وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ فكان لهذه النهضة الثقافية والحضارية أثراً كبيراً ودوراً عظيماً على مدى قرون عديدة، يقول المستشرق الأمريكي ستيفن همفريز عن عصر سيف الدولة (في زمنه كان من الممكن لحلب أن تجاري أي بلاط في إيطاليا في عصر النهضة). (1)
سياسة التشيّع والتسامح الديني
على الرغم من أن الحمدانيين كانوا من الشيعة الإثني عشرية، إلا أنهم لم يرغموا الناس على اتباع مذهبهم ولم يكرهوهم عليه ولم يحكموا بسياسة طائفية، فقد كانت سياسة الحمدانيين في حلب غاية في التسامح المذهبي والحرية الدينية، فكان أكثر أهل حلب من الحنفية والشافعية ولم يغير هؤلاء الناس مذهبهم بعد دخول الحمدانيين حلب وحافظوا عليها ثم ساد التشيع واعتنقه أغلب الناس.
كما لم يحدث في مجتمع حلب أي مشاحنات أو مصادمات بين الشيعة والسنة بل لا تجد أي نعرات طائفية أو أي أحد ممن يثيرها فقد كان مجتمعا خالياً من أي نوع من أنواع التعصب المذهبي، ومما يدل على نزوع الحمدانيين إلى الحرية الفكرية والدينية أن تولى منصب القضاء في حلب القاضي أحمد بن إسحاق الملقب بـ (أبي الجود) وكان حنفي المذهب.
ورغم أننا نجد ابن كثير يشيد بهذا التسامح الديني في سياسة سيف الدولة إلا أنه من الغريب أن يعزو ذلك إلى الغرابة كونه شيعياً فيقول عن سيف الدولة:(أحد الأمراء الشجعان والملوك الكثيري الإحسان على ما كان فيه من تشيّع، وقد ملك دمشق في بعض السنين واتفق له أشياء غريبة منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء ومنها أن شاعره كان المتنبي وكان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل)! (2)
فكأنه يريد أن يعزل صفات الشجاعة والجود والتسامح المذهبي والحرية في الرأي وغيرها من الصفات التي اتصف بها سيف الدولة عن التشيع !!
وهل اتصفت بهذه السياسة غير دول الشيعة الذين اقتبسوا من أمير المؤمنين (عليه السلام) مبادئ الحكم وهو القائل: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) أما غيرهم فقد طغت الطائفية على سياستهم ونكلوا بالشيعة واضطهدوهم كما فعل المجرم صلاح الدين الأيوبي الذي قتل الآلاف من الأبرياء لا لشيء إلا لأنهم شيعة.
كما لم يقتصر هذا التسامح في الرأي والمعتقد على المسلمين من سنة وشيعة بل عاش غير المسلمين من اليهود والنصارى هذا التسامح على الرغم من العداء والحرب التي شنها الروم البيزنطيين على البلاد الإسلامية وخاصة حلب، إلا أن الحمدانيين لم يكنوا لهؤلاء اليهود والنصارى من أهل حلب المسالمين سوى الاحترام ولم يمزجوا بين السياسة العدائية للنصارى الروم وبين الناس البسطاء الأبرياء، فعاش هؤلاء حياة آمنة مطمئنة في مدنهم، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم ولهم الحرية المطلقة في تمسكهم بدينهم وتقاليدهم ولغاتهم الآرامية والسريانية.
وكان الحمدانيون يقربون الكفاءات ويجزون المخلصين لوطنهم ويكافئون المبدعين بغض النظر عن دينهم وانتمائهم فكان أقرب الناس إلى سيف الدولة ابن دنحا وكان نصرانياً، كما كان كبير أطبائه عيسى الرقي وهو نصراني أيضاً، وهناك الكثير من العلماء من النصارى في شتى العلوم عاشوا في ظل الدولة الحمدانية حياة حرة كريمة استطاعوا أن يؤلفوا ويبدعوا منهم الفلكي والرياضي ديونيسيوس بطريرك اليعاقبة والمجتبي الأنطاكي وقيس الماروني وغيرهم.
العصر الذهبي
ورغم كل الظروف العصيبة التي مر بها سيف الدولة بسبب حروبه مع الروم وحروبه مع الأخشيدين والفتن التي أثارتها بعض القبائل ضده إلا أن حلب عاشت عصرها الذهبي في عهده وقد فاقت في حضارتها حواضر العالم الإسلامي وازدهرت فيها العلوم والآداب والفنون وراج فيها العلم والتعليم ووجد الكتاب والشعراء والمؤرخون والفلاسفة والعلماء في حلب ضالتهم المنشودة، فضم قصره أعلام العالم الإسلامي في شتى العلوم يقول الثعالبي: (لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر). (3)
وقد زخرت حلب بالعلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء وأعلام العصر، يقول محمد راغب الطباخ: (اجتمع له ــ أي سيف الدولة ــ ما لم يجتمع لغيره من الملوك فكان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، و خزّان كتبه الخالديان والصنوبري، وشعراؤه المتنبي وكشاجم والسلامي والوأواء الدمشقي والببغاء والنامي وابن نباتة السعدي وغيرهم). (4)
وإضافة إلى هؤلاء فقد ضمت ندوته العلمية والفكرية التي كان يعقدها في قصره كبار علماء اللغة والتاريخ في التاريخ الإسلامي أبرزهم: (أبو بكر الخوارزمي) شيخ أدباء نيسابور الذي يقول في رسائله عن تلك الندوة العلمية التي كانت تعقد في قصر سيف الدولة: (ما فتق قلبي وشحذ فهمي وصقل ذهني وأرهف لساني وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي وامتزجت بأجزاء نفسي). فكان لسيف الدولة دوراً كبيراً في ارتقاء الشعر العربي واستحداث فنون جديدة وسعت دائرته وأخرجته في محيط التقليد والجمود.
ومن علماء اللغة الكبار والأدباء التي ضمتهم ندوة سيف الدولة وأبدعوا في ظل دولته الشاعر والعالم واللغوي والناقد الكبير (أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني) صاحب كتاب (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، والعالم اللغوي الكبير (أبو الفتح ابن جني)، و(أبو علي الفارسي). و(ابن خالويه)، و(أبو على الحسين بن أحمد الفارسي)، و(عبد الواحد بن علي الحلبي) المعروف بـ(أبي الطيب اللغوي)، ومن الأدباء الكبار الذين برزوا في حلب (أبو الفرج الأصفهاني) صاحب كتاب (الأغاني) الذي أهداه إلى سيف الدولة، و(ابن نباتة)، ومن الجغرافيين، (ابن حوقل الموصلي) صاحب كتاب (المسالك والممالك)
ومن أبرز من ضمتهم هذه الندوة من الشعراء أعظم شاعر عرفته العربية على مدى تاريخها الطويل وهو (أبو الطيب المتنبي) الذي كتب خلال السنوات التسع التي قضاها في البلاط الحمداني (22) قصيدة في مدح سيف الدولة من غرر قصائده.
كما ضمّت ندوته ــ إضافة إلى المتنبي ــ الشاعر الفارس (أبي فراس الحمداني) الذي أسره الروم في إحدى المعارك ومات في الأسر، كما عاش في ظل دولة سيف الدولة أشهر خطاط عرفه التاريخ الإسلامي وكان الخطاط الخاص به ويصحب مخطوطاته أينما رحل وهو عبد الله بن مقله المعروف بـ (ابن مقلة) وهو أخو الوزير أبي علي محمد بن علي.
