وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ «الشيخ زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي بن صالح بن مشرف العامليّ الشاميّ الطلوسيّ الجبعيّ، المعروف بابن الحاجة النحاريري، الشهير بالشهيد الثاني .
ولد في 13 شوال سنة 911هـ، كما نقله ابن العودي عنه، يوم الثلاثاء. واستشهد يوم الجمعة في شهر رجب سنة 966هـ، كما في نقد الرجال أو 965هـ، كما عن خط ولده الشيخ حسن، وعمره 54 أو 55 سنة.
وعن تاريخ جهان آرا الفارسيّ أنه استشهد يوم الخميس سنة 965هـ، في العشر الأواسط من السنة المذكورة، انتهى. وكانت شهادته قتلاً في طريق إسلامبول، عند قرية تسمى «بايزيد»، فحمل رأسه إلى إسلامبول(*).
مذكراته
لعلّه الوحيد في عصره الذي يبادر الى تسجيل مذكراته في دفتر خاص، مثبتاً فيه تجاربه ومشاهداته اليومية ورحلاته، وكان لعمله هذا ابلغ الأثر في القاء الضوء على مجمل حياته الحافلة.
يبدأ مذكراته ب «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على اشرف المرسلين و آله الطاهرين واصحابه المنتخبين».
ثم يثبت تاریخ ولادته ويذكر السنة التي تعلم فيها القرآن ۱۹۲۰ وعمره آنذاك تسعة أعوام، ويسجّل تاریخ وفاة والده في أواسط رجب من سنة ۹۲۰ هـ ثم رحلته الى ميس للدراسة حتى سنة ۱۹۳۳ ويسجّل رحلته الى تركيا قائلاً:
وكان وصولنا الى مدينة قسطنطينية يوم الاثنين ۱۷ شهر ربيع الاول سنة 952هـ ووفق الله تعالى لنا منزلاً حسناً رفقاً من احسن منازل البلد قريبا الى جميع اغراضنا و بقيت بعد وصولي ثمانية عشر يوماً لا اجتمع بأحد الأعيان،
ثم اقتضى الحال أن كتبت في هذه الايام رسالة جيدة تشتمل على عشرة مباحث جليلة، كل بحث في فنّ من الفنون العقلية والفقهية والتفسير وغيرها وأوصلتها الى قاضي العسكر، وهو محمد بن قطب الدین بن محمد بن محمد قاضي زاده الرومي، وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب من أحسن الناس خُلُقاً وتهذيباً وأدباً، فوقعت منه موقعاً حسناً و حصل لي بسبب ذلك من حظ عظيم واكثر من تعريفي والثناء علي للافاضل واتفق لي في هذه المدّة بيني وبينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق”
وفي جانب آخر يقول:
“ففي اليوم الثاني عشر من اجتماعي به أرسل اليّ الدفتر المشتمل على الوظائف والمدارس، وبذل لي ما اختاره واكد في كون ذلك في الشام أو حلب فاقتضى الحال أن اخترت منه المدرسة النورية ببعلبك لمصالح وجدتها ولظهور امر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرض لي بها الى (السلطان سلیمان)(۱) وكتب لي بها براءة، وجعل لي في كل شهر ماشرطه واقفها السلطان نور الدين الشهيد)(2)
وقد بقي الشهيد الثاني في تركيا مدة ثلاثة اشهر ونصف تجوّل خلالها في انحاء مختلفة والتقى شخصيات علمية عديدة.
ولقد كانت رحلته الى تركيا سبباً في بروزه كشخصية كبيرة يحسب لها ألف حساب. وبالرغم من كون زيارته العاصمة الاسلامية الكبرى قد اسفرت عن عودته الى وطنه ظافراً، الا انها كانت السبب الأساس – فيما يبدو – الذي دفع ببعض اصحاب النفوذ الى التفكير بتصفيته والتخلص منه.
والى القارئ الكريم جوانب من رحلته هذه كما اشار اليها الشهيد الثاني في مذكراته.
توقات
وصل الشهيد مدينة «توقات» يوم الجمعة الثاني عشر من شهر صفر، والمدينة كما وصفها مليئة بالخيرات مزدحمة بالسكان ومناخها طيب، وفيرة المياه حيث ينحدر الماء من التلال والجبال التي تحيط المدينة.
