وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ يكفي أن نعرف العمر القصير لهذه الحوزة الشابّة – إن صحّ التعبير- قياساً بالحوزات العلمية التي شيّدها كبار علماء الدين، فبعض هذه الحوزات لم تعمّر طويلاً، أو توقفت عن العطاء لأسباب عديدة لسنا في وارد ذكرها هنا. منها الحوزة العلمية في بغداد، والحوزة العلمية في الحلّة، الامر الذي يدعونا لأن نسلط الضوء على ثلاث عوامل أساس في تفوق الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة، وسر حيويتها ونهضويتها وتقدمها في فترة قاسية:
الاول: المكانة التاريخية والسجل الولائي الحافل، جعلها تكون ضمن المدن والمناطق التي يفصح بها الأئمة المعصومون على أنها من مراكز الولاء لأهل البيت، عليهم السلام، وقد ذكرت روايات عديدة بحق هذه المدينة، منها عن الامام الصادق، عليه السلام، حيث قال: “إن لله حرماً وهو مكة، وإن لرسوله حرماً وهو المدينة، وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، وإن لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنة”. (البحار، ج60- ص 216).
الثاني: احتضان المدينة للجثمان الطاهر لسليلة البيت العلوي، السيد فاطمة بنت الامام موسى ابن جعفر، عليهم السلام، وهو بحد ذاته يعكس التوجه الايماني والولائي العميق لأهل هذه المدينة، وحسب المصادر التاريخية، فان قبائل شيعية موالية لأهل البيت، عليهم السلام، استوطنوا هذه المدينة في وقت مبكر من التاريخ الاسلامي.
الثالث: وهو الأهم؛ جهود وتضحيات علماء الدين، الذين عرفوا قيمة هذه المدينة وأهلها، فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل تشييد هذا الصرح الحضاري والعلمي العظيم، لتأخذ دورها في البناء والإصلاح الى جانب الحوزات الفاعلة الاخرى.
اللبنات الاولى
كما هو المعروف، فان مراقد أهل البيت، عليهم السلام، تمثل مركز استقطاب علمي – معرفي، وهي السنّة التي درج عليها الموالون، بعد أول مدرسة علمية تأسست على يد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله، ومن بعده تحولت المدينة المنورة، الحاضرة العلمية الاولى للمسلمين ولأهل البيت، عليهم السلام، بشكل خاص. من هنا جاءت شاءت الاقدار أن تكون رحلة الزيارة التي قام بها الشيخ عبد الكريم الحائري – طاب ثراه- من مدينة اراك، حيث يقيم، الى مدينة قم سنة 1340هـ، بل والخطوة الاولى نحو هذه المدينة، هي اللبنة الاولى في تشييد الحوزة العلمية في هذه المدينة المقدسة، وأن يكون مبنى الحوزة العلمية ملاصقاً لمرقد السيد فاطمة بنت الامام موسى بن جعفر، عليهما السلام.
وعندما وصل الشيخ الحائري هذه المدينة، كانت على موعد لإحياء ذكرى المبعث النبوي الشريف، فكانت الشوارع والاحياء السكنية والمحال التجارية حافلة بمظاهر الزينة والفرح، فكان الاستقبال حافلاً وبهيجاً من قبل الاهالي وعلماء الدين وطلبة العلوم الدينية، وبعد فترة وجيزة، واجه الشيخ الحائري دعوة ملحّة من هؤلاء الطامحين، بأن يبقى الى جانبهم، لما عرفوا عنه منزلته العلمية وتقواه وزهده وتلمذته على يد كبار العلماء آنذاك، في مقدمتهم السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي وايضاً الميرزا محمد تقي الشيرازي، في حوزة سامراء، كما تتلمذ على يد الآخوند الخراساني في النجف الأشرف.