وظهر في عصر سيف الدولة أشهر الأطباء الذين عرفهم التاريخ الإسلامي مثل (عيسى الرَّقي) المعروف بـ (التفليسي)، و(أبو الحسين بن كشكرايا)، و(أبو بكر محمد بن زكريا الرازي) الذي يعد من أعظم أطباء الإسلام وأكثرهم شهرة وإنتاجاً، ومن الفلكيين والرياضيين: (أبو القاسم الرَّقي) (والمجتبى الإنطاكي) و(ديونيسيوس) و(قيس الماروني).
ومن أبرز الفلاسفة والمنطقيين الذين زخرت بهم حلب والذين أثروا الساحة الإسلامية بعلومهم الفيلسوف (أبو نصر الفارابي) ـ المعلم الثاني ـ ، و(ابن سينا) وغيرهم.
الندوة العلمية الكبرى
كان سيف الدولة أديباً شاعراً وقد ضمّ قصره مكتبة كبيرة زاخرة بأنواع الكتب، وقد تولّى أمانتها ثلاثة من كبار الأدباء والشعراء هم: الشاعر الكبير الصنوبري والخالديان (5)، وكان لندوته صدىً كبيراً وواسعاً في الأوساط العلمية والأدبية في البلدان الإسلامية، فكانوا يتناقلون أخبار هذه الندوة الكبرى التي ضمت هذه النخبة من كبار علماء وأدباء العالم الإسلامي.
فرغم أن بغداد كانت تعيش قمة عصرها الثقافي والحضاري في عصر البويهيين وكان مجلس وزيرها الصاحب بن عباد زاخراً بالعلماء والأدباء إلا أن الصاحب بن عباد ــ وهو الأديب والشاعر الكبير ــ كان لا ينفك يتزوّد من مجلس سيف الدولة ما تجود به ندوته من العلم والأدب.
يقول الثعالبي في يتيمته: (كان ـ أي الصاحب ـ يحرص على تحصيل الجديد من الشعر الذي يصدر عن شعراء الندوة ــ أي ندوة سيف الدولة ــ ويستملي الطارئين عليه من حلب ما يحفظونه من البدائع واللطائف حتى كتب دفتراً ضخم الحجم كان لا يفارق مجلسه ولا يملأ أحد منه عينيه غيره، وصار ما جمعه منه على طرف لسانه يحاضر منه ويستشهد به).
النهضة الحضارية الشاملة
ولم تقتصر النهضة الحضارية في حلب على ميدان الثقافة والفكر، فقد شهدت حلب في عصر سيف الدولة ازدهاراً ونمواً لم تشهده في تاريخها الطويل، وقد شمل هذا الازدهار والنمو شتى ميادين الحياة، فقد اهتم سيف الدولة بالعمران فقام بتشييد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية لرد هجمات الروم كما شهدت الحياة الاقتصادية ازدهاراً ملحوظاً في العديد من المجالات، فمن ناحية الزراعة كثرت المزروعات، وتنوّعت المحاصيل فجادت الزراعة بالخيرات الوفيرة على حلب كما وظهرت الصناعات العديدة ونشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمة في حلب والموصل والرقة وحرّان وغيرها.
ازدهار الفقه الشيعي
كما اشتهرت حلب بالفقه الشيعي وتشيَّعَ أهلها كلهم حيث أدّت جهود سيف الدولة النشطة لرعاية العلم والثقافة إلى نشر الفكر الشيعي وبقي التشيّع سائداً في حلب حتى بعد زوال الدولة الحمدانية وبقي متغلغلاً في نفوسهم، وتدلنا على ذلك رسالة ابن بطلان الطبيب البغدادي وفيها يذكر فيها ما رآه في سفره إلى حلب فيقول من ضمنها: (والفقهاء فيها يفتون على مذهب الإمامية)، (6) وقد أورد هذه الرسالة ابن القفطي (7) وياقوت الحموي (8).
وقال ابن جبير في رحلته يصف حلب التي زارها سنة (٥٨٠ هـ ــ 1184 م): (للشيعة في هذه البلاد أُمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها، وقد عمّوا البلاد بمذاهبهم)
وذكر ابن كثير في تاريخه: (كان مذهب الرفض فيها في أيام سلطنة الأمير سيف الدولة بن حمدان رائجاً رواجاً تاماً)
تمسك الحلبيين بتشيِّعهم
يذكر ابن كثير: (أنه لما فرغ بال صلاح الدين الأيوبي من مهمات ولاية مصر توجه نحو بلاد الشام ثم جاء إلى حلب ونزل في ظاهرها فاضطرب والي حلب وطلب أهلها إلى ميدان باب العراق وأظهر لهم المحبة واللين وبكى كثيراً ورغبهم في قتال صلاح الدين وتعهد لهم بكل ما يلزم، وشرط الروافض عليه شروطاً وهي: إعادة الآذان بحي على خير العمل وأن يقولوها في مساجدهم وأسواقهم، وأن يكون لهم جامع الجانب الشرقي الذي هو الجامع الأعظم، وأن ينادوا بأسماء الأئمة الاثني عشر أمام الجنائز ويكبروا على الجنازة خمس تكبيرات، وأن يكون أمر عقودهم وأنكحتهم مفوّضاً إلى الشريفين أبي الطاهر وأبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني اللذين هما مقتدى شيعة حلب، فقبل الوالي جميع ذلك وأذنوا في تمام البلد بحي على خير العمل). (9)
الحرب على الشيعة والتشيع
نقل السيد محسن الأمين (10) عن كامل البالي الحلبي الغزي (11) قوله: (لم يزل الشيعة بعد عهد سيف الدولة في تصلّبهم حتى حل عصبتهم وأبطل أعمالهم نور الدين زنكي سنة (543هـ) ومن ذلك الوقت ضعف أمرهم غير أنهم ما برحوا يجاهرون بمعتقداتهم إلى حدود (600هـ) فأخفوها).
ونور الدين زنكي هذا هو من سلالة السلاجقة الأتراك وهو الذي مهّد لرفيقه في الإجرام صلاح الدين الأيوبي حربه على الشيعة
ثم يذكر البالي: (أن مصطفى بن يحيى بن قاسم الحلبي الشهير بطه زاده فتك بهم في حدود الألف فاخفوا أمرهم).
ويواصل السيد محسن الأمين كلامه عن حال الشيعة في حلب فيقول نقلاً عن البالي: (وذكر بعض ما كان يفعله الحلبيون مع الشيعة من الأعمال الوحشية والمخازي والقبائح التي سوّدت وجه الإنسانية ويخجل القلم من نقلها، وقد كان في الحجة والبرهان لو كان ما يغني عن الأذى والأضرار والأعمال الوحشية).
ويقول السيد نور الله المرعشي التستري: (أهل حلب كانوا في الأصل شيعة وإلى أواخر زمان الخلفاء العباسية كانوا على مذهب الإمامية، والظاهر أنه في زمان انتقال تلك الولاية إلى حكم السلاطين العثمانية أجبروا على ترك مذهبهم وما مر من فعل طه زاده يؤيد ذلك فان استيلاء العثمانيين على حلب كان في أوائل المائة العاشرة). (12)
ويقول السيد حسن الأمين: (وبالجملة سبب انقراض الشيعة من حلب هو ظلم الملوك وجورهم وتعصّب العامة وابتداؤه أوائل القرن السادس وشدّته في القرن السابع وتناهيه في أوائل القرن العاشر، ولكن العادة قاضية أنه لا بد أن يكون بقي فيها جماعات من الشيعة تحت ستر الخوف والتقية فإما أنهم بقوا على تشيّعهم حتى اليوم مستترين أو أخرجهم عن التشيّع تعاقب السنين)
بقايا الأسر الشيعية في حلب
ينقل السيد محسن الأمين عن البالي أيضاً قوله : (أنه لم يزل يوجد في حلب عدة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع ويتحامون الزواج معهم مع أن ظاهرهم على كمال الاستقامة وموافقة أهل السنة فانظر واعجب، وينسب إلى حلب من رواة الشيعة الأقدمين آل أبي شعبة في أواسط المائة الثانية وهم: عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي، وأخوته محمد وعمران وعبد الأعلى، وأبوه علي بن أبي شعبة، وعمه عمر بن أبي شعبة الحلبي، وابن أخيه أحمد بن عمران بن علي بن أبي شعبة، وهم بيت مذكور في الشيعة وكان عبيد الله كبيرهم ووجههم صنّف كتاباً فيما رواه عن أئمة أهل البيت مشهور، وهو أول ما صنفه الشيعة، وكانوا من أهل الكوفة يتجرون إلى حلب فنسبوا إليها).
