وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ ها نحن نذكر بعض الأسس التي ابتكرها الشيخ في مجال أصول الفقه على وجه الإيجاز.
إنّ أصول الفقه تنقسم إلى مبحثين: لفظي وعقلي، وقد صدر من قلم الشيخ المباحث العقلية، وأسماها نفس الشيخ أو غيره بالفرائد واشتهرت بالرسائل.
و أمّا مباحث الألفاظ فقد قام بتقريرها وتحريرها تلميذه واسع الباع الشيخ أبو القاسم المعروف بكلانتر (المتوفّى عام 1287 هـ) .
إنّه قدّس سرّه وإن ابتكر أمورا في المباحث اللفظية لكن معظم إبداعه تركّز حول المباحث العقلية، وها نحن نذكر بعض الأفكار الجديدة التي جاد بها في هذا الحقل.
1. أوّل من عقد بحثا أصوليا للقطع
إنّ شيخنا الأنصاري أوّل من فتح باب الحديث عن القطع بالمعنى الدقيق للكلمة ونشير إلى رؤوس أهمّ أفكاره:
أ. حجّية القطع حجّية ذاتية.
ب. تقسيم القطع إلى طريقي وموضوعي.
ج. تقسيم القطع الموضوعي إلى طريقي ووصفي.
د. تقسيم القطع إلى قطع تفصيلي وقطع إجمالي. وهذا التقسيم الأخير صار سببا لفتح باب واسع باسم العلم الإجمالي وشكّل مبحثا عظيما في باب الاشتغال.
هـ. وجوب الموافقة القطعية في العلم الإجمالي أو حرمة المخالفة القطعية.
و. قيام الأمارات مقام القطع الطريقي أو الموضوعي.
فانّ بعض هذه العناوين وإن سبقه فيها غيره لكن هذا الترتيب الخاص وما فيها من الأفكار من ابتكاراته.
2. الشكّ في الحجّية كاف في عدم الحجّية
فتح الأصوليون بابا في جواز التعبّد بالظن وانّ مقتضى الأصل الأوّلي في العمل بالظن ما هو؟!فاستقر نظرهم إلى أنّ مقتضى الأصل الأوّلي هو حرمة العمل بالظن، غير أنّهم تطرّقوا إلى إثبات ذلك الأصل من طرق مختلفة.
و لكن الشيخ الأنصاري ذكر دليلا واضحا وهو انّ الشكّ في الحجّية كاف في عدم الحجّية. ولا نحتاج إلى تجشم دليل آخر، وذلك لأنّ نسبة مفاد الظن-الذي لم يدلّ دليل على حجّيته-إلى اللّه سبحانه يعدّ بدعة، والبدعة حرام بالأدلّة الأربعة.
قال قدّس سرّه ما هذا حاصله: إنّ حقيقة العمل بالظن هو الاستناد إليه في مقام العمل والالتزام بكون مؤدّاه حكم اللّه في حقّه، وهذان الأثران لا يترتّبان مع الشكّ في الحجّية، لأنّ الاستناد إلى مشكوك الحجّية في مقام العمل، وكذلك اسناد مؤدّاه إلى الشارع تشريع عملي وقولي، دلّت على حرمة الأدلّة الأربعة، فإذا حرم الاستناد والاسناد وعلم ارتفاعهما في حالة الشكّ يعلم عدم حجّية الظن، إذ لا معنى لوجود الموضوع (الحجّية) مع عدم أثره، (الاستناد والالتزام بكون مؤداه حكم اللّه) وهذا معنى قولنا: إنّ الشكّ في الحجّية يكفي في القطع بعدمها. (1)
3. تقسيم حالات المكلّف إلى أقسام ثلاثة
إنّ الشيخ الأنصاري قسم حالة المكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي إلى أقسام ثلاثة بأنّه إمّا يكون شاكا في الحكم أو ظانا أو قاطعا.
وهذا التقسيم تقسيم طبيعي حسب حالات المكلّف ولكن جعل التقسيم ثنائيا بإدخال الظن الذي قام الدليل على حجّيته، تحت القطع بالحكم الظاهري، وإدخال ما لم يقم على حجّيته تحت الشكّ، حتّى يصير التقسيم ثنائيا دائرا بين الشكّ في الحكم والقطع به، كما فعله المحقّق الخراساني، على خلاف الحالة الطبيعية التي تعرض المكلّف وإن كان لكلامه أيضا وجه.
4. تبيين مجاري الأصول العملية الأربعة
إنّه قدّس سرّه بيّن مجاري الأصول العملية الأربعة-أعني: البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب-و انّ مجرى الأوّل هو الشكّ في التكليف، ومجرى الثاني هو الشكّ في المكلّف به بشرط التمكّن من الاحتياط، ومجرى الثالث هو الشكّ في المكلّف به حين تعذّر الاحتياط.
كلّ ذلك فيما إذا لم يكن في مورد الشكّ حالة سابقة، وإلاّ فإن كانت هناك حالة سابقة معتبرة فهو مجرى للاستصحاب.
