف قرن- ضد رئيس الحكومة رجب طيب أردوجان، وكيف استطاع هذا الأخير "بدهائه"، أن يستفيد من الأزمة، ليعود بأغلبية أوسع، وليعين أول رئيس دولة تركي ذي خلفية إسلامية ، مضيفة أن المؤسسة العسكرية التركية تحاول بعد فشلها العام الماضي الانقلاب على الحكومة بطرق ملتوية، عبر حل الحزب ومنع 71 من أعضائه - بمن فيهم رئيسى الحكومة والدولة- من ممارسة السياسة لمدة خمس سنوات.
وانتهت إلى التحذير من أن التيار العلماني في تركيا يفوت فرصة الدعم الغربي له ، عكس حزب العدالة الذي أثار الإعجاب في الداخل والخارج بسبب سياسته الإصلاحية ، مؤكدة أن البرلمان هو المكان المناسب لتقييم الموقف السياسي للحزب وليس القضاء.
ذكاء أردوجان
ورغم أهمية ما سبق ، إلا أن الأوراق والسياسات التي رد بها أردوجان على دعاوى الحظر ، كان لها أكبر الأثر في حسم القضية لصالحه .
فهو لعب دورا نشطا في مفاوضات السلام غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل وقام بزيارة للعراق خلال شهر يوليو ، الأمر الذي أكسبه تأييد واشنطن في مواجهة العلمانيين ، هذا بجانب زيادة شعبيته في أعقاب الإعلان عن إحباط مؤامرة للإطاحة بالحكومة المنتخبة ، قام بها حوالي 80 شخصا من المعسكر العلماني ، بينهم عسكريون سابقون ، وهناك أيضا الإنجاز الكروي غير المسبوق الذي حققه المنتخب التركي بوصوله لربع نهائي يورو 2008 .
الاتحاد الأوروبي ساند أردوجان بقوة
ولاننسى أيضا الخطأ الذي وقع فيه العلمانيون وهو ممارسة الضغوط السياسية على المحكمة الدستورية لحظر الحزب وذلك تارة عبر المظاهرات وتارة أخرى من خلال وسائل الإعلام ، الأمر الذي أعطى مصداقية لدفاع حزب العدالة أمام المحكمة بأن للموضوع منطلقات سياسية غير قانونية ، حيث أكد من خلال 100 صفحة أدلة أنه لم يقترف ما يجعله معاديًا للعلمانية .
ولعل هذا ما برز واضحا في التصريحات التي أدلى بها رئيس المحكمة الدستورية هاشم كليج في يونيو الماضي وأعرب خلالها عن استيائه وأعضاء المحكمة من الضغوط التي يحاول البعض وخاصة رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني دنيز بيكال ممارستها على المحكمة في قضية إغلاق حزب العدالة ، قائلا :" تصريحات بيكال وبعض المدعين العامين السابقين ومقالات بعض الصحفيين تصب في اتجاه أنه يجب على المحكمة أن تتخذ القرار بإغلاق الحزب ، وإلا فإن البديل سيكون الانقلاب على الحكومة".
مفاجأة التعديلات
وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن تلويح أردوجان بسلاح التعديلات الدستورية التي تستهدف في الأساس المحكمة الدستورية ذاتها ، كان بمثابة الإجهاض المبكر لقضية الحظر ، فهو سارع في 16 مارس وبعد 24 ساعة فقط من تقديم طلب المدعي العام للمحكمة الدستورية ، إلى تأكيد عزمه عدم التقهقر خطوة واحدة عن التقدم في المسيرة الديمقراطية وطرح حزمة جديدة من التعديلات الدستورية من شأنها إعادة تنظيم الهيكل القضائي .
التعديلات تتضمن زيادة نفوذ البرلمان في اختيار أعضاء المحكمة الدستورية وتقييد سلطة المدعي العام والمحكمة بشأن حل الأحزاب وذلك عبر رفع عدد أعضاء المحكمة الدستورية من 11 عضوًا حاليا إلى 17 عضوًا، وأن يتم اختيار القسم الأكبر منهم من قبل البرلمان التركي وليس من قبل رئيس الجمهورية على النحو التالي: 8 من قبل البرلمان التركي، 4 من مجلس قضاء الدولة، و4 من مجلس شورى الدولة، وعضو من قبل المجلس المحاسبي العام ، وأن لايتم حظر أي حزب إلا بموافقة البرلمان.
نجاحات داخلية
حزب العدالة كان يستند في طرح تلك التعديلات إلى جملة من النجاحات الداخلية والخارجية التي ستجعل المعسكر العلماني يفكر مليا قبل تفعيل قضية الحظر ، فمعروف عن الحزب منذ وصوله للسلطة في عام 2002 حرصه على تطبيق سياسات براجماتية ساهمت في خلق انتعاش اقتصادي وقادت الدولة إلى الانفتاح على الغرب أكثر وأكثر ، كما حرر الاقتصاد التركي من سيطرة رءوس الأموال الغربية واليهودية المعروفة بـ"رءوس الأموال الساخنة"، والتي يضعها الأجانب في البنوك التركية للاستفادة من الفائدة الكبيرة ولكنها لا تدخل في أي صناعة أو مشروعات وعند حدوث أي أزمة سياسية في تركيا وشعور هذه الأموال بخطر على مصالحها تنسحب فورا من الأسواق التركية وعندها تؤدي إلى خلل في التوازن العام للاقتصاد فورا وتظهر أزمات اقتصادية خانقة تعيد الاقتصاد التركي إلى الوراء مثلما حصل عام 1999 وعام 2001.
بجانب نجاحه في جذب الودائع العربية والإسلامية خاصة التي خرجت من بنوك الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر، لتحقيق التوازن بينها وبين الأموال الغربية واليهودية، وبلغت الأموال العربية عام 2006 ما يقرب من 20 مليار دولار من أصل 50 مليار هي قيمة إجمالي الودائع في البنوك التركية.
الهزائم تلاحق العلمانيين
ويضاف إلى هذا أنه يسير بتركيا على طريق إعادة الهوية الإسلامية عبر التمسك بالديمقراطية ومبادئ العلمانية نفسها ما يضع مؤيديها في حرج بالغ ليس أمام الأتراك فقط وإنما أيضا أمام العالم بأكمله ، حيث نجحت حكومة حزب العدالة في أن تغير أو تعدل الكثير من مواد الدستور التى وضعها جنرالات الجيش وتم حتى الآن تغيير أو تعديل 75 مادة من مواد الدستور وعددها 176 مادة ، أبرزها ما يتعلق بالحد من صلاحيات الجيش في الحياة السياسية والاعتراف للأقليات القومية والدينية والمذهبية بحقوقها السياسية والثقافية ، كما كانت حرية العقيدة وهى أحد مبادئ العلمانية هى الأساس في التعديل الدستوري الذي تم بمقتضاه رفع الحظر عن ارتدا