وفي جهة الشمال يجري نهر كبير في وادٍ متسع يضمّ اربعمئة قرية، وقد زار الشهيد بعضها، فالوادي هو الطريق الوحيد آنذاك المغادرة المدينة. ويذكر الشهيد الثاني أن القرى قريبة من بعضها حتى ليحسبها المرء قرية واحدة.
ويصل الشهيد مدينة أخرى هي «أماسية»(3).
ويذكر الشهيد الثاني أنه يوجد بها بناء فخم يدعى «عمارة السلطان بایزید»(4) وهو فيما يبدو فندق كبير للمسافرين ومدرسة كبرى.
وكان يحكم المدينة يومها «السلطان مصطفى» ابن السلطان سليمان القانوني، ويقال أنه لقي مصرعه على يد والده ابان الاستعدادات العسكرية لمواجهة ایران لخوف الأخير من طموحات ابنه في الاستيلاء على سدة الحكم.
وتزامن ذلك الحادث مع موت «امر الله » الابن الثاني للسلطان في ظروف غامضة في مدينة حلب، واشيع وقتها أن الأب هو وراء ذلك ايضاً. امضى الشهيد مدة 16 يوما في «أماسية». ثم توجه بعدها الى مدينة القسطنطينية (5).
وعلى امتداد الوادي الكبير سجّل الشهيد كثيراً من مشاهداته مفتتنا بتلك الطبيعة الساحرة، حيث الغابات الكثيفة المكتظة بانواع الأشجار، والأزهار والثمار.
فهناك اشجار الجوز والرمان، والبندق والعنب والتفاح والخوخ والكمثرى؛ وانواع لا حصر لها من الورود والازهار المختلفة الاشكال والالوان. اضافة الى اشجار الصنوبر والصفصاف والسنديان والبلوط، و انواع أخرى لم يكن قد شاهدها الشهيد من قبل.
وبعد بلغ انبهار الشهيد بتلك البقعة من الأرض حدا أشار فيه إلى أنه لم يشاهد طيلة عمره مناظر اجمل منها، كما اشار الى انها غابات طبيعية لم يكن للانسان دور في زراعتها.
ويتوقف الشهيد أمام شجرة عملاقة فيحاول تحدید محیط جذعها وارتفاعها، فسجل أن محيطها يتجاوز الثلاثين شبراً، وقدّر ارتفاعها باكثر من مئتي شبر(6).
القسطنطينية
ويصل الشهيد مدينة (اسطنبول) أو القسطنطينية كما ورد في مذكراته، وذلك بتاریخ ۱۷ ربيع الأول سنة 952 هـ. يبقى مدة ۱۸يوماً لم يجتمع فيها بأي من اصحاب النفوذ هناك، اعدَّ خلالها بحوثاً رائعة في مختلف الفنون والعلوم، ثم عرضها على قاضي الجيش «محمد بن قطب الدین قاضي زاده الرومي» وكان انتخاب الشهید لهذه الشخصية موفّقاً جداً اذ ابدئ القاضي اعجابه الشديد بالبحوث واحترامه العميق لشخصية الشهيد، ويلتقي الرجلان وتدور بينهما حوارات متعددة وثَّقت العلاقات بينهما؛ وهنا يعرض الشهيد رغبته في التدريس في بعض المدارس.
وقد بلغ من اجلال القاضي له أنه ارسل اليه فيما بعد سجّلاً يضم مختلف الوظائف والمناصب الرسمية وما على الشهيد الآ أن يبدي رغبته في أحدها شريطة أن يكون ذلك في الشام أو حلب.
وهي فرصة ذهبية لمن أراد الدنيا وزخرفها، فالقاضي لم يكن شخصية عادية بل كان احد رجال النفوذ والحظوة لدي سليمان القانوني أقوى سلاطین عثمان على الاطلاق.
غير اننا نرى الشهيد يعزف عن كل شيء مؤثراً التدريس في المدرسة النورية ببعلبك، ويتقدم القاضي بالطلب الى «السلطان سلیمان» الذي سرعان ما يوافق على الفور.
