وكالة أهل البيت (ع) للأنباء

المصدر : هدى القرآن
الجمعة

٨ مايو ٢٠١٥

٦:١٥:٤٤ م
688956

من أحداث شهر رجب

غزوة تبوك

حدثت غزوة تبوك وهي إحدى غزوات النبي الأكرم (ص) في شهر رجب، وتعتبر هذه الغزوة من الأحداث المهمة في تاريخ الإسلام وهي حافلة بقضايا منها عدم حضور الإمام علي (ع) ........

ابنا: منطقة (تبوك) هي أبعد نقطة وصل إليها النبي (ص) في غزواته، وهذه الكلمة في الأصل اسم قلعة محكمة وعالية كانت في الشريط الحدودي بين الحجاز والشام، ولذلك سميت تلك المنطقة بأرض تبوك.

إن انتشار الإسلام السريع في جزيرة العرب كان سببا في أن يدوي صوت الرسول (ص) ونداؤه في جميع الدول المجاورة للجزيرة العربية، ولم يكن أحد يعير للحجاز أهمية لغاية ذلك اليوم، فلما بزغ فجر الإسلام، وظهرت قوة جيش النبي (ص) الذي وحدّ الحجاز تحت راية واحدة، خاف هؤلاء من عاقبة الأمر.

إن دولة الروم الشرقية المتاخمة للحجاز، كانت تحتمل أن تكون من أوائل ضحايا تقدم الإسلام السريع، لذلك فقد جهزت جيشاً قوامه أربعون ألف مقاتل، وكان مجهزاً بالأسلحة الكافية التي كانت تمتلكها قوة عظمى كإمبراطورية الروم، واستقر الجيش في حدود الحجاز، فوصل الخبر إلى مسامع النبي (ص) عن طريق المسافرين، فأراد النبي (ص) أن يلقن الروم وباقي جيرانه درسا يكون لهم عبرة. فلم يتأخر عن إصدار أمره بالتهيؤ والاستعداد للجهاد، وبعث الرسل إلى المناطق الأخرى يبلّغون المسلمين بأمر النبي (ص) فلم يمض زمن حتى اجتمع لديه ثلاثون ألفا لقتال الروميين، وكان من بينهم عشرة آلاف راكب وعشرون ألف راجل.

كان الهواء شديد الحر وقد فرغت المخازن من المواد الغذائية، والمحصولات الزراعية لتلك السنة لم تحصد وتجمع بعد، فكانت الحركة في مثل هذه الأوضاع بالنسبة للمسلمين صعبة جداً، إلا أنّ أمر الله ورسوله يقضي بالمسير في ظل أصعب الظروف وطي الصحاري الواسعة والمليئة بالمخاطر بين المدينة وتبوك.

جيش العسرة:
إن هذا الجيش نتيجة للمشاكل الكثيرة التي واجهها من الناحية الاقتصادية، والمسير الطويل، والرياح السموم المحرقة، وعواصف الرمال الكاسحة، وعدم امتلاك الوسائل الكافية للنقل، قد عرف بـ (جيش العسرة).

إن تاريخ الإسلام يُبيّن أن المسلمين لم يعانوا مثل ما عانوه في غزوة تبوك من الضغوط والمشقة، لأن المسير إلى تبوك كان في وقت اشتداد حر الصيف من جهة. ومن جهة أخرى فإن القحط قد أثّر في الناس وأنهك قواهم. وكذلك فإن الفصل كان فصل اقتطاف الثمار، ولابد من جمع ما على الأشجار والنخيل لتأمين قوت سنتهم. وإذا تجاوزنا جميع ذلك، فإن المسافة بين المدينة وتبوك طويلة جدا. والعدو الذي كانوا يريدون مواجهته هو إمبراطورية الروم الشرقية، التي كانت يومها من أقوى الإمبراطوريات العالمية.

إضافة إلى ما مرّ، فإن وسائل النقل بين المسلمين كانت قليلة إلى الحد الذي قد يضطر أحيانا عشرة أشخاص إلى أن يتناوبوا ركوب وسيلة واحدة، وبعض المشاة لم يكونوا يمتلكون حتى النعل، وكانوا مضطرين إلى العبور على رمال الصحراء الحارقة بأقدام عارية...

أما من ناحية الطعام والشراب، فإنهم كانوا يعانون من قلة المواد الغذائية. بحيث أن عدة أشخاص يشتركون في تمرة واحدة أحياناً، فيمض كل منهم التمرة ويعطيها لصاحبه حتى لا يبقى منها إلى النواة ... وكان عدة أفراد يشتركون في جرعة ماء!!

وقد حدثت هذه الواقعة في السنة التاسعة للهجرة، أي بعد سنة من فتح مكة تقريباً.

وبما أن المواجهة في هذا الميدان كانت مواجهة لإحدى الدول الكبرى في ذلك العصر، لا مواجهة لإحدى القبائل العربية، فقد كان جماعة من المسلمين قلقين مشفقين من المساهمة والحضور في هذه المواجهة، ولذلك فقد كانت الأرضية مهيأة لوساوس المنافقين وبذر السموم، فلم يألوا جهداً في إضعاف المعنويات وإحباط المؤمنين أبداً. فقد كان الموسم موسم اقتطاف الثمار وجمع المحاصيل الزراعية، وكان هذا الموسم للمزارعين يعد فضلاً مصيرياً، إذ فيه رفاه سنتهم هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن بعد المسافة وحرارة الجو – كما أشرنا آنفاً – كل ذلك كان من العوامل المثبطة للملمين في حركتهم نحو مواجهة الأعداء.