قال قدّس سرّه: الشكّ إمّا أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأوّل مجرى الاستصحاب، والثاني إمّا أن يكون الشكّ فيه في التكليف أو لا، والأوّل مجرى البراءة، والثاني إمّا أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأوّل مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير. (2)
5. المنهجية الجديدة للأدلّة الاجتهادية والفقاهية
إنّ الشيخ قسّم الأدلّة إلى دليل اجتهادي وإلى دليل فقاهي، وهذا التقسيم وإن كان موجودا في كلمات المحقّق البهبهاني، ولكن التشريح والتبيين وبيان مورد كلّ بنحو واضح من ابتكارات الشيخ، فقد كان القدماء يستدلّون بالخبر الواحد منضما إلى أصل البراءة أو أصالة الاحتياط مع أنّ مجرى الأصول يغاير مجرى خبر الواحد، لذلك لم يكن له بدّ من بيان نسبة الأدلّة الاجتهادية إلى الأصول العملية، وانّ نسبتها إليها من قبيل الحكومة أو الورود.
و مع وجود الدليل الحاكم أو الوارد لا تصل النوبة إلى المحكوم والمورود، فالأمارات كلّها أدلّة اجتهادية من غير فرق بين قول اللغوي والإجماع المنقول والشهرة الفتوائية وخبر الواحد على القول بحجّيتها، وذلك لأنّ هذه الأدلّة بنفسها طريق إلى الواقع، مزيلة للشك عند العقلاء والشارع أمضى ما بيد العقلاء بهذا الوصف، فبذلك صارت حجّة شرعية ورافعة للشك بحكم الشارع.
و أمّا الأصول فهي أدلّة فقاهية يعمل بها في ظرف الشكّ ومع فرض وجوده والغاية في العمل هو رفع التحير في مقام العمل.
ثمّ إنّ الشيخ ذكر انّ الأدلّة الاجتهادية برمّتها متقدّمة على الأصول، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصول العملية.
مع أنّ الشائع عند القدماء خلاف ذلك.
6. ابتكاراته في الاستصحاب
إنّ للشيخ الأنصاري ابتكارات في الاستصحاب يعرفها كلّ من ألمّ بكتاب الفرائد ولا يسعنا الإشارة إلى بنات أفكاره، غير أنّ أحد ابتكاراته هو تبيين الأصل السببي والمسببي، وانّ الأوّل مقدم على الثاني مع أنّ القدماء يرون الأصلين متعارضين، وهو بذلك نقّح كثيرا من المسائل الفقهية.
7. ابتكاره في تمييز الأصل المثبت عن غيره
إنّ للأصل المثبت جذورا في كلمات الفقهاء ممّن تقدّم على الشيخ أو عاصره كما سيوافيك، ولكن تبيين هذا الأصل وتشريحه بمنهجية علمية على نحو يميز المثبت من غيره هي من اختصاصات الشيخ، فترى فيها المباحث التالية:
1. تعريف الأصل المثبت.
2. الدليل على عدم حجّية الأصل المثبت.
3. في حجّية مثبتات الأمارات دون الأصول.
4. استثناء بعض الأصول المثبتة إذا كانت الواسطة خفيّة.
8. ابتكاره في الاستصحاب التعليقي
إنّ أوّل من تمسّك بالاستصحاب التعليقي هو السيد الطباطبائي المعروف ببحر العلوم، وردّ عليه تلميذه السيد علي صاحب الرياض في درسه الشريف، غير انّ الشيخ الأنصاري ذهب إلى جريانه وبيّن المنهج الذي يثبت حجّية الاستصحاب التعليقي وتبعه تلميذه المحقّق الخراساني.
9. استصحاب حكم المخصص
اختلف الفقهاء في أنّه إذا ورد التخصيص على عموم وعلم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان لكن شك في خروجه بعد تلك الفترة، فهل المرجع عندئذ هو عموم العام أو استصحاب حكم المخصص؟فقد أبدع الشيخ الأنصاري هناك قاعدة باسم كون الزمان قيدا أو ظرفا. وبذلك أيضا أجاب عن شبهة المحقّق النراقي المعروفة في باب استصحاب الأحكام الشرعية حيث زعم انّ استصحاب الحكم الشرعي مطلقا يعارض دائما مع استصحاب عدم الجعل.
10. ابتكاره في باب التعادل والترجيح
إنّ باب التعادل والترجيح من أهم مباحث علم الأصول، إلاّ أنّ معرفة الدليل الراجح وتقديمه على المرجوح أمر يحتاج إلى عقد ضوابط للتقديم، فالشيخ هو أوّل من خاض عباب هذا البحث وخرج منه بصيد شهي.