البذرة الطيبة لهذه الحوزة تكونت في اجتماع كلمة شريحتين أساس في مجتمع مدينة قم هما: اصحاب رؤوس الأموال المعروف عنهم بـ “رجال البازار”، واصحاب العلم والمعرفة من علماء الدين، على الطلب من الشيخ الحائري بتشييد حوزة علمية تكون لهم مصدر إشعاع علمي وثقافي يستغنون بها عن تجشّم عناء السفر الى النجف الأشرف او كربلاء المقدسة، لبعد المسافة ومشقّة السفر آنذاك. وقد طلب الشيخ الحائري فرصة الاستخارة في البقاء وتلبية هذا الطلب من عدمه، فجاءت الآية الكريمة: “…آتوني بأهلكم أجمعين”.
مبادرات للتقدم والتطوير
الحوزة العلمية في قم المقدسة، لم تنحصر ضمن جدرانها الأربعة او في الحجر وأماكن التدريس والمذاكرة، إنما شملت بعطائها المجتمع وما يحتاجه اليه، مع حجم الامكانات والقدرات لديها.
وكان الشيخ الحائري في طليعة المبادرين لخطوات عظيمة على صعيد الحوزة العلمية، وايضاً على صعيد المجتمع، جعلته رمزاً قيادياً يحتذى به في تاريخ هذه المدينة المقدسة. نشير الى بعض الانجازات على الصعيد الاجتماعي :
1-إنشائه سدّا على نهر مدينة قم وذلك لحماية المدينة المقدسة من الفيضان.
2-تشييده داراً تكون مأوى للفقراء لغرض إطعامهم وذلك أيام الجفاف الذي عصف بالبلد.
3- في عام 1353هـ، قام ببناء مايشبه المأوى لمتضرري الفيضانات والسيول.
وغيرها من الخدمات الاجتماعية العديدة .
أما على صعيد الحوزة العلمية، فقد شهدت حلقات الدرس والمباحث العلمية ازدهاراً كبيراً، وتطوراً نوعياً في الكم والكيف. ومن ابرز مستحدثاته على مناهج التدريس إدخاله “الامتحان” للدروس التي يتلقاها طلبة العلوم الدينية، وهو ما لم تألفه الحوزات العلمية من قبل، وهذا يمثل بوضوح حرصه على التحقق من المكتسبات العلمية خلال فترة الدراسة والاعتناء بعامل الزمن والاستفادة ما أمكن من الفرص لمزيد من التعلّم والدراسة والبحث وصولاً على افضل النتائج في العلوم الدينية، من فقه وأصول وتفسير ولغة وغيرها.
هذا ما كان من مؤسس الحوزة العلمية في قم المقدسة، أما عن زعامة الحوزة العلمية، فقد شهدت هذه المدينة بزوغ نجم كبير آخر، هو المرجع الديني الأعلى في زمانه السيد حسين البروجردي – طاب ثراه- الذي آلت اليه الزعامة بعد وفاة المرجع الديني الأعلى السيد ابو الحسن الاصفهاني في النجف الأشرف، فكانت الانتقالة الاولى من نوعها لهذه الزعامة من النجف الاشرف الى قم المقدسة، بمعنى أن هذه المدينة شهدت تأسيس حوزة علمية متألقة ومتطورة، ثم وجود الزعامة الشيعية في العالم، وهذا ما جعل هذه الحوزة تزداد تألقاً وتطوراً من النواحي كافة.
الوقوف بوجه انحراف السلطة
نظراً للعلاقة التاريخية والوطيدة بين علماء الدين والمجتمع في ايران، والدور القيادي الذي تمثل في اشكال وحالات متعددة، وانعكاس هذه العلاقة على الوضع السياسي الحاكم، فان الدور الرقابي لعلماء الدين في ايران بشكل عام وفي قم المقدسة، لاسيما بعد تأسيس الحوزة العلمية فيها، كان له كبير الأثر في صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة. فأي انحراف او جور او تعسف من قبل السلطة، كان يجابه على الفور بالاستنكار والشجب، وهي المسيرة التي استمرت حتى الانفجار الكبير الذي أدى الى انهيار النظام الملكي في ايران بعد عمر مديد طال حوالي 2500سنة.