علماء الشيعة في حلب
خرج من حلب عدة من علماء الشيعة وفقهائهم، ومنهم الشيخ كردي بن عكبري بن كردي الفارسي الفقيه الثقة الصالح قرأ على الشيخ الطوسي وبينهما مكاتبات ومسائل وجوابات. وكان في حلب سادات آل زهرة كانوا نقباء وخرج منهم جملة من العلماء منهم السيد أبو المكارم حمزة صاحب الغنية وقبره بسفح جبل الجوشن إلى اليوم، وذرية بني زهرة الآن يوجدون في الفوعة من قرى حلب وهم أهل جلالة ومكانة لكنهم ليسوا بأهل علم، وعندهم كتاب نسب عظيم جليل قديم عليه خطوط نقباء حلب وعلمائها، وكانت لهم أوقاف جليلة في حلب مغتصبة منهم ويوجد في جهات حلب عدة قرى أهلها شيعة من قديم الزمان إلى اليوم وهي: الفوعة، نبل، النغاولة، كفريا، وبعض معرّة مصرين وهم أهل المحلة القبلية.
ومن كبار فقهاء حلب الشيعة أيضاً العالم والفقيه الكبير أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي (374 ــ 447) الذي ترك العديد من الآثار والمؤلفات منها: (الكافي)، و(التهذيب) و(المرشد) و(تقريب المعارف)، وغيرها.
عمليات إبادة الشيعة في حلب
وقد جرى للشيعة في حلب من المجازر والكوارث ما يفوق التصور على يد الأيوبيين والعثمانيين مما أدى إلى انحسار التشيع فيها، يقول محمد كرد علي: (كان أهل حلب سنة حنفية، حتى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح ـ في عهد سيف الدولة ـ فصار فيها شيعة وشافعية، وأتى صلاح الدين، وخلفاؤه فأتى فيها على التشيّع، كما أتى عليه في مصر، وكان المؤذن في جوامع حلب الشهباء يؤذّن بحيّ على خير العمل، وحاول السلجوقيون مرات، القضاء على التشيّع، فلم يوفَّقوا إلى ذلك، وكان حكم بني حمدان وهم شيعة، من جملة الاَسباب الداعية إلى تأصل التشيّع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل «جوشن» بظاهر حلب ذكر الاَئمّة الاثني عشر، وقد خرب الآن) (13)
وقد دخل صلاح الدين الأيوبي إلى حلب عام (579) وفرض التسنّن وعقيدة الأشعري على الناس وعمل جاهداً على محو أي أثر للشيعة وأمر بقتلهم وإبادتهم كما فعل بمصر يقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي (فقد غال الاَيوبيّون في القضاء على كلّ أثر للشيعة). (14)
الدولة الحمدانية .., درع الإسلام
إن المتتبع للخط التاريخي في الإسلام يجد أن بوصلة البحث عن جذوره ودعائمه وثقافته وحضارته وفكره وبطولاته وفلسفته وأدبه تشير إلى الشيعة، فهم قطب الإسلام في كل عصر، وهم بناة حضارته في كل زمان ومكان، وهم يده التي بها يصول ودرعه التي يرد بها كيد الأعداء، فقد مثّل التشيّع مدرسة الإسلام التي تخرج منها أفذاذ الرجال في شتى مجالات الحياة، فهم في العلم قادته وفي الدين حماته والذائدين عنه وفي كل فضيلة ساداتها، وهم واضعوا أسس العدل والحضارة وهم الثائرون على كل ظلم وطغيان واستبداد في كل زمان ومكان.
وكان للدول التي أقاموها دوراً كبيراً وعظيماً في بناء الحضارة الإسلامية والإنسانية، كما كان لها الدور الكبير في الدفاع عن الإسلام والشريعة المحمدية، ولولا المواقف البطولية التي وقفها رجال الشيعة في الذود عن حياض الإسلام والتصدي للهجمات التي شُنّت ضده لاجتاحت موجات الكفر بلاد المسلمين ولانتفت منها المبادئ الإسلامية السامية التي دعا إليها الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله).
فحينما يهدد الإسلام أي خطر فإن أول من يهب لدرء ذلك الخطر عنه هم الشيعة فيدافعون عنه وهم بأعلى درجات اليقين والحق والعدالة والعقيدة ويضحون بدمائهم وأنفسهم في سبيل أن تبقى شعلة الإسلام متوقّدة وشريعته متوهجة ورايته مرفوعة وهذه الحقيقة أثبتتها الحقائق التاريخية عبر العصور.
سيف الدولة الحمداني قاهر الروم
ومن هذه المواقف العظيمة التي وقفها رجال الشيعة وهم يذودون عن حمى الإسلام الملاحم التي خاضها البطل الشيعي الأمير سيف الدولة الحمداني ضد الروم والتي بلغت أربعين معركة ضارية استطاع خلالها أن يشتت شملهم ويوقع بهم هزائم نكراء وأن يدحر جيوشهم الجرارة في عقر دارها وأن يرفع ألوية النصر فوق ربوع الإسلام، وجعل الروم يحسبون للمسلمين ألف حساب وحساب قبل أن يفكروا بقرع طبول الحرب.
خاض سيف الدولة الحمداني أولى حروبه ولم يبلغ الخامسة والعشرين من عمره عندما عبّأ الروم جيشاً كبيراً ضمّ أكثر من مائتي ألف مقاتل لحرب المسلمين، لكن سيف الدولة لم يكن ليرهبه هذا الجيش الجرار الذي يفوق جيشه كثيراً في العدة والعدد، فيلتقي الجيشان، وعندما رأى سيف الدولة كثرة جيش الروم وقد رصت صفوفه على شكل مجاميع وفرق وفصائل وما إلى غيرها وضع خطته في حينها للقضاء عليه قضاءً مبرماً، فرجع بجيشه إلى الخلف وأوهم الروم إنه يريد الفرار بجيشه وكانت خطته هي أن يجمع تلك المجاميع في مكان واحد ومن ثم ينقض عليها انقضاض الصقر على طريدته.
وقد نجحت خطته فلما رأى قادة جيش الروم أن جيش المسلمين يتراجع أمروا تلك المجاميع التي يتكون منها جيشهم بالهجوم فتحركت تلك المجاميع وتجمعت في الأرض التي اختارها سيف الدولة للقتال وهي بين حصني زياد وسلام (وهو حصن بأرض أرمينية عُرف في القرن السابع الهجري باسم خرْتبرت وهو بين آمد وملطية)، وعندما تم سحب جيش الروم كله إلى هذه الأرض وفق ما أراد سيف الدولة وقعت بهم زلزلة المسلمين، فلم يحس قادة الروم وجنودهم إلا وسيوف المسلمين تقطف برؤوسهم وقد أحيط بهم من كل جانب.
