ابنا: يوافق الخامس من شهر ديسمبر سنة ۱۹۳۳م إلغاء قانون حظر الكحوليات في الولايات المتحدة، وبهذه المناسبة نقدم لكم مقالاً عن سماحة آية الله الشهيد السید محمد باقر الصدر، تطرق فيه إلى ما قدمته الشريعة الإسلامية من كرامة للإنسان بهذا الصدد.
... كما حرّر القرآن عقيدة الانسان من الوثنية وعقله من الخرافة كذلك حرر إرادته من سيطرة الشهوة، فصار الانسان المسلم- نتيجة لتربية القرآن له- قادراً على مقاومة شهواته وضبطها والصمود في وجه الاغراء وألوان الهوى المتنوعة؛ وفيما يلي نموذج قرآني من نماذج تغذية هذا الصمود وتركيزه في نفوس المسلمين:
قال اللَّه تعالى: «زُيّن للناس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا واللَّه عنده حسن المآب* قل أؤُنبِّئكُم بخيرٍ من ذلكم للذين اتّقوا عند ربّهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهّرة ورضوان من اللَّه واللَّه بصيرٌ بالعباد» «1».
بهذا وغيره من نماذج التربية والترويض استطاع القرآن والاسلام ان يحرر الانسان من العبودية لشهواته الداخلية التي تختلج في نفسه، لتُصبح الشهوة اداة تنبيه للانسان الى ما يشتهيه، لا قوة دافعة تسخّر إرادة الانسان دون ان يملك بأزائها حولًا أو طولًا؛ وقد اطلق الرسول الاعظم صلى الله عليه و آله على عملية تحرير الانسان هذه من شهواته الداخلية اسم «الجهاد الاكبر».
واذا لاحظنا قصة تحريم الخمر في الاسلام استطعنا أن ندرك- من خلال هذا المثال- مدى نجاح القرآن في تحرير الانسان المسلم من أسر الشهوة وتنمية إرادته وصموده ضدها؛ فقد كان العرب في الجاهلية مولعين بشرب الخمر معتادين عليها، حتى أصبح ضرورة من ضرورات الحياة بحكم العادة والالفة، وشغلت الخمر جانباً كبيراً من شعرهم وتأريخهم وأدبهم، وكثرت أسماؤها وصفاتها في لغتهم، وكانت حوانيت الخمارين مفتوحة دائماً ترفرف عليها الأعلام، وكان من شيوع تجارة الخمر أن أصبحت كلمة التجارة مرادفة لبيع الخمر في مثل هذا الشعب المغرم بالخمر. نزل القرآن الكريم بقوله تعالى: «يا أيّها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون» [1]. فما قال القرآن «اجتنبوه» إلّا وانطلق المسلمون الى زقاق خمورهم يشقونها بالمدي والسكاكين يريقون ما فيها، ويفتشون في بيوتهم لعلّهم يجدون بقية من خمر فاتهم ان يريقوها، وتحولت الامّة القرآنية في لحظة الى امّة تحارب الخمر وتترفع عن استعماله، كل ذلك حدث لأنّ الامّة كانت مالكة لارادتها، حرة في مقابل شهواتها، قادرة على الصمود أمام دوافعها الحيوانية، وأن تقول بكلّ صرامة وجد حين يدعو الموقف الى ذلك، وبكلمة مختصرة كانت تتمتع «بحرية حقيقية تسمح لها بالتحكم في سلوكها».
وفي مقابل تلك التجربة الناجحة التي مارسها القرآن الكريم لتحريم الخمر نجد أنّ أرقى شعوب العالم الغربي مدنية وثقافة فشل في تجربة مماثلة؛ فقد حاولت الولايات المتحدة الاميركية في القرن العشرين أن تخلص شعبها من مضار الخمر فشرعت في سنة (1920) قانوناً لتحريم الخمر، ومهدت لهذا القانون بدعاية واسعة عن طريق السينما والتمثيل والاذاعة ونشر الكتب والرسائل، وكلّها تبين مضار الخمر مدعومة بالاحصائيات الدقيقة والدراسات الطبية.
وقد قُدِّر ما انفق على هذه الدعاية (65) مليوناً من الدولارات، وسوّدت تسعة آلاف مليون صفحة في بيان مضارّ الخمر والزجر عنها، ودلت الاحصائيات للفترة الواقعة بين تأريخ تشريعه وبين تشرين الاول (1933) أ نّه قُتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نسمة، وحبس نصف مليون نسمة، وغرم المخالفون له غرامات تبلغ مليوناً ونصف المليون من الجنيهات، وصودرت اموال بسبب مخالفته تقدر باربعمائة مليون جنيه، وأخيراً اضطرت الحكومة الاميركية الى الغاء قانون التحريم في أواخر سنة (1933)، وفشلت التجربة.
والسبب في ذلك أنّ الحضارات الغربية بالرغم من مناداتها بالحرية لم تستطع بل لم تحاول ان تمنح الانسان الغربي (الحرية الحقيقية) التي حقّقها القرآن الكريم للانسان المسلم، وهي حريته في مقابل شهواته وامتلاكه لارادته أمام دوافعه الحيوانية، فقد ظنت الحضارات الغربية أنّ (الحرية) هي أن يقال للانسان:
اسلك كما تشاء وتصرّف كما تريد، وتركت لاجل ذلك معركة التحرير الداخلي للانسان من سيطرة تلك الشهوات والدوافع، فظلّ الانسان الغربي أسير شهواته عاجزاً عن امتلاك ارادته والتغلّب على نزعاته، بالرغم من كلّ ما وصل إليه من علم وثقافة.
(1) آل عمران: 14، 15
(١) المائدة: ٩٠
المدرسة القرآنية(موسوعة الشهيد الصدر، ج١٩)، ص٢۴۵
...........
انتهى / 278