وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
الثلاثاء

٧ يناير ٢٠٢٠

١:٣٨:١٨ م
1000243

حاول الفنان المسلم ان يؤكد اهمية العلاقات الهندسية في مجال الزخرفة والفنون الاسلامية في منظومات شكلية جمالية خالية من المعنى المشخص.

وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ـــ ابنا ــ المصورة اعلاه تمثل انموذجا حاضرا للصفحة الاولى من القرآن الكريم والتي عادة ما تكون صفحة زخرفية تتقدم المصحف الشريف قبل ورود النص القرآني احتفاءً به وتعظيماً له وذلك دلالة على أهميته وقداسته عند الفنان المسلم ..

ويرجح اغلب الباحثين ان هذه المخطوطة تعود بتأريخها الى العصر العباسي وبالخصوص عام 391هـ الموافق 1000م وهي اليوم احدى النفائس الخطية والزخرفية النادرة لمكتبة جستربيتي في مدينة دبلن الايرلندية، وقد انجزت هذه الرائعة الفنية على يد الخطاط البغدادي أبو الحسن علي بن هلال بن عبد العزيز الملقب بابن البواب، الذي لقب بهذا اللقب لأن أباه كان يعمل بوابًا، ولا يعرف على وجه اليقين تاريخ مولده، ولكنه نشأ وترعرع في بغداد، وتلقى علوم العربية على يد أبي الفتح عثمان بن جني اللغوي المعروف، وتعلم فنون الكتابة الخطية على يد الخطاط المعروف ابن أسد، اذ كان كاتبا متمكناً إلى جانب كونه خطاطًا بارعًا، وله رسالة بارعة أنشأها في فن الخط والكتابة.

حاول الفنان المسلم ان يؤكد اهمية العلاقات الهندسية في مجال الزخرفة والفنون الاسلامية في منظومات شكلية جمالية خالية من المعنى المشخص، وذلك لان الفكر الرياضي او العقلي اهتم ومنذ البداية بالتعميمات الكلية التي تتصف بانها تمتلك سمات وخصائص المفهوم من جهة والتمثيل لهذا المفهوم من جهة اخرى، فالمشهد الفني وان كان مركباً بطريقة هندسية مفاهيمية الا انه يحتوي على تفاصيل جزئية كثيرة قد تكون هيمنت عليها انواع الخطوط المشتركة في تكوينها كما في المشهد المصور اعلاه، فالمشهد يتكون من مستطيل ملحق بتكوين شبه دائري من منطقة الوسط من الضلع الاطول للشكل وبشكل متناغم لا يدعو الى النفور بل على العكس يؤكد انسجامه المباشر بشكل عام ويبدو انه يشير لاتجاه بدء القراءة في المصحف الشريف، وقد احتوى المشهد التصويري على وحدات زخرفية متنوعة نظمت بشكل متقابل، اذ وضعت فيه اشكال هندسية مجردة واشكال نباتية واقعية، حيث حاول الفنان في هذا المقام ان يـخلق من الاشكال النباتية والهندسية مركزاً افتراضياً في نقطة الوسط، الا ان المشهد بشكل عام يميل الى الطابع الهندسي الزخرفي المجرد.. وهذا واضح للمشاهد من خلال وضع لشريط زخرفي يحاكي شكل الضفيرة في الحافة الأولى من المشهد، ثم عمد على وضع مستطيل آخر تقطعه دوائر متقابلة مثلت بخطوط مذهبة ومتداخلة فيما بينها، ثم وضع في الداخل دائرتين متداخلتين مع بعضهما البعض.. وكأنه يحاول ان يجد نوعاً من العلاقة الهندسية الرياضية للأوضاع الأربعة المتقابلة في بنية الشكل المستطيل، فالأشكال الثابتة أربعة والدوائر مع انصاف الدوائر أربع وضفائر الشريط الزخرفي أربع، والأزهار الحمراء هي أربع ايضاً، وهكذا يشتغل هذا الشكل بنظام التربيع والتدوير وبشكل منسجم ومتجانس وكانه يريد التأكيد على الكثرة التي يشير اليها بنوع من الجدلية الروحية والصوفية التي أكد عليها الفكر الإسلامي من خلال تمثيل او تأكيد المفاهيم للأجزاء الواقعية الخارجية.

 ومن جانب اخر بينت المصورة اعلاه العلاقة بين الشكل الهندسي المرتبط بالذهن وبين الشكل النباتي المرتبط بالواقع، فقد حاول الفنان ان يؤكد من خلالهما جدلية العلاقة بين الجسد والروح و الحسي والعقلي ،وبين النسبي والمطلق وما الى ذلك من المفاهيم الثنائية المتقابلة .. ويبدو ان هذا التكوين الفني الزخرفي قد صمم عن قصد ودراية ليكون مفتاحاً تأملياً للنص القرآني، والذي بدوره يؤكد حضور هذه المفاهيم المتقابلة،  ومنه ايضاً يحيلنا الفنان إلى الفكر الإسلامي الذي أشار الى بنية الكون الدائرية التي تبدأ من اصغر جسم مادي والمتمثل بالذرة الى اكبر مجرة بشكلها الدائري والذي اختاره الخالق سبحانه وتعالى ليكون ممثلاً لعالم الحس، وهذا يحيلنا الى ثابتة من ثوابت الفلسفة الشكلية التي تنص على انه ( أينما وجد الشكل الدائري فهذا يعني انه مرتبط بعالم الحس، وأينما وجد الشكل المستقيم فهذا يعني انه مرتبط بعالم الذهن او العقل)..  والتكوين الفني اعلاه يؤكد هذه الجدلية .

لقد منح ابن البواب في رائعته الفنية هذه الخطوط الخارجية ثلاث ألوان هي الأحمر والأسود واللون البني، في حين منح المساحات ألوان ترابية متدرجة بين الغامق والفاتح المضيء.. ليترك لدى المشاهد انطباعاً بانه ينظر إلى عمل فني مطعم بدرجات لونية منسجمة- على الرغم من تباينها-  فهي تشكل انسجاماً لونياً خطياً متجانساً في فضاء متداخل ومتشعب إلى المستوى الذي يكون فيها تعقب الخطوط متعة تحتاج إلى تأمل، وكأن الفنان المنفذ يريد دفع المتلقي لتلمس استمرارية الخطوط المرسومة والمتداخلة دونما توقف او بشكل ابدي مستمر بهذا الانسجام المفترض او المتخيل، وكأنه بهذه الاشكال الدائرية يحاول بث مفهوم الحركة المستمر داخل مجال المربع ، وهو بهذا يؤكد عنصري الزمان والمكان كثنائيات متقابلة يجمعها وسيط الحركة المستمرة لعين المتلقي عندما يشاهد هذا التكوين الفني .

سامر قحطان القيسي
.......
انتهى/ 278