في حضرة أبي أيوب الأنصاري:
وفي مدة اقامته في القسطنطينية زار الشهيد مرقد الصحابي الجليل ابي أيوب الأنصاري،(7) ومرقده خارج المدينة، وقد بنى له السلطان “محمد الفاتح” مزاراً كبيراً، وهناك ينزوي الشهيد في جانب من المرقد ليقرأ جزءاً من القرآن، وبدا له أن يتفأل بالقرآن علّه يعرف ما حصل لزوجته وكان قد تركها حاملاً؛ ففتح القرآن وطالعته الآية الكريمة: «وبشرناه بغلام حلیم»(8).
ويهوي الشهيد للسجود شاكراً لله، ولا ينسى أن يسجّل الآية الكريمة ويثبت تاریخ ذلك اليوم.
ويغادر الشهيد الثاني القسطنطينية برفقة تلميذه ابن العودي الى «اسکدار» في الجانب الآخر من المضيق، وهناك يتسلم الشهيد رسالة تحمل اليه البشرى بميلاد صبي سمّاه الشهيد «محمداً»(9).
ويسجل ابن العودي تاریخ مغادرة «اسکدار» باتجاه العراق لزيارة العتبات المقدسة هناك وهو يوم الاثنين الثاني من شهر شعبان، متخذين نفس الطريق الذي سلكاه من سيواس (10) إلى اسطنبول.
ويصلان «سیواس» يوم الاثنين لخمس بقین من شعبان. وبعد استراحة قصيرة، استأنف الشهيد رحلته في الثاني من شهر رمضان المبارك.
وكانت الرحلة من اسکدار شاقة، فالرياح باردة جداً والثلوج تنهمر بغزارة، وقد امضيا ليلتين خلال سفرهما وسط الثلوج.
لقاء الكليني
ويذكر الشهيد أنه أثناء رحلته رأی ذات ليلة في عالم الرؤيا انه زار الشيخ الكبير «محمد بن يعقوب الكليني»(11) ويصف الشهيد ملامحه کما رآه في عالم النوم بأنه حسن الوجه وقور تنمّ سماته عن العلم والفضل وقد غزا الشيب لحيته.
ويدور بينهما حوار عن كتاب «الكافي» فيبدي الشيخ استياءه من استنساخ كتابه بخط رديء، فيخبره الشهيد باستنساخه بید خطاط ماهر في دمشق اسمه «زين الدين الغرابيلي» حيث ابدع في کتابته بخط جميل وجعله في جزءين، فتبدو ملامح الانشراح على وجه الشيخ الكليني (12).
وبعد اربعة أيام من السير يصل الشهيد مدينة «ملطية» التي تتمتع بمناخ معتدل، وتقع بالقرب من منابع نهر الفرات، وبعدها يدخل الشهيد مدينة اخرى هي «از غين» التي تقع بالقرب من منابع نهر دجلة.
مدن العراق
وفي الرابع من شهر شوال سنة 952 هـ. وصل الشهيد مدينة سامراء، حيث تشرّف بزيارة مراقد ائمة أهل البيت هناك، وتوجه بعدها الى بغداد لزيارة الكاظمين، ومنها الى مرقد سلمان (13) الفارسي وحذيفة بن اليمان (14) رضوان الله عليهما، ثم يمّم وجهه نحو کربلاء لزيارة المرقد الطاهر للامام الحسين (ع)، ومنها الى الحلة لزيارة مرقد القاسم (15) ابن الامام موسی بن جعفر (ع) ومنها الى الكوفة، وفي شهر ذي القعدة يحطّ رحاله في مدينة النجف الاشرف لزيارة بطل الاسلام الخالد علي بن ابي طالب (ع). ويبقى الشهيد الى جوار علي (ع) بقية أيام ذي القعدة يتلو القرآن الكريم.
ويبدو من خلال بعض ما سجله الشهيد في مذكراته وخواطره أنه كان حريصاً على تلاوة القرآن الكريم، دائما وكان يتفأّل به كلما شعر بظلمة الطريق فيسترشد بأول آية من أعلى الصفحة اليمنى بعد أن يقرأ ورداً من الدعاء ويفتح قلبه في لحظة صفاء مستلهماً من آیات الله بصيصاً من النور.
وقد أورد الشهيد في بعض مذكراته أنه تفأل ذات يوم بعد أن تلا جزءاً من القرآن الى جوار مرقد الامام، فظهرت له الآية الكريمة «فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ».
ويبدو من خلال اهتمامه بذلك، أنه كان يعاني في وطنه من کید الحاسدين وتآمر ذوي المصالح من الذين لا يروق لهم وجود شخصية في مستوى الشهيد تضعهم في الظل، فتنكشف ضآلتهم أمام شخصيته العملاقة.