كانت حركة ارتدادية سريعة فاجأت الروم فجفلوا ووجموا أمام صيحات التكبير وبريق السيوف وما هي إلا مدة يسيرة حتى تحول ذلك الجيش الكبير المنظّم الصفوف إلى جثث وأشلاء من القتلى والجرحى امتلأت بها أرض المعركة، وتم أسر سبعين بطريقاً (15) وأخذ المسلمون سرير وكرسي الدمستق وهو القائد الأعلى للنصارى وكان ذلك عام (326 هـ).
ويتوغّل سيف الدولة في بلاد البيزنطينيين لكسر شوكتهم في عقر دارهم حتى يصل إلى مدن لم تطأها أقدام المسلمين من قبل فيصل إلى مدينة (قاليقلا) ومنها إلى مدينة (هفجيج) التي كانت لا تزال في طور الإنشاء ولا زال الروم يذلون الجهود في بنائها، فلما سمعوا أن سيف الدولة في الطريق إليها خربوا ما قاموا بإنشائه فيها من البناء ولاذوا بالفرار وقد ذكر الشاعر النامي هذه الأحداث في شعره فقال مخاطباً سيف الدولة:
نادَى الهُدى مُستصرِخاً فأجبته بقاليقلا إذ أنتَ بالخيلِ سهّما
ولـم تـتـعـدّ هفجيج أيدي بناتها أبـدتـهمٌ تحتَ السنابكِ رُغّما
فلما سمع ملك الروم بذلك أرسل رسالة يهدد فيها سيف الدولة من مغبة ذلك، لكن سيف الدولة لم يعبأ بهذا التهديد فيرد بجواب شجاع دل على أنه مصر على دك معاقل الروم، لكن ملك الروم يستبد به الغضب وتأخذه العزة بجيوشه فيقول: (يكاتبني هذه المكاتبة كأنه قد نزل على قلونيه) !! وقلونيه هي مدينة في أسبانيا من معاقل الروم المنيعة.
وكان قوله هذا على صيغة الاستعظام والاستحالة أو لربما كان مكيدة لاستدراج سيف الدولة على المغامرة، ومن ثم الايقاع به وبجيشه عند وصوله إلى هذه المدينة البعيدة والحصينة، ويصل هذا القول إلى أسماع سيف الدولة وتكون المفاجأة، إذ يعزم على السير إلى تلك المدينة !! هال الأمر على القادة المسلمين واستعظموه واستفظعوه فحاولوا جهد إمكانهم ثني الأمير عن عزمه عن هذه المخاطرة، ولكن كل محاولاتهم ذهبت أدراج الرياح فقد كان سيف الدولة مصرّاً كل الإصرار على عزمه فأجابهم قائلاً: (لست أقلع عن قصد هذه المدينة، فإما الظفر وإما الشهادة).
وينفذ سيف الدولة ما عزم عليه فيسير إلى تلك المدينة ويدك حصونها ويفتحها ويرفع ألوية النصر للمسلمين فيها، لكنه لا ينس أن يكتب لملك الروم بهذا النصر وسقوط هذا المعقل الذي كان يتباهى بمنعته وعزه وها هو يسقط في أيدي المسلمين، ويعود سيف الدولة إلى بلاده تحفه بشائر الفتح وقصائد الشعراء الذين ترنموا بهذا النصر وفي مقدمتهم المتنبي.
ويواصل سيف الدولة انتصاراته على الروم حتى وصل إلى الأناضول والقسطنطينية نفسها مقر عاصمة الروم، فكان مجرد اسمه يثير الرعب في قلوب قادة الروم حتى أنه كان الوحيد الذي أولاه تاريخهم من الأهمية التي لا تكون إلا لمن له يد في حركة التاريخ وقلب الموازين العظيمة، فقد أوقف تحرك الروم ورد هجماتهم ودحرهم في عقر دارهم فدخل التاريخ من أوسع أبوابه قائداً عربياً مسلماً فذاً.
وقد عاصر سيف الدولة أقوى امبراطورين عرفهما الروم وهما: نقفور فوقاس، وحنا شميشق، وقد استطاع أن ينتصر عليهم ويلحق بهم هزيمة كبيرة.
سيف الدولة في تاريخ الروم
يقول المؤرخ الفرنسي غوستاف شلومبرغر (1844 ــ 1929)، المتخصص في تاريخ الحروب الصليبية والإمبراطورية البيزنطية وهو يصف سيف الدولة الحمداني:
(والمتصفّح لمقتطفات التاريخ البيزنطي في منتصف القرن العاشر ولأكثر من عشرين عاماً من (334 ــ 356 هـ / 945 ــ 967 م) يجد اسماً وحيداً ــ وأكرر ذلك ــ يطفو على كل صفحة من صفحات ذلك التاريخ كإنسان شجاع لا يمل ولا يكل ولا يتعب، وكان عدواً لدوداً للإمبراطورية البيزنطية، ذلك هو أمير حلب سيف الدولة ابن حمدان الذي كان الذي كان قاسياً طموحاً على المال للإنفاق على جيوشه، وكان يتمتع بشجاعة فائقة لا يعرف الخور إليها سبيلا). (16)
وفي الحقيقة إن الوصف الأخير كان فيه بعض المغالطات لأنه جاء على لسان الآخر فمن الطبيعي أن ينعته بهذا النعت رغم إنه لا يحتوي على ما يعيب سيف الدولة فإذا كان قاسياً فهو مع العدو وإذا كان طموحاً للحصول على المال فهو كما يقول الآخر للإنفاق على الجيش الذي صان به الإسلام من غزوات الروم فلم يدفع بذلك الجيش خطر الروم على سوريا فقط، بل على كل البلاد الإسلامية فلو دخل الروم سوريا لدخلوا العراق ومصر والبلاد الإسلامية الأخرى ومنها القدس هدفهم وطموحهم.
ويؤكد هذا القول الدكتور فيصل السامر حيث يقول: (لعل أهمية الدولة الحمدانية (في حلب) لا يكمن في كونها مجرد دولة مستقلة من تلك الدويلات الكثيرة التي ظهرت أبان ضعف السلطة المركزية وضياع هيبة الخلفاء العباسيين فحسب، ولا مجرد كونها مركزاً هاماً من مراكز الاشعاع الثقافي والجذب الفكري في تلك الحقبة الزاهرة حضارياً من تاريخ الدولة العربية الإسلامية، بل لكونها إحدى الدويلات العربية القلائل التي قامت على حساب الخلافة العباسية ولأنها وقفت سداً منيعاً في وجه الغزو البيزنطي الذي كان يستهدف بيت المقدس). (17)
فالذي حمى بيت المقدس وصانه من أيدي الروم هو سيف الدولة الحمداني والشيعة وهذه الحقيقة لا غبار عليها وهو الذي كان ينظر إلى المسلمين على أنهم أمة واحدة بغض النظر عن اختلاف مذاهبهم، وكان هدفه الأول والأخير هو حماية البلاد الإسلامية من البيزنطيين لا كمن يتبجّح به الغير على أنه صد الحروب الصليبية وقد قاتل المسلمين الشيعة وعاث في الأرض فساداً وهو المجرم صلاح الدين الأيوبي.
يقول الباحث السوري سامي الكيالي عضو الجمعية التاريخية السورية: (من البطولات الفذة التي كان لها شأنها الخطير في دفع الغزو البيزنطي عن الأرض العربية، بطولة سيف الدولة الحمداني، هذا القائد العربي المغوار الذي وقف وحده في الميدان يحارب جيوش الإمبراطورية البيزنطية الكبرى في فترة كانت الدولة العباسية قد تمزّقت وتهدّدتها الأطماع من كل طرف). (18)
ولم يكن سيف الدولة الحمداني هو أول من خاض غمار الحروب مع الروم من بني حمدان وإن كان في طليعتهم فقد كان لهذه الأسرة تاريخ حافل في ميادين القتال مع الروم دفاعاً عن الإسلام وقد ورث سيف الدولة شجاعته في الحرب وحميته على الإسلام من أبيه وجده وأفراد أسرته الحمدانيين.
