ابنا: يوافق 14 خرداد هجري شمسي الذكرى الأليمة لوفاة مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قدس الله نفسه الزكية)، فبهذه المناسبة نلقي الضوء على تأثيرات فكره على شتى المستويات العالمية والمحلية.
خلقت الثورة الإسلامية التي قادها الإمام الخميني وعيا سياسياً جديداً في المنطقة الإسلامية والعالم وقد غيرت الثورة موازين القوى محلياً وعالمياً وأعادت الثقة إلى الجماهير بقابليتها على احداث التغيير السياسي الاجتماعي. المقال التالي يلقي الضوء على بعض العناوين البارزة في تأثيرات فكر الإمام الخميني ومسيرته:
التاريخ دائماً هو الحكم في تقييم حياة الرجال العظام بعد وفاتهم، وسوف يقيّم بشكل كامل مجموع انجازاتهم في حياتهم والأثر الذي يتركونه على الأحداث. وبعضهم سيكون تأثيره وقفاً على حياته، بينما يكون للبعض الآخر تأثير يمتد إلى زمن طويل بعد موتهم. والإمام الخميني من هذا الصنف الأخير. والأمر الآخر هو أنه مهما يكن الشخص الذي يكتب تاريخ فترة آية الله الخميني، حتى ولو كان من أعدائه، فإنه ولابد سيعترف بحقائق ثلاث:
أولاً: إن تأثيره لم يتحدد بإيران فقط وإنما تعداه إلى خارج حدود إيران ودخل إلى عمق الأقطار الإسلامية الأخرى كلها. وتمثل هذا التأثير بإشعال جذوة النهضة الإسلامية فيها. ثانياً: كان لهذا تأثيره العميق على السياسة العالمية، وجعل العالم يعترف بأن الإسلام قوة لابد من إدراك أهميتها. ثالثاً: إن التأثيرات السابقة ستبقى إلى زمن أطول كثيراً من حياة الإمام الخميني.
هناك مساحات عديدة برز فيها تأثير حياة الإمام الخميني بشكل خاص أو عام، وسنشير إلى نواح مخصوصة منها. ولن يكون بمقدورنا بالطبع أن نعطي شرحاً واضحاً لها، ولكننا سنشير إلى النقاط الأساسية فيها:
عندما بدأت شواهد انتهاء القوى الاستعمارية وضمور دورها في القرن العشرين، بدأ شكل آخر من الكفر يحتل مقامها، وقد بدأ هذا العصر بولادة القوى العظمى، أميركا والاتحاد السوفياتي. وقد اقتسمت الدولتان العالم بينهما. وأما الدول التي لم تقبل أن تصبح تابعة لهما، فإن حكامها هددوا بالمقاطعة الاقتصادية واستعمال القوة لاجباره على التخلي عن الحكم باستعمال الطرق المختلفة التي نجحت أجهزة المخابرات العالمية في استعمالها. وفي العام 1953 نجحت السي. آي. أيه باستعمال طرقها الخبيثة وإعادة الملكية إلى إيران.
وحركت السي.آي.أيه جهاز السافاك ــ المخابرات السرية الإيرانية ــ للقبض على واغتيالا جميع العناصر الإسلامية. وجرى احتواء اقتصاد البترو ــ دولار الإيراني داخل النظام الرأسمالي الأميركي من خلال بيع أنماط التحديث الجاهزة. ولم تفلح ملايين البترو ــ دولارات في إقامة نظام اقتصادي متوازن، لأن الفقراء بقوا على أشد ما يكونون عليه فقراً. وكان عليهم، في الحقيقة، أن يهاجروا إلى المدن طلباً للمعيشة وسكنوا بيوتاً من علب الصفيح. إن أخذ اثنين وخمسين رهينة أميركية من قبل إيران قد هزت العالم. وأساس الهزة هي قدرة دولة صغيرة على تحدي دول كبيرة. وأثبت هذا العمل كيف أن بمستطاع دولة صغيرة أن تجبر دولة عظمى على الركوع والدخول معها في مفاوضات لاستعادة ملايين الدولارات الإيرانية التي اغتصبتها منها أميركا. وكان هذا العمل من قبل الإمام الخميني تحطيماً للتدخلات الخفية للدول العظمى.
