ابنا: كثيرة هي المواقف العظيمة التي سجلها الامام الحسين واهل بيته واصحابه في كربلاء حين سطروا بأحرف من نور تلك الملحمة الخالدة (عاشوراء) فارتقوا الى آفاق المثل العليا وجسدوا أنبل وأشرف المبادئ فسمت نفوسهم الى مقام الذروة من الكمال البشري وتألقت اسماؤهم على جبين الدهر تتلألأ عبر الأجيال تضيئ لهم طريق الحق والحرية في مسيرة التاريخ.
ومن أروع المواقف في ذلك اليوم هي مواقف سيدنا أبي الفضل العباس بن أمير المؤمنين (ع) قدوة الأحرار وعلم الثوار الذي جسد في سلوكه مع اخيه الامام الحسين (ع) حقيقة الاخوة الاسلامية الصادقة بجميع قيمها ومثلها السامية فلازَمَه حتى النفس الأخير ووقاه بنفسه وبذل دونه روحه فأصبح نموذجا رائعا لشهداء الطف الذين احتلوا ذروة المجد في سماء التاريخ
(الأبوان العظيمان)
جمع أبو الفضل العباس مع صفاته الذاتية العظيمة نسبه السامي الشريف، أبوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب غني عن التعريف إذ لم يعرف التاريخ شخصية أعظم بعد رسول الله منه، وحسب العباس أن يكون إبناً لعلي وأخاً للحسنين سيدي شباب أهل الجنة.
أما أم أبي الفضل العباس فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية الملقبة بأم البنين وهي من أجلّ الأسَر العربية شرفا ونبلا وقد عُرف أبوها حزام بالنجدة والشهامة والشجاعة والسخاء وقرى الأضياف وكان من أعمدة الشرف في العرب ولمع من هذه الاسرة الكريمة الكثير من الاسماء في سماء المجد ويجد القارئ عرضا مفصلا لمآثر هذه الاسرة في كتاب قمر بني هاشم لمؤلفه المحقق العلامة عبد الواحد المظفر.
(الولادة والنشأة)
وَلَدت أمُ البنين أولَ أولادها عام 26 هـ، وسمّاه أمير المؤمنين (ع) العباس ثم ولدت ثلاثة أبناء هم عبد الله وجعفر وعثمان ونشأ أبو الفضل في كنف ذلك الوالد العظيم فنهل من علمه واخلاقه وشجاعته وغذي من لبن تلك المرأة الطاهرة فاستقى من سجاياها العظيمة وورث نبل اسرتها وسؤددها ولازم أخويه السبطين الكريمين فتحلى بخصالهما الرفيعة وتلقى منهما المثل السامية والاخلاق النبيلة فاجتمعت لدى أبي الفضل العباس كل المكونات التربوية الصالحة التي رفعته الى مستوى العظماء والمصلحين والتي جعلته علماً من اعلام التاريخ الانساني.
(العباس في عهد أبيه وأخيه)
رافق العباس الكثير من الحوادث الجسام وهو صغير السن فعايش خلافة أبيه وما رافقها من الأحداث والحروب كما شاهد ما جرى على أخيه الحسن من المحن والبلايا من قبل معاوية بن ابي سفيان وراى غدر اصحاب أخيه بإمامهم كما رأى إشاعة الظلم والاستبداد وانتشار الجلاوزة في البلاد والتي عملت على ابادة اصحاب امير المؤمنين المخلصين وتصفيتهم جسديا أمثال حجر بن عدي واصحابه وعمرو بن الحمق ورشيد الهجري وغيرهم وإعلان معاوية رسميا سب امير المؤمنين (ع) والإيعاز بذلك الى ولاته وعماله في كل البلاد في خطب الجمعة وسائر المناسبات الدينية على المنابر وإشاعة ذلك بين المسلمين وبلغ تمادي معاوية في غيه الى دسه السم الى الامام الحسن (ع) وقتله.
كل هذه الاعمال الفضيعة التي شاهدها العباس (ع) كانت تحفز فيه روح الثورة على الحكم الاموي الذي زاد من ظلمه وجوره بعد هلاك معاوية وجلوس ابنه يزيد على عرش الحكم.
(مع الحسين)
وعى العباس (ع) تلك الاهداف السامية التي كان ينشدها ابوه (ع) في تحقيق العدالة الاجتماعية وتطبيق الشريعة الاسلامية فآمن بها وجاهد في سبيلها فانطلق مع اخيه سيد الشهداء (ع) لتحقيقها فأعلن الحسين (ع) رفضه القاطع لبيعة يزيد وصمم على الثورة فرفع راية الرفض بوجه الظلم وعبّد للمسلمين طريق الحرية والعدالة وكان أهم من آزره في ثورته وناصره أخوه أبو الفضل العباس (ع) فلازمه في طريقه من مكة الى العراق مع اهل بيته واصحابه حتى وصلوا كربلاء
(في كربلاء)
وصلت هذه الكوكبة الى كربلاء لتنسج بدمائها تاريخا جديدا للانسانية جمعاء ولتكتب أسماءها بأحرف من نور على جبين الدهر وكان لسيدنا العباس (ع) مواقف مشرفة جسدت عميق إيمانه ورسوخ عقيدته فعندما عرض شمر بن ذي الجوشن الأمان على العباس (ع) وإخوته رفضوا رفضا قاطعا..
ان العباس (ع) هو الغصن الزكي الذي تفرع من الدوحة الشريفة ولايمكن ان يتخلى عنها بعد ان تصلب عوده من قيمها السماوية ونشأ على مبادئها الرسالية وتغذى من خصالها العلوية فكان جوابه (ع) للشمر (لعنك الله ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له).