الحمدانيون
يرجع نسب الحمدانيين إلى حمدان بن حمدون التغلبي فهو حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان بن الرشيد بن المثنى بن رافع بن الحارث بن عطيف مجزئة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وقد سكنت قبيلة تغلب ديار ربيعة قبل الإسلام.
وكان حمدان أميراً على ماردين في الموصل وقد خاض الكثير من الحروب مع الروم حرر فيها الكثير من المدن من أيديهم كما توغل خلالها إلى الكثير من أراضيهم وكان له الفضل في بنائها وحمايتها وتحصينها، ومن أبرز آثاره السور العظيم الذي بناه على مدينة (ملطية). وكان حمدان يطمح إلى الاستقلال بالموصل وفصلها عن الخلافة العباسية.
وبدأت شرارة تلك الأسرة في التوهج في التاريخ عام (254 هـ) حينما ثار مساور بن عبد الحميد الشاري وهو رجل من الخوارج في الموصل واستولى عليها فتصدى له حمدان بن حمدون ومعه ابن عمه الحسن بن أيوب التغلبي وجرت بين الفريقين معارك طاحنة لم تسفر عن شيء حتى استطاع حمدان قمع ثورة مساور الشاري ودخول الموصل بتحالفه مع هارون الشاري، وقد استطاع بهذا التحالف أن يكسر شوكة بني شيبان وهزيمتهم حينما أرادوا احتلال الموصل.
وبقيت هذه الانتصارات تؤرق الخليفة العباسي في بغداد فبقاء هذا التحالف يشكل خطراً على الخلافة العباسية فجهّز الخليفة المعتضد جيشاً كبيراً وقاده بنفسه لمقاتلة حمدان عام (281 هـ) واستطاع الخليفة دخول الموصل وماردين مقر حمدان ونقل ما بها من أموال ونفائس وهدمها، أما حمدان فقد هرب بعد أن رأى أنه لا يستطيع الصمود بمن معه أمام هذا الجيش الكبير وبقي يهرب من بلد إلى آخر وقد ضاقت به السبل وانقطعت به طرق النجاة بعد أن تفرق أصحابه عنه وعجزت قلاعه عن حمايته وسقطت بيد العباسيين، فعندما يصبح الإنسان مطلوباً للسلطان تضيق به الأرض ولا تسعه الفلوات، فلما يئس حمدان من النجاة لم يجد مخرجاً سوى تسليم نفسه للخليفة الذي وضعه في السجن، أما هارون الشاري فقد استجمع قواه ولا يزال خطره يهدد الدولة العباسية.
الحسين بن حمدان
كان لحمدان ثمانية أولاد هم: أبو الهيجاء عبد الله والد سيف الدولة، وأبو إسحق إبراهيم، وأبو العلاء سعيد والد أبي فراس، وأبو الوليد سليمان، وأبو السرايا نصر، وعلي، وأبو علي الحسين، وأبو سليمان المزرفن.
وكانوا كلهم قادة شجعان خاضوا غمار الحرب مع أبيهم ومن أبرزهم الحسين فأرسله الخليفة المعتضد لقتال هارون الشاري فانتصر عليه الحسين، فكافأه المعتضد بإطلاق سراح أبيه حمدان ثم خاض بعدها الكثير من الحروب فكان النصر حليفه فاشتهر وذاع صيته، ومن أبرز انتصاراته التي توّج بها قيادته هي دحر القرامطة حيث أوقع بهم هزيمة نكراء وطاردهم إلى الشام والأردن وقتل زعيمهم صاحب الشامة الذي جُبي له الخراج ولقب بأمير المؤمنين.
ثم ينتصر الحسين على الطولونيين انتصاراً ساحقاً ويتبع فلولهم حتى عقر دارهم فيدخل مصر ويلي أمرها ثم يرجع، كما يتجه نحو فارس فتزداد شهرته ونفوذه وفرسانه فيطلب منه أهل فارس الإقامة معهم وألحوا عليه في ذلك لكنه رفض الإقامة في كل البلاد التي دخلها كمصر وفارس وحلب التي تولى إمارتها ثم تركها، فقد كان طموحه لا يتوقف عند ولاية فرفض كل المغريات التي قدمت له للبقاء في مدينة وكان يعيش مستقلاً عن قيادة تقوده وكأنه قد خلق لأكثر وأكبر من ولاية فكان يرغب بالإقامة قريباً من بغداد لغاية في نفسه.
في عام (296 هـ) شارك الحسين مع بعض القادة في خلع الخليفة المقتدر، لكن تلك المحاولة باءت بالفشل فيعود المعتضد إلى الخلافة فيطلب الحسين بن حمدان ومن شارك معه في الانقلاب، لكن الحسين يهرب، ويجد الخليفة في طلبه حتى يتشفّع له الوزير ابن الفرات فيعفو عنه الخليفة، فيعود إلى بغداد ثم يرسله الخليفة والياً على قم وقاشان في إيران.
سعيد بن حمدان
ولم تختلف حياة أخوة الحسين السبعة عن حياته في خوض غمار الحروب الكثيرة التي أبدوا فيها الشجاعة النادرة التي صارت مضرب الأمثال، ومن هذه الحروب حرب أبي العلاء سعيد بن حمدان والد الشاعر والفارس أبي فراس الحمداني مع بني سليم الذين تعرضوا للحجاج لسلبهم ونهبهم، وكان سعيد من ضمن الحجاج فرد كيدهم إلى نحورهم وقد ذكر هذه الوقعة وغيرها من الوقائع الكثيرة التي خاضها بنو حمدان أبو فراس الحمداني في شعره وهي مضمنة في ديوانه يقول في حدى قصائده:
أولئك أعمامي ووالديَ الذي حمى جنباتِ الملكِ والملكُ شاغرُ
لـه بـسـلـيـمٍ وقــعـةٌ جـاهـليةٌ تـقـرّ بـهـا (قـيدٌ) وتشهدُ (حاجرُ)
وقد تولى سعيد إمارة الموصل قبل ابن أخيه الحسن ناصر الدولة.
أبو الهيجاء
ومن شجعان بني حمدان عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة الملقب بـ (أبي الهيجاء) لشجاعته وقد تولى إمارة الموصل لأكثر من ثلاث مرات يولّى ويُعزل، وقد خاض حروباً عديدة أبرزها حربه مع الأكراد الذين أغاروا على حلب فدحرهم وطاردهم حتى أرمينية ولازال يطاردهم حتى طلبوا منه الأمان فتركهم.
كما لاحق مع أخيه داود بني كلاب الذين كانوا يهاجمون الحجاج للسلب والنهب فقمعهم وكفى المسلمين شرهم، وقد تولى أبو الهيجاء في حياته إمارات حلب وديار بكر وربيعة وخراسان والدينور إضافة إلى الموصل التي تولى إمرتها طويلا واستقامت له لمدة طويلة، كما عرضت عليه إمارات كثيرة منها نهاوند وقم وقاشان وأرمينية وآذربيجان وخراسان ومصر لكنه لم يستقر أبداً في هذه الإمارات فقد كان يفضل البقاء في بغداد وكان ينيب على الموصل مكانه ابنه الحسن ناصر الدولة.