من ابرز المواقف البطولية لعلماء الدين والتي ما تزال في ذاكرة الشعب الايراني، تصدّيهم الشجاع للقرار الجائر ذو الصبغة العلمانية، الذي اتخذه “رضا شاه” بحظر ارتداء الحجاب، ممالياً في ذلك الاستعمار البريطاني الذي رفعه من رتبة ضابط خيالة في الجيش الايراني التابع للدولة القاجارية، الى قائد عسكري، وبعد انهيار هذه الدولة، اصبح بين ليلة وضحاها “الملك” لما يسمى بـ “الدولة البهلوية”. ويشير الباحثون الى أن “رضا شاه بهلوي” كان رديفاً لكل من أتاتورك في تركيا، والحبيب بورقيبة في تونس، حيث سار الثلاثة في مسار واحد لعلمنة بلادهم الاسلامية وابعاد الدين بشكل كامل عن الحياة العامة.
فكان لعلماء الدين في قم المقدسة الدور الكبير في الوقوف بوجه هذا القرار ومساندة الشعب الايراني في الحفاظ على كرامته، فكانت هنالك مواقف عديدة خلقت حالة من الوعي واليقظة في اوساط الشعب الايراني، وحسب المصادر، فان الشيخ الحائري قرر الامتناع عن أداء صلاة الجماعة، لإثارة انتباه الناس ومحاولة شحذ الهمم، وقد أرفق هذا الموقف، برقيات تنديد وتهديد بتصعيد الموقف المعارض حتى الانفجار، حيث اشار في احدى برقياته الى أن “من أجل الدين والعرض يجب التصدّي والوقوف حتى الموت…”.
هذه المواقف استمرت حتى مع رحيل مؤسس الحوزة العلمية، فقد واصل علماء الدين في قم المقدسة تصديهم للانحرافات والسياسات الجائرة التي كان يمارسها النظام البهلوي، لاسيما في المجال الاجتماعي حيث كان الواضح آنذاك الإيغال في تمييع المجتمع وتكريس حالة التحلل الخُلقي بما يبعده عن الدين والاخلاق.
وهنا لابد من الاشارة الى الجانب المهم جداً في الدور الحضاري والاجتماعي للحوزة العلمية وعلماء الدين، متمثلاً في تربية وتنشئة جيل واعد من خطباء المنبر الحسيني وايضاً من المفكرين والباحثين الذين قاموا بدور كبير في التصدّي للأفكار والوافدة والمضللة، ونشر الوعي الديني بين الناس، من خلال المجالس الحسينية وايضاً المحاضرات في المساجد والحسينيات وحتى في البيوت. وهذه بدورها عززت العلاقة بين المجتمع والحوزة العلمية، وضعفت من قبضة السلطة الغاشمة. ويمكن الاشارة الى ابرز الخطباء آنذاك، وهو الشيخ محمد تقي فلسفي، الذي تحولت محاضراته الاجتماعية الى كتب جذابة وجميلة، منها “الطفل بين الوراثة والتربية”، كما يمكن الاشارة الى المفكر الشهيد الشيخ مرتضى مطهري والمفكر الشهيد الشيخ محمد مفتح وآخرين من الذين تخرجوا من الحوزة العلمية في قم، وخاضوا معارك الفكر والعقيدة مع أشرس أعداء الدين من اصحاب الافكار الماركسية والعلمانية والوجودية وغيرها.
من هنا؛ نجد أن الشعب الايراني بشكل عام، وأهالي مدينة قم المقدسة بشكل خاص، يدركون منزلة علماء الدين والحوزة العلمية في تشكيل وعيهم السياسي وثقافتهم الدينية وفضلهم فيما وصلوا اليه من عزّة واقتدار في العالم الاسلامي بعد العيش قروناً متمادية في ظل أنظمة حكم حولت الانسان الايراني الى ما يشبه العبد الذليل.
* محمد علي جواد تقي
.....
انتهى/ 278
المصدر : الاجتهاد
السبت
٢٧ مارس ٢٠٢١
٥:٠٠:٤٣ م
1126966
في تاريخ الحوزة العلمية، تقف مدينة قم المقدسة، بين المدن والحواضر العلمية شامخة بمكانتها التاريخية والحضارية، فبعد مدن بغداد والحلة ثم النجف الاشرف وكربلاء المقدسة وسامراء المقدسة، تواصل هذه المدينة عطائها العلمي ودورها الحضاري في الابعاد الاجتماعية والسياسية والفكرية.