لايستطيع القلم أن يعطي هذا الموقف حقه من الوصف فقد نذر العباس (ع) واخوته نفوسهم للحسين (ع) وعلقوا مصيرهم بمصيره وكان الحسين (ع) يجل اخاه العباس (ع) ويقدر له ايمانه ومنزلته السامية فحينما ارسله لمخاطبة الاعداء قال (ع) له (إركب بنفسي أنت يا أخي...) ولا يخفى ما لهذه الكلمات من دلالة واضحة على مكانة العباس (ع) الكبيرة عند الحسين (ع).
ولم ير الحسين من هو أكفأ لحمل الراية منه ولهذا المنصب أهمية كبرى حيث يتم اختيار الشخص لذلك من أصحاب الكفاءات العالية والبسالة النادرة اضافة الى وفائه وإخلاصه وصبره ورأيه الثاقب وقد تجسدت كل هذه الخصال في سيدنا العباس (ع) وكان كفؤا لحمل الراية التي بقيت ترفرف فوق رؤوس اصحاب الحسين (ع) واهل بيته تمدهم بالعزيمة في قتالهم الاعداء حتى تساقطوا نجما بعد نجم فالتفت الى اخوته الثلاثة وقال لهم (تقدموا يابني أمي حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله).
لقد درج معهم مراحل الطفولة والشباب حتى بلغوا مبلغ الرجال فلم تمنعه عاطفة الأخوة من أن يقدمهم قرابين في سبيل الله ونصرة ابن بنت نبيه فكان اعتباره الأسمى والذي هو فوق كل اعتبار او عاطفة هو ان ينصحوا في جهادهم لله ورسوله ويذبوا عن الحسين (ع) فسقطوا شهداء واحدا بعد الاخر ووقف العباس (ع) يتأمل في وجوههم المشرقة بنور الإيمان واستعد للحاق بهم
(الروح الكبيرة)
لم يبق مع الحسين (ع) سواه وعندما طلب الاذن بالقتال منه (ع) قال له الحسين (ع) (أنت صاحب لوائي) ان الحسين لازال ينظر الى معسكره كقوة ضاربة تستطيع أن تصد الأعداء وترد هجماتهم مادام لواؤه مرفوعا بيد أخيه أبي الفضل (ع).
كان صراخ الاطفال من العطش يملأ مسامع الحسين (ع) فطلب من اخيه العباس (ع) احضار الماء لهم فاستجاب واقتحم الفرات وشتت من كان عليه من الجند ونزل الى الماء واغترف منه بيده ليشرب.. لكنه لم يشرب كانت صرخات الاطفال تتردد على مسامعه وصورة وجه اخيه لم تفارق ذهنه فرمى الماء من يده وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني* وبعده لا كنت او تكوني
هذا حسين وارد المنون* وتشربين بارد المعين
*تالله ما هذا فعال ديني
أي نفس أكرم من هذه النفس الكبيرة؟ وأي إيثار مثل هذا الإيثار؟ وأي روح أكثر شفافية من هذه الروح؟ وأي نبل أعظم من هذا النبل؟
ولما استشهد أبو الفضل العباس (ع) جلس عند رأسه الحسين (ع) وقال (الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي) ولم يقل الإمام الحسين (ع) هذه المقولة عند استشهاد أي احد من أصحابه وأهل بيته سوى العباس (ع) فأي مكانة احتلها أبو الفضل في نفس سيد الشهداء (ع)
(مكانته عند أهل البيت (ع))
احتل العباس (ع) مكانة جليلة عند الأئمة الهداة من اهل البيت (ع) وقد تجسدت هذه المكانة في اقوالهم ففي الخصال ج 1 ص 35 عن الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) انه قال (رحم الله عمي العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه فأبدله الله بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب وإن للعباس عند الله منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة).
وفي عمدة الطالب عن الامام جعفر الصادق (ع) انه قال (كان عمي العباس بن علي نافذ البصيرة صلب الايمان جاهد مع اخيه الحسين وأبلى بلاء حسنا ومضى شهيدا) وحسب ابي الفضل (ع) هذه الأوسمة الرفيعة من أفواه الذين لا ينطقون الا بالحق وبه يعملون.
(باب الحوائج)
يا سيدي يا أبا الفضل العباس بن علي.. يامن ترسخ الايمان في قلبك فتجسد في مواقفك وغرس حب الحسين في نفسك فتجلى في دفاعك عنه لقد آثرت وأبليت وفديت بروحك دين الله فكتب الله لك الخلود في الدارين وجعلك باباً من أبواب رحمته فأنت باب الحوائج يفوح منها العبق العلوي وأنت بطل العلقمي ذلك النهر الذي محيت آثاره لأنك أنت النهر الخالد الذي تنهل منه الأجيال معاني الكرامة والإباء، وأنت حامل اللواء الذي لن يسقط ابدا فلازال وسيبقى يرفرف على صرحك الشامخ وانت قمر بني هاشم في بهائك وسناك ونبلك.
.............
انتهى / 278
المصدر : وكالة الحوزة
الثلاثاء
٩ أبريل ٢٠١٩
٧:٢٠:٣٩ م
936284
السلام عليك أيها العبد الصالح؛
العباس بن علي (ع) قدوة الاحرار وعَلَم الثوار
يوافق الرابع من شهر شعبان الذكرى العطرة لولادة قمر بني هاشم أبي الفضل العباس (ع)، فبهذه المناسبة نسلط الضوء على بعض ما ورد حول سيرته ومواقفه المشرفة.