كان بنو حمدان عموماً يفضّلون الموصل لأن أهلها من العرب الموالين لهم مثل ديار ربيعة وبكر ومضر، ولأن الموصل كانت غنية بصادراتها يقول المقدسي: (وهي ـ أي الموصل ـ غنية بخيراتها حتى أن ميرة بغداد كانت منها). (19)
كان أبو الهيجاء يخطط للثورة على الحكم العباسي وإسقاطه وخلع المقتدر وكانت له عدة محاولات باءت بالفشل فكان في كل مرة يُلقى به في السجن وكان آخرها عام (317 هـ) حيث تم قتله على يد المقتدر.
بداية الدولة الحمدانية في الموصل
كان أبو الهيجاء قد تولّى الموصل في عهد المكتفي لأول مرة عام (293 هـ)، وقد عدّ بعض المؤرخين أن ولايته تلك هي بداية الدولة الحمدانية حيث لم تخرج الموصل منذ تلك السنة عن أيدي بني حمدان، وبعد مقتل أبي الهيجاء تولّى ابنه الحسن (ناصر الدولة) إمارة الموصل التي لم تستقر له إلا بعد حروب طاحنة خاضها مع الخارجين على دولته لسنوات طوال، ولم يخل له الجو حتى سنة (323 هـ) بعد أن قضى ناصر الدولة على كل المنافسين له وتعتبر تلك السنة في نظر البعض الآخر من المؤرخين هي البداية الفعلية للدولة الحمدانية في الموصل.
الخلافة العباسية ومرحلة الانهيار
كانت الخلافة العباسية في بغداد في ذلك الوقت تعيش مرحلة الانهيار بعد أن قوي النفوذ التركي في دار الخلافة، وقد استحدث الأتراك في البلاط العباسي وظيفة جمعوا فيها كل الصلاحيات السياسية والعسكرية وأطلقوا عليها (أمير الأمراء) وهي صلاحيات الخلافة بحد ذاتها وكانوا يعهدون بها لرجل منهم حصراً حيث تولاها عدة أتراك منهم مؤنس الخادم|، وطريف السبكري، ومحمد بن رائق، وبجكم، وكورتكين الديلمي وغيرهم، وبلغت الخلافة من الضعف والوهن أن الخليفة كان ينفذ ما يقول له هؤلاء وغيرهم حتى أن الخليفة المستعين لم يكن له أمر دون اثنين من الأتراك كانا يمليان عليه ما يفعل وهما وصيف وبغا حتى قال الشاعر واصفاً تلك الحالة:
خليفة في قفصٍ بين وصيفٍ وبغا
يقول ما قالا له كـمـا تـقـولُ الببغا
وبلغت هذه الوظيفة ــ أمير الأمراء ــ من النفوذ في الخلافة العباسية أن صاحبها كان في بعض الأوقات تصدر باسمه السكة ــ أي العملة ــ ويخطب باسمه على المنابر، أما الخليفة فلا يملك أي من صلاحيات اسمه ومنصبه سوى اسميهما، وبقيت هذه الوظيفة في حيز الأتراك منذ أن استحدثت حتى عام (330 هـ) عندما هاجم البريديون بغداد في خلاف المتقي الذي لم تكن له القوة الكافية لدفع هذا الهجوم فلجأ إلى الموصل للإستعانة بأميرها ناصر الدولة بن أبي الهيجاء.
ناصر الدولة (أمير الأمراء)
يلبي ناصر الدولة طلب الخليفة فيسير في جيش كبير ومعه أخوه سيف الدولة الذي حمل لواء الجيش ومصطحباً الخليفة فاقتحموا بغداد وهزموا البريديين الذين لم يصمدوا طويلاً أمام هذا الجيش فلاذوا بالفرار ويصور تلك الحادثة الأمير أبو فراس الحمداني في قصيدته فيقول:
فـفـيـنـا لـديـنِ اللهِ عــزٌ ومنعةٌ وفينا لدينِ اللهِ (سيفٌ) و(ناصرُ)
وساسا أمورَ المسلمينَ سياسةً لـهـا اللهُ والإسـلامُ والـديـنُ شاكرُ
وبعد هزيمة البريديين وطردهم من بغداد على يد الحمدانيين تولّى الحسن ناصر الدولة وظيفة (أمير الأمراء) وأصبح هو الحاكم الفعلي في بغداد، ولكنه لم يبق في هذه الوظيفة سوى سنة واحدة فقد عاوده الحنين إلى أرض آبائه وأجداده في الموصل فترك بغداد واتجه مع أخيه إليها تاركاً الخليفة يواجه اعتداءات الأتراك عليه وتطاولهم على مركز الخلافة وتماديهم في الاستخفاف به ونفوذهم عليه، فكرر الخليفة طلبه في الاستعانة بالحمدانيين والاستنجاد بهم لدفع شر الأتراك عنه والقضاء عليهم واستمرت تلك الإستغاثات لكنها كلها ذهبت أدراج الرياح بسبب انشغال ناصر الدولة بتأسيس دولته الجديدة في الموصل ومحاربة الخارجين عليها.
البويهيون وبنو حمدان
لم يطل الأمر في بغداد بيد الأتراك فبعد أن غادرها ناصر الدولة ورجوع وظيفة (أمير الأمراء) بيد (توزون) التركي وعودة نفوذ الأتراك، فلم يلبثوا طويلاً حتى داهمها البويهيون سنة (334 هـ) لتقع بغداد في أيديهم، وما إن يستقر معز الدولة البويهي في بغداد ويوزّع الإمارات في البلاد على أخوته وأعوانه حتى يسير بجيش كبير إلى الموصل للقضاء على الدولة الحمدانية وضمّها إلى حكومته في بغداد.
هذا ما كان يُفهم من خروج معز الدولة فما هو موقف ناصر الدولة ؟ يسمع ناصر الدولة بخروج البويهيين لقتاله فيخرج بدوره لملاقاتهم، ولكن الجيشين لا يلتقيان ولا يتحاربان ولم تسقط منهما قطرة دم واحدة !! فقد حدث بينهما ما يشبه الأسطورة التي لا تحدث أبداً في التاريخ السياسي، فلم يكن الأميران البويهي والحمداني يريدان قتال بعضهما واستيلاء أحدهما على دولة الآخر، بل كانا يسعيان إلى إنهاء دور الخلافة العباسية من الوجود والعمل المشترك على دعم بعضهما، فقد سار معز الدولة من بغداد حتى دخل الموصل دون أن يجد أي مواجهة ضده، وسار ناصر الدولة من الموصل حتى دخل بغداد فقطع الخطبة للخليفة العباسي المطيع ثم تصالحا وعاد كل منهما إلى بلاده.
وبغض النظر عما كانت هذه الحادثة عن الاتفاق المسبق أم إنها جاءت في وقتها فإن هاتين الدولتين الشيعيتين قد رفضتا الحرب وآثرتا الصلح والتراضي وأن يعم السلام فيما بينها، ولكن الرياح لم تجر كما تشتهي سفن الدولة الحمدانية ولم تسر كما أراد وخطط لها ناصر الدولة، فلم تلبث الانشقاقات والصراعات أن دبت بين أفراد الأسرة الحمدانية وخاصة بين أبناء ناصر الدولة.
تفاقم الصراعات الداخلية وسقوط الدولة في الموصل مبكراً
كان لناصر الدولة عدة أولاد فعرض عليه أحدهم وهو أبو تغلب أن يهاجم بغداد ويستولي عليها وانتزاعها من عز الدولة بختيار الحاكم الجديد عليها بعد موت أبيه معز الدولة البويهي، ولكن ناصر الدولة وهو الرجل السياسي الحكيم الذي أنشأ دولته على احترام الآخر رفض هذا الطلب رفضاً شديداً، فتجرأ أبو تغلب على العقوق بوالده ومخالفة أمره، بل وصل به الأمر إلى تدبير مؤامرة للانقلاب وانتزاع الحكم من أبيه ووضعه في السجن، فوصل الخبر إلى أخيه حمدان بن ناصر الدولة الذي كان والياً على الرحبة فاشتد غضبه على أخيه وهبّ لنجدة أبيه فجرت بين الأخوين معارك شديدة أدت إلى ضعف الدولة الحمدانية واضمحلالها وتمزّقها.