الثورات ظواهر نادرة لا تحصل في كل يوم من حياة العالم. وفي العالم الإسلامي بشكل خاص، لم تحدث هناك ثورة لقرون عديدة. وما زالت القوى الاستعمارية التي تغلبت على دول المغول والعثمانيين هي المسيطرة على العالم الإسلامي. وقد وضعوا ألعوباتهم على دفة السلطة في البلاد، التي تخلوا عنها حتى بعد زمن طويل من رحيلهم. وتمتعت الحكومات الجديدة بقوة مطلقة (ديكتاتورية) وأجهزة أمنية قوية استطاعت أن تدمر كل المجاميع المعارضة لها. ولكن الثورة الإسلامية في إيران فتحت طريقاً جديداً للتغيير السياسي في العالم الإسلامي. وبرز هذا الطريق من خلال الجماهير التي التفت حول قيادة الإمام الخميني. وإن المهارة التي أدار بها الإمام الخميني ثورته تجاوزت كل نظريات الثورة المعروفة.
بعد انتهاء دولة الراشدين وتحول الخلافة إلى ملك عضوض، لم يعد بالمستطاع طرح قيادة تحتل المقام الصحيح. وكان هناك ثلاث مرشحين: رجال مثل أبي ذر الغفاري الذي استطاع مواجهة الحكام بصراحة وجابههم في وجوههم ولكن هذه النوعية كان نادرة، وكان يندر أيضاً أن نجد تحدياً مسلحاً من أفراد أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ثورة الحسين بن علي (ع) الذي استطاع بشهادته أن يسحب الشرعية من حكام عصره.
والجماعة الثالثة التي كانت مرشحة للقيادة هي فئة العلماء ولكنهم اخضعوا للجهات الحاكمة لتمرير سياساتها. وقد كان لتخلي غالبيتهم عن دور القيادة أثره في تشويه صورتهم لدى العامة. وجرى حصر وظيفتهم بالشعائر الإسلامية، كالعبادات وحدها، من دون إنجاز عمل كبير للإسلام. وكان الإمام الخميني قد صادف في مسيرته الجهادية علماء كثار مثل هؤلاء ممن كان علمهم قد وضع في خدمة الشاه ودولته. ولكن الإمام أثبت أن هناك استثناء لما هو مطروح وأن الإسلام لا يكون مطلقاً في خدمة الشاه ودولته ولكن فقط في سبيل الله سبحانه وتعالى. وكان لدور الإمام الخميني في قيادة الثورة الإسلامية أثره في الارتفاع بصورة العلماء في العالم الإسلامي كطبقة لها إمكانيات ثورية هائلة.
لقد أعلن المستشرقون الغربيون أن الإسلام قد انتهى. والمستشرقون جزء من التقاليد المدرسية الغربية في دراسة مختلف جوانب الإسلام. وقد وصلوا إلى تحقيق نفوذهم وتكوين معداتهم العلمية خلال الفترة الاستعمارية وعبروا عن المصالح الغربية في الحاجة إلى فهم الإسلام للتعامل معه. وكان العالم الغربي قد عرف قوة الإسلام خلال الحرب الصليبية. وكان لدى المستشرقين استنتاج وصلوا إليه بأهوائهم الخاصة يقول إن الإسلام رجعي وإن التحديث سيحتل مكانه بسهولة. وكان من صالح الاستعمار أن يسود المنظور الاستشراقي المشوه الذي يقول بالفصل بين الإسلام والسياسة.