ويغادر الشهيد العراق عائداً الى ارض الوطن فيصل قريته (جبع) في منتصف شهر صفر سنة 953 هـ.
في بعلبك
وفي بعلبك يقضي الشهيد فترة من الزمن عدّها الشهيد من اجمل أيام حياته، اذ انقطع للتدريس وراح يفيض على طلاب العلم من تلامذته و مریدیه انواع المعارف والافكار.
ويصل الشهيد في تلك الحقبة أوج مجده العلمي والاجتماعي، اذ اضحى مفتي البلاد العام يفتي اهل كل مذهب من المذاهب الاسلامية الخمسة حسب آرائهم ونظرياتهم الفقهية.
واضحت بعلبك في عهده مركزاً ثقافياً هاماً استقطب انظار أهل العلم فراحوا يتهافتون عليها من كل حدب وصوب.
ويشير ابن العودي الى تلك الفترة:
كنت في خدمته في تلك الأيام ولا انسى وهو في اعلى سنام، ومرجع الأنام، وملاذ الخاص والعام، يفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها، ويدرّس في المذاهب كتبها، وكان له في المسجد الأعظم بها درس مضافاً الى ماذكر، وصار أهل البلد كلهم في انقياده، وهم وراء مراده، بقلوب مخلصة في الوداد، وحسن الاقبال والاعتقاد، وقام سوق العلم بها على طبق المراد، ورجعت اليه الفضلاء من اقاصي البلاد، ورقی ناموس السيادة والأصحاب في الازدياد، وكانت عليهم تلك الأيام مثل الاعياد(16).
الهوامش
(*) السيّد محسن الأمين، أعيان الشيعة 7: 143، تحقيق: حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت،1403هـ 1983م.
١- سليمان القانوني
۲- رسالة ابن العودي. (مخطوطة).
3- مدينة صغيرة تقع في آسيا الصغرى في اقليم سيواس على شواطي نهر “یشیل ایرماق”، فيها مساجد و مدارس عديدة، فتحت سنة ۱۱۳هـ.
4- من سلاطين آل عثمان.
5 – اتخذت اسم اسلامبول فيما بعد ثم اسطنبول في الوقت الحاضر – المترجم.
6- اذا افترضنا ان الشبر يساوی ۲۰ سم فان ارتفاعها يساوي اربعین متراً أما محیط جذعها فيساوی «6» امتار.
7- خالد بن زید من بني النجار وهو من قبيلة الخزرج وأحد أبرز الصحابة، شهد بيعة العقبة واشترك في معارك صدر الاسلام، عُرف بشجاعته وصبره وتقواه وحبّه للجهاد، نزل الرسول(ص)في داره لدى وصوله المدينة مهاجراً. وكان احد الجنود الذين حاصروا مدينة القسطنطينية سنة ۵۳ هـ توفي اثناء الحصار ودفن عند اسوار القسطنطينية، وقف الى جانب الامام علي(عليه السلام) في حربه مع الخوارج – المترجم.
8- الصافات الآية 101.
9- توفي في طفولته.
10- مدينة تركية تقع على ضفاف نهر قزل ایرماق.
11 – مؤلف الكتاب المشهور «الكافي» أحد كتب الشيعة الأربعة في الحديث – توفي سنة ۳۲۹هـ.
12- بالرغم من أن المسألة لا تعدو كونها رؤيا في عالم الأحلام الا ان ذكرها يلقي بعض الضوء على اهتمام الشهيد بالتراث الفكري والعلمي للسلف الصالح.
13- توفي سنة 35هـ. دفن في المدائن قرب بغداد وتدعى حالياً سلمان باك او طاق کسری.
14- توفي سنة 36هـ.
15- فرّ من المدينة وحيداً باتجاه ارض العراق وهناك يصل قرية تدعى باخمري «القاسمية حالياً» ابّان الحملة الشعراء التي شنّها الرشيد العباسي ضد العلويين.
16 – رسالة ابن العودي – مخطوطة -.
من كتاب “الشهيد الثاني زين الجبعي العاملي تأليف علي صادقي – ترجمة وتحقيق كمال السيد” الناشر مؤسسة أنصاريان
...........
انتهى/ 278