وفي ظل استمرار المعارك بين الأخوين يموت الأمير ناصر الدولة الشيخ السجين في سنة (358 هـ)، فتتسع دائرة الصراع لتشمل بقية الأخوة من أبناء (ناصر الدولة)، وقد وجد الروم في هذا الصراع فرصة لمهاجمة ثغور الدولة فلم يترددوا في استغلال هذا الظرف فهاجموا أعمال الموصل عدة مرات استطاعوا فيها أن يقوّضوا بعضاً من هذه الدولة ويثلموا من سيادتها.
الاستعانة بالبويهيين
ويلجأ حمدان وإبراهيم ابنا ناصر الدولة إلى عز الدولة بختيار للاستعانة به على أخويهما أبي تغلب الذي كان متزوجاً من ابنة بختيار، فيعيد التاريخ نفسه بنفس الكرة مرة أخرى حيث يسير عز الدولة بختيار إلى الموصل ومعه حمدان و إبراهيم أخوا أبي تغلب ويسير أبو تغلب من الموصل إلى بغداد ويدخل كل منهما بلد الآخر تماماً كما حدث بين أبويهما قبل ذلك بتسع وعشرين سنة.
ويحاول عز الدولة بختيار إعادة المياه إلى مجاريها بين الأخوة فيتصالح مع صهره أبي تغلب ولكن كان للقدر كلمته فقد داهم عضد الدولة بغداد وقتل عز الدولة فهرب أبو تغلب، ويجد عضد الدولة في طلبه فيظل أبو تغلب شريداً في البلاد حتى يأسره بعض رجال الفاطميين في الرملة بفلسطين فيقتل ويقطع رأسه ويرسل إلى مصر، وبمقتل أبي تغلب تكون نهاية دولة الحمدانيين في الموصل وذلك سنة (367 هـ) حيث أدى ذلك الصراع الدموي إلى تدمير الدولة وضعفها عن مواجهة الغزو البيزنطي وجعلها طعمة لهم فانتهز الروم هذه الفرص فأغاروا على الموصل عدة مرات وقد حالفهم الحظ في بعضها حتى أدى إلى سقوطها وقد دامت الدولة الحمدانية في الموصل لمدة نصف قرن وحكمها أربعة من الأمراء هم:
1- أبو محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان (ناصر الدولة) (317هـ/ 929م).
2- عدة الدولة أبو تغلب الغضنفر بن الحسن (358- 369هـ/ 968- 979م).
3- أبو طاهر إبراهيم بن الحسن (371هـ/ 981م).
4- أبو عبد الله الحسين بن الحسن (380هـ/ 991م).
الدولة الحمدانية في حلب
في تلك الأثناء التي دب الصراع بين الحمدانيين في الموصل كان بطل الحمدانيين سيف الدولة يؤسس دولته في حلب وقد بنى دولة منيعة مترامية الأطراف لصد هجوم الروم، وكانت هذه الدولة تضم إضافة إلى حلب حمص وجند قنسرين والثغور والشامية والجزيرة وديار بكر وديار مضر والجزيرة، وقد أسس جيشاً قوياً لمواجهة الروم الذين كانوا يحاولون السيطرة على بلاد المشرق العربي بعد انهيار الخلافة العباسية، فكانت مهمته صعبة جداً وخطرة وهو يواجه جيوش الروم الكبيرة والجرارة، ولكنه كان من نوع الرجال الذين لا يلين أمام الصعاب مهما بلغت خطورتها، وإضافة إلى الروم فقد كان عليه أن يدفع عدواً آخر تمثل في الإخشيد الذي حاول مراراً وتكراراً الاستيلاء على حلب.
بطل بني حمدان
ولد سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان في ميافارقين (ديار ربيعة) سنة (351 هـ)، وورث شجاعته من أبيه الملقب بـ (أبي الهيجاء)، وقد قتل أبوه كما أسلفنا وهو لم يزل صغير فتعهد برعايته أخوه الحسن ناصر الدولة فعاش متنقلاً في طفولته وشبابه بين الموصل ونصيبين وميافارقين، ثم يوليه أخوه ناصر الدولة نصيبين، ورغم أنه قد نشأ في أسرة محاربة وكان هو في طليعة شجعانها، إلا أنه عُرف أيضاً منذ طفولته بشغفه للأدب، فكان فارساً شاعراً أديباً، وقد خاض غمار الحرب وقاد الجيوش في المعارك الكبيرة مع الروم ولم يبلغ الخامسة والعشرين من العمر وقد ذكرنا في بداية الموضوع بعض هذه المعارك التي بلغت أربعين معركة.
تعدد الجبهات
لم تقتصر حروب سيف الدولة مع الروم فقط، بل خاض العديد من الحروب مع البريديين تحت قيادة أخيه عندما هاجموا بغداد، وكان أعظم هذه المعارك هي قرب المدائن والتي قضى فيها على البريديين قضاءً مبرماً في معركة طاحنة استطاع فيها أن يأسر عدداً كبيراً من قوّادهم وطاردهم حتى واسط التي عسكروا بها، ثم يتأهب لملاحقتهم والقضاء عليهم نهائياً في عقر دارهم في البصرة، ولكنه يستشعر الخيانة من بعض جنوده فيقفل راجعاً إلى بغداد في جنح الليل، كما كان لسيف الدولة معارك دامية وطويلة مع الأخشيديين وهو يدافع عن دولته وإرساء دعائمها.
حلب والسجال الطويل
كانت معاركه مع البريديين قد صقلت شجاعته وأصبح خبيراً بأمور الحرب، وهذا ما جعله يشعر أن ولاية نصيبين التي أعطاها له أخوه هي دون حقه إذ كان طموحه أكبر من ذلك، وأخيراً سنحت له الفرصة فقد انهزم ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان أمام الأخشيد وكان والياً على حلب وأعمالها وديار مضر وكل ما يفتحه من الشام فيستولي الإخشيد على حلب ويولي عليها عثمان بن سعيد الكلالي فيسير إليه سيف الدولة فالتقى في حمص بمحمد بن طغج واليها من قبل الإخشيد مع مولاه كافور فهزمهم سيف الدولة وملك حمص وحاصر دمشق فلما سمع الإخشيد بانتصارات سيف الدولة وحصاره لدمشق خرج من مصر لقتاله فالتقيا بقنسرين ودارت بينهما معارك لم تؤد إلى نصر أي منهما فرجع سيف الدولة إلى الجزيرة ورجع الأخشيد إلى مصر ثم عاد سيف الدولة فاستولى على حلب وصادف عودته إليها هجوم الروم عليها فقاتلهم وهزمهم ولم يكد سيف الدولة يعيد تنظيم جيشه بعد حربه مع الروم حتى داهمه الإخشيد فاستولى على حلب ونكّل بأهلها لميلهم لسيف الدولة.
ولكن سيف الدولة لم يهدأ له بال حتى يسترجعها وأخيرا تقرر الصلح بينهما على أن تكون حلب وحمص وإنطاكية لسيف الدولة ودمشق للأخشيد وذلك سنة (334 هـ) والتي فيها مات الأخشيد فتولى ابنه أبو القاسم أنوجور، لكن كافور انتزع الملك منه ونقض صلح الأخشيد مع سيف الدولة وجهز جيشا لمقاتلة سيف الدولة، فاستطاع دخول حلب، غير أن سيف الدولة لم يمهله طويلاً حتى هزمه وأخرجه منها وهكذا بقيت الحرب سجالاً بينهما ثم تجدّد الصلح على نفس الصيغة التي كان متفقاً عليها بين سيف الدولة والأخشيد واستقر سيف الدولة في حلب.