ولكن أعظم هزة أحدثتها الثورة الإسلامية كانت في المحيط الغربي حيث أثبتت أن جميع نظريات المستشرقين حول الإسلام كانت مشوهة. وجعل صعود الإسلام كقوة عالمية ثالثة الاستعمار والمستشرقين الغربيين يعودون إلى التفكير بالأسباب التي جعلتهم يقعون في الخطأ. ويشهد على ذلك أن أكبر كمية من الكتابات عن الإسلام والثورة الإسلامية قد نشرت في الأوساط الإعلامية الغربية وبأعداد تفوق إلى حد كبير ما نشر في دول العالم الثالث.
ليس من السهل أن نطلق تعبير الدولة الإسلامية على حكومة من حكومات القرن العشرين، وربما أيضاً الحكومات السابقة عليها. والحكومات والدول القائمة في العالم الإسلامي هي حكومات خاضعة للاستعمار وتابعة له بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وإن بعضها قد أخذت بنظام غربي للحكم في دستورها وأحزابها ونظامها السياسي، والبعض الآخر قد تبع أفكار علمانية اشتراكية وديمقراطية وشيوعية وماركسية. وبكلمة أخرى، إن الدولة ــ النموذج في العالم الإسلامي في القرن العشرين ــ تحاول أن تعطي لنفسها صبغة وبنية غربية.
وكان لدی الإمام الخميني تصور آخر، فقد وضع نصب عينيه نموذج دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. وهناك فارق بين أن يكون لديك تصور وبين أن تكون لديك القدرة على تحقيقه. ولكن جهد الإمام كان مشكوراً في الجانبين. لقد نجح في تشييد الجمهورية، وبقيامها ظهرت للعالمين مساوئ الأنظمة الأخرى، إذ ان الجمهورية الإسلامية كانت بمثابة المرآة وهي أن لم تك كاملة النقاء فقد كانت أقرب إلى التصور الإسلامي الأصيل منها إلى أي نظام في العالم الغربي. ولو لم تكن كذلك لما سعى الغرب إلى تحطيمها.
والمهم أن الإمام قد طرح نموذجاً جديداً يقتدى به؛ فهو لم يسع إلى سلطة كما فعل الآخرون الذي يجعلونها في أعقابهم وإنما ترك لغيره أن يحتل منصب رئاسة الدولة ومنع أفراد عائلته من احتلال أي موقع سياسي. ثم ان الثروة لم تك موضع اهتمامه على الإطلاق وكان يرى فيها سبيلاً إلى الخير ومرضاة الله سبحانه وتعالى. وضرب بذلك مثالاً لرؤساء الدول وحكامها. ولو كان هناك أي ميل لديه نحو تجميع الأموال ونهبها، لا سمح الله، لما توقف أعداؤه عن استعمال ذلك للتشهير به ولكنهم عجزوا عن اكتشاف ما يسيء إلى شخصية تربّت على هدى الإسلام.
لقد نخرت الطائفية جسم العالم الإسلامي. واستمرت تفعل ذلك لقرون. والانقسام الكبير كان بين السنة والشيعة. وتولد عن هذا الانقسام ضعف العالم الإسلامي بينما استفاد منه أعداؤهم. وكان من السهل على الإمام الخميني أن يستغل الانقسامات الموجود ولكنه بروحه العالية وشخصيته الإسلامية بقي فوق الانقسامات. وبسبب من ذلك أصبح اسمه محبوباً في جميع أرجاء العالم الإسلامي. وأما الذي عادوه فقد كانوا شلة من رجال السلطة المتسلطة على أنظمة الحكم في الدول الإسلامية ممن أحسوا بالخطر على مصالحهم. ولكن من التناقض أن يخشى المسلم من الإسلام. إن أولئك الذي عادوا الإمام هم اما من الذين لبسوا من الإسلام اسمه أو من المتحللين منه.