هل مصطلحا الحكومة والورود من ابتكارات الشيخ؟
قد اشتهر انّ مصطلح الحكومة والورود من ابتكارات الشيخ الأنصاري، والفرق بينهما هو انّ تقديم أحد الدليلين على الآخر إذا كان بلحاظ التفسير كأن يحدّد دليل المحكوم سعة وضيقا فهذه هي الحكومة، مثلا: «من أفطر في شهر رمضان متعمدا فعليه كفارة صيام شهرين متتابعين»
فالمتبادر من المتتابعين صيام ستين يوما متتابعا ولكن ورد هناك دليل آخر يوسّع الموضوع ويفسر التتابع بصيام شهر ويوم، قال: إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، والتتابع أن يصوم شهرا ويصوم من الآخر شيئا أو أياما منه. (3)
فالحكومة قائمة باللسان وهي لسان النظارة والتفسير سواء أكان التفسير جليا أو غير جلي وسواء أكانت النتيجة هي التوسعة في جانبي عقد الوضع والحمل أو التضييق في كلا الجانبين، وقد أوضحنا حال الأقسام الأربعة في محاضراتنا. (4)
هذه هي الحكومة وأمّا الورود فحاصله هو رفع أحد الدليلين موضوع الدليل الآخر حقيقة لكن بعناية من الشارع بحيث لولاه لما كان له هذا الشأن، فهذا كخبر الواحد بالنسبة إلى الأصول العقلية، فانّ موضوع أصل البراءة العقلية هو عدم البيان، ويكفي في رفعه وجود خبر الثقة حيث إنّه بيان من الشارع بعد ثبوت حجّيته، فمع وروده ينقلب عدم البيان إلى البيان لكن بعناية التشريع، أي لو لا انّ الشارع جعل خبر الثقة حجّة لما انقلب عدم البيان إلى البيان، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصدرين المذكورين. (5)
هذا هو المعروف وانّهما من ابتكارات الشيخ الأنصاريو لكن السبر والتتبع يدلّ على خلاف ذلك، فانّ صاحب الجواهر استخدم كلمة الورود في كتاب القضاء، وقال: في مسألة ما لو ادّعى دارا في يد إنسان وأقام بيّنه انّها كانت في يده أمس أو منذ شهر، قال: إنّ استصحاب الملكية لا يصلح معارضا لما تقضي به اليد الحالية (6) من الملك فعلا، إذ هو وارد على الاستصحاب وقاطع له. (7)
كما أنّه استخدم ذلك المصطلح في كتاب الحدود، فقال في مسألة: من اطّلع على عورات قوم فلهم زجره، فلو أصرّ فرموه بحصاة أو عود فجنى ذلك عليه كانت الجناية هدرا ولو بادره من غير زجر ضمن.
ثمّ أفاض الكلام فيما إذا جهل بأنّ الدافع قد تدرّج حتّى لا يضمنه، أو لا وادّعى ذلك وأنكر المجني عليه وقال: هنا أصل شرعي مستفاد من الإطلاق المزبور وارد على أصالة الضمان فلا يحكم به حتّى يعلم سبب الضمان. (8)
نعم الظاهر انّ الحكومة على النحو الذي شرحناه من ابتكاراته.
الأصل المثبت ليس من ابتكارات الشيخ الأنصاري
ربما يتصوّر انّ القول بعدم حجّية الأصل المثبت من ابتكارات الشيخ ولكنّه خاطئ.
ويدلّ على ذلك انّ صاحب الجواهر استخدم ذلك الاصطلاح في غير مورد في كتاب الجواهر منها في مسألة ما لو طلق زوجته فوطئت بالشبهة، قال المحقّق: فإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني وستة أشهر من وطأ المطلق، ألحق بالمطلّق، أمّا لو كان الثاني له أقلّ من ستة أشهر وللمطلق، أكثر من أقصى مدة الحمل، لم يلحق بأحدهما (لانتفائه عنهما شرعا) ، وإن احتمل أن يكون منهما استخرج بالقرعة.
قال في شرح الفرع الأخير: قال بالقرعة الشيخ الأنصاري في «المبسوط» ، لأنّها لكلّ أمر مشكل، وهذا منه بعد اشتراك الفراش بينهما وأن كان التكون منهما، وتعارض الأصول في إلحاقه بكلّ منهما حتّى أصالة تأخر الحادث التي هي في المقام لو قلنا بها، كانت من الأصول المثبتة. (9)
و قال في مسألة: لو ثبت العنن ثمّ ادّعى الوطأ، فالقول قوله مع يمينه-إلى أن قال: -و استصحاب العجز الثابت سابقا لا يصلح لإثبات العنن ضرورة عدم كون ذلك ممّا يثبت بالاستصحاب، بل هو بالنسبة إليه من الأصول المثبتة التي ليست بحجّة. (10)
الهوامش
(1) . فرائد الأصول: 33.
(2) . الفرائد: 1.
(3) . الوسائل: 7، الباب 3 من أبواب بقية الصوم الواجب، الحديث رقم 9.
(4) . لاحظ المحصول: 4/421-424 وإرشاد العقول: 2/318-321.
(5) . المحصول: 4/419-420؛ إرشاد العقول: 2/316-318.
(6) . وفي المصدر: الحالة والصحيح ما أثبتناه.
(7) . جواهر الكلام: 40/455.
(8) . الجواهر: 41/662.
(9) . الجواهر: 29/259.
(10) . الجواهر: 30/354 ولاحظ أيضا 32/156 و270 ولاحظ 31/134 و364.
......
انتهى/ 278