سيف الدولة السد المنيع
كانت سياسة الأخشيديين من هذا الصلح هو رأيهم بأن تكون حلب القريبة من الدولة البيزنطية هي التي تتصدى لهجمات الروم وإيقافها من التوغل إلى بلاد المسلمين ومنها مصر، فكأنهم وضعوا على عاتق سيف الدولة هذه المهمة، وقد تصدى سيف الدولة لمحاولات البيزنطيين المتكررة للاستيلاء على الشام التي كانوا يطمعون فيها، ويذكرون من تاريخها أنهم حكموها طويلاً، فكان سيف الدولة بتوليه حلب سداً وحاجزاً دون عودتهم إلى هذه البلاد، فخدم بذلك الإسلام والعرب، يقول المؤرخ علي بن ظافر الأزدي: (كان سيف الدولة ردءاً للمسلمين بما رزقه الله من الهيبة عند العدو إلى أن مرض وضعف، ولما توفى اشتد استيلاء العدو على سائر البلاد والثغور). (20)
الثورة القبلية
إضافة إلى صراع سيف الدولة مع الأخشيديين فقد واجه عقبات أخرى تمثّلت في القبائل العربية الأخرى، فقد ضمّت حلب صنوفاً من الناس من العرب الوافدين عليها منذ ما قبل الإسلام، كتغلب وبكر، والجماعات الآرامية من سريانية وأرمينية إضافة إلى العناصر العربية التي دخلت الشام والجزيرة مع الفتوح وبعدها ولاسيما المجموعات القيسية الجديدة التي تدفقت في العقدين الثاني والثالث من القرن الرابع الهجري وسببت فوضى سياسية واقتصادية كبيرة، وقد نجح سيف الدولة بعد تأسيسه لإمارته أن يضبط هذه القبائل ضبطاً شديداً، كما حاول أن يتألّفهم حتى يستطيع الاعتماد عليهم في حروبه مع الروم ولاسيما قبيلة كلاب التي كانت قبيلة كبيرة مقيمة في المنطقة المحيطة بحلب وكادت تلك الثورة القبلية أن تسقط الدولة الحمدانية لولا شجاعة سيف الدولة وذكائه المعهود في معالجة مثل هذه الحالات وقد عد المؤرخون قمع هذه الثورة عملاً جلياً، كما وصفه المستشرق البريطاني هيو كينيدي: (قمة نجاح وسلطة سيف الدولة). (21)
الصعوبات والمواجهة
لقد واجه سيف الدولة الكثير من الصعوبات والمخاطر في سبيل تأسيس دولته ومن أجل الدفاع عن الإسلام ورد هجمات البيزنطيين الذين كانوا يعدون العدة للسيطرة على المشرق العربي (سوريا والعراق)، فاستطاع بالرغم من الحروب الداخلية التي شنها عليه الأخشيديون والقبائل العربية والخيانات المتكررة أن يرد هجمات الروم وأن يغزوهم في عقر دارهم ويوجه إليهم ضربات موجعة جعلتهم ينكفئون عن التفكير في غزو المسلمين، وكان سيف الدولة يدير إمارته معتمداً على أقربائه من الأمراء الحمدانيين الذين كانوا يتولون المناصب العليا في هذه الإمارة فهم حكام أقاليم وقت السلم، وقواد جيوش وقت الحرب، كذلك اعتمد سيف الدولة في تسيير أمور دولته على المماليك الأتراك لكي يقوموا بخدمته في القصر ويشكلوا حرساً خاصاً له، واعتمد على بعض غلمانه الذين رباهم ودرّبهم على قيادة الحملات العسكرية لما امتازوا به من ذكاء في قيادة الحروب ورسم الخطط ومطاردة الأعداء والإيقاع بهم.
الموت ونهاية الدولة
توفي هذا البطل عام (356 هـ / 967 م) عن (55) عاماً في حلب بعلة الفالج، ونقل جثمانه إلى ميافارقين مسقط رأسه حيث دفن فيها، عاش سيف الدولة وسط سوح الوغى وصليل السيوف ونقع الحرب حتى قيل إنه أوصى أن يجمع ما تعلق بثيابه من غبار الحروب التي خاضها في سبيل الله وتصنع منها لبنة توضع تحت رأسه في قبره، وتطوى بذلك صفحة مشرقة من أروع صفحات الجهاد والبطولة في التاريخ الإسلامي.
بعد وفاة سيف الدولة أصاب دولته ما أصاب الدولة الحمدانية في الموصل من الصراعات والانشقاقات التي أدت إلى ضعف الدولة وتمزقها بالحروب الداخلية بين أبناء البيت الحمداني، ولم يتمكن خلفاء سيف الدولة من مقاومة الفاطميين الذين استولوا على حلب سنة (406 هـ / 1003 م) ليعلنوا سقوط الدولة الحمدانية.
وكانت بداية وصول سيف الدولة إلى حلب عام (333 هـ) وهي بداية الدولة الحمدانية في حلب التي انتهت عام (406 هـ) وقد دامت دولتهم لمدة (73) سنة وقد حكم فيها خمسة من الأمراء هم:
1 ـ علي بن عبد الله بن حمدان (سيف الدولة): (333 ـ 356هـ)
2 ـ شريف بن علي (سعد الدولة) أبو المعالي
3 ـ أبو الفضائل بن أبي المعالي (سعيد الدولة)
4 ـ أبو الحسن علي
5 ـ أبو المعالي شريف
محمد طاهر الصفار
1 ــ التاريخ الإسلامي لستيفن همفريز وهو مؤرخ أمريكي حاصل على على شهادة الدكتوراه من جامعة ميشيغان عام 1969 وبروفيسور في جامعة كاليفورنيا وهو متخصص في تاريخ جنوب غرب آسيا وشمال أفريقيا.
2 ــ البداية والنهاية ج 11
3 ــ يتيمة الدهر ج 1 ص 37
4 ــ إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ج 1 ص 263
5 ــ الخالديان هما: أبو بكر محمد، وأبو عثمان سعيد، ابنا هاشم بن وعكة بن عرام بن عثمان بن بلال الموصليان.
6 ــ كتبها إلى هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ في بغداد سنة (440هـ) في دولة بني مرداس.
7 ــ تاريخ الحكماء
8 ــ معجم البلدان
9 ــ تاريخ ابن كثير / حوادث سنة (507 هـ)
10 ــ أعيان الشيعة
11 ــ نهر الذهب في تاريخ حلب
12 ــ مجالس المؤمنين
13 ــ خطط الشام
14 ــ الأزهر في ألف عام
15 ــ البطريق أو البطرك هو مقدَّم النصارى والقائم بأمرهم وجمعه بطارقة
16 ـــ كتاب الدمستق نقفور فوكاس
17 ــ الدولة الحمدانية ج 1 ص 3
18 ــ سيف الدولة وعصر الحمدانيين
19 ــ أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم
20 ــ أخبار الشجعان
21 ــ الفتوح العربية الكبرى
......
انتهى/ 278
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
الخميس
٢٩ أبريل ٢٠٢١
٦:١٨:٣٢ ص
1135953
عاشت حلب في عصر الدولة الحمدانية ذروة عصرها الحضاري والثقافي حيث لم يشهد تاريخها الطويل عصراً زخر بالأمجاد كالعصر الذي عاشته في عهد سيف الدولة الحمداني الذي أصبحت فيه من أهم المراكز العلمية والثقافية في العالم الإسلامي وملتقى رجال العلم والفكر والأدب.