قام الإمام الخميني بدور توحيدي في صفوف جميع المسلمين على اختلاف مذاهبهم ولم يك تأثيره ذا طابع سني أو شيعي بل كان إسلامياً. وقد قرأ ملايين الشباب المسلم في العالم كتب وخطب الإمام الخميني ووجدوا أنها تدور حول قضايا تهم جميع المسلمين، كما أن الإمام بسلوكه مضى شوطاً بعيداً في التقريب بين الشيعة والسنة.
إن الثورات لا تغير المجتمعات بشكل جزئي وإنما يجري التغيير بصورة كلية. ولكن أغلبت المجتمعات الإسلامية، بسبب عدم حدوث ثورات جذرية فيها، فإنها لا تهتم بالسياسة مما يترك الفرصة أمام الهيئات الحاكمة للتصرف بما تشاء، في الوقت الذي تكون فيه غاية مسعى الجماهير هي طلب الرزق. ولم تك إيران استثناء لهذه القاعدة خلال العهد الملكي، ولكن ثورة الإمام الخميني خلقت وعياً سياسياً جديداً في قطاعات عريضة من المجتمع الإسلامي، ودفع ذلك قطاعات كالجيش والسياسيين والطلبة والمثقفين والجماهير بشكل عام إلى اليقظة السياسة.
وكان العهد السابق قد خلق لديهم الإحساس بأن النظام سيبقى إلى الأبد، ومنعهم الوعي المهزوم الذي خلقه نظام الشاه من التفكير بالخروج على الحكم، ولكن الثورة أحدثت التغيير وخلقت الوعي بإمكانية امتلاك الإنسان لمصيره. وكان التأثير على أوجه لدى المثقفين والجماهير لأنهم كانوا القاعدة التي ساندت الثورة الإسلامية. وإن تأثر الوعي السياسي الذي استحدثته الثورة لم يعد محصوراً بإيران وحدها فسرعان ما انتقل إلى الأقطار الإسلامية الأخرى، وتسبب ذلك في إثارة المخاوف لدى حكام هذه البلدان إذ تكونت في دولهم جماعات إسلامية تستمد إلهامها من نموذج إيران ويعود فضل الوعي الجديد إلى الإمام الخميني، لأنه، ومن خلال رفع مستوى الوعي السياسي، وضع الأسس التي تتطلبها كل الثورات الإسلامية.
واحد من تأثيرات نهضة الإمام الخميني انها أعادت إلى الروح الإسلامية حیویتها بعد أن انطفأت شمعتها تحت الحكومات الجاهلة وتأثيرات المستشرقين. لقد حصر الإسلام في معاني عبادية ضيقة وحول إلى طقوس محددة. ولكن الإمام الخميني أعاد للروح الإسلامية حيويتها بإظهار المعاني الإسلامية كالجهاد، الشهادة، الظلم، المستضعفين والمستكبرين وغيرها. وإن احياء مفهوم الحج على الوجه الذي عناه الإسلام قد أقلق الجهات التي تريد حصره بحدود ضيقة.
إن التاريخ سيستمر في تقييم الثورة الإسلامية، ولكن تأثير الثورة الإسلامية سيغيّر اتجاه ومصير المسلمين في القرن الحادي والعشرين. وكلما نجحت عملية إعادة الحيوية إلى الإسلام في داخل الأمة فإنها ستصبح أكثر قوة. إن الإمام قد انتقل إلى جوار ربه ولكن ثورته تشبه البركان الذي سيبقى يغلي إلى أمد طويل.
.......
انتهى / 278
المصدر : موقع الإمام الخميني (ره)
السبت
٣ يونيو ٢٠١٧
٥:٤٩:٥٩ م
833970
يوافق 14 خرداد هجري شمسي الذكرى الأليمة لوفاة مفجر الثورة الإسلامية الإمام الخميني (قدس الله نفسه الزكية)، فبهذه المناسبة نلقي الضوء على تأثيرات فكره على شتى المستويات العالمية والمحلية.