فنزل الوحي ليشدَّ من أزر الناس، والآيات تترى الواحدة بعد الأخرى لإزالة الموانع والأسباب المثبطة.

لغة الترغيب، لغت العتاب، لغة التهديد
يدعو القرآن الملمين إلى الجهاد بلسان الترغيب تارة وبالعتاب تارة أخرى وبالتهديد ثالثة فهو يدعوهم ويهيؤهم إلى الجهاد، ويدخل إليهم من كل باب.

يقول أولاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ﴾.

القرآن يخاطب من كان كذلك من المسلمين – ضعاف الإيمان – لا جميعهم، ولا المسلمين الصادقين وعاشقي الجهاد في سبيل الله.

ثم يقول القرآن مخاطباً إياهم بلهجة الملامة: ﴿أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾.

فكيف يتسنى للإنسان العاقل أن يساوم مساومة الخسران، وكيف يعوض متاعا غالياً لا يزول بمتاع زائل لا يعد شيئاً؟!

ثم يتجاوز القرآن مرحلة الملامة والعتاب إلى لهجة أشد وأسلوب تهديدي جديد، فيقول: ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾.

فإذا كنتم تتصورون أنكم إذا توليتم وأعرضتم عن الذهاب إلى سوح الجهاد، فإن عجلة الإسلام ستتوقف وينطفئ نور الإسلام، فأنتم في غاية الخطأ والله غني عنكم ﴿وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾ قوما أفضل منكم من كل جهة، لا من حيث الشخصية فحسب، بل من حيث الإيمان والإرادة والشهامة والاستجابة والطاعة ﴿وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا﴾.

غزوة وحيدة لم يشارك فيها علي (ع):
ولكنه تحمل الجيش جميع هذه المشاكل، ووصل إلى أرض تبوك في غزة شعبان من السنة التاسعة للهجرة، وكان النبي (ص) قد خلف علياً (ع) مكانه، وهي الغزوة التي لم يشارك فيها أمير المؤمنين (ع).

إن قيام النبي (ص) بإقامة علي (ع) مكانه كان عملاً ضرورياً وفي محله، فإنه كان من المحتمل جداً أن يستفيد المختلفون من المشركين أو المنافقين – الذي امتنعوا بحجج مختلفة عن الاشتراك في الجهاد – من غيبة النبي (ص) الطويلة، ويجمعوا أفرادهم ويحملوا على المدينة ويقتلوا النساء والأطفال ويهدموا المدينة، إلا أن وجود علي (ع) كان سداً منيعا في وجه مؤامراتهم وخططهم.

وعلى كل حال، فإن النبي (ص) حينما وصل إلى تبوك لم ير أثراً لجيوش الروم، وربما كان ذلك لأنهم سمعوا بخبر توجه هذا الجيش الإسلامي العظيم، وقد سمعوا من قبل بشجاعة واستبسال المسلمين العجيبة، وما أبدوه من بلاء حسن في الحروب، فرأوا أن الأصلح سحب قواتهم إلى داخل بلادهم، وليبينوا أن خبر تجمع جيش الروم على الحدود، ونيته بالقيام بهجوم على المدينة، شائعة لا أساس لها، لأنهم خافوا من التورط بمثل هذه الحروب الطاحنة دون مبررات منطقية، فخافوا من ذلك.

إلا أن حضور جنود الإسلام إلى ساحة تبوك بهذه السرعة قد أعطى لأعدائه عدة دروس:
أولاً: إن هذا الموضوع أثبت أن المعنويات العالية والروح الجهادية لجنود الإسلام، كانت قوية إلى الدرجة التي لا يخافون معها من الإشتباك مع أقوى جيش في ذلك الزمان.

ثانيا: إن الكثير من القبائل وأمراء أطراف تبوك أتوا إلى النبي (ص) وأمضوا عهوداً بعدم التعرض للنبي (ص) ومحاربته، وبذلك فقد اطمأن المسلمون من هذه الناحية، وأمنوا خطرهم.

ثالثاً: إن إشعاع الإسلام وأمواجه قد نفذت إلى داخل حدود إمبراطورية الروم، ودوّى صدى الإسلام في كل الأرجاء باعتباره أهم حوادث ذلك اليوم وهذا قد هيأ الأرضية الجيدة لتوجه الروميين نحو الإسلام والإيمان به.

رابعاً: إن المسلمين بقطعهم هذا الطريق، وتحملهم لهذه الصعاب، قد عبّدوا الطريق لفتح الشام في المستقبل، وقد اتضح للجميع بأن هذا الطريق سيقطع في النهاية.

وهكذا، فإن هذه المعطيات الكبيرة تستحق كل هذه المشاق والتعبئة والزحف.
وعلى كل حال، فإن النبي على عادته – قد استشار جيشه في الاستمرار في التقدم أو الرجوع، وكان رأي الأكثر بأن الرجوع هو الأفضل والأنسب لروح التعليمات الإسلامية، خاصة وأن جيوش المسلمين كانت قد تعبت نتيجة المعاناة الكبيرة في الطريق، وضعفت مقاومتهم الجسمية، فأقر النبي (ص) هذا الرأي ورد جيوش المسلمين إلى المدينة.

درس كبير!
أبو خثيمة ، كان من أصحاب النبي (ص)، لا من المنافقين، إلا أنه لضعفه امتنع عن التوجه إلى معركة تبوك مع النبي (ص).

مرت عشرة أيام على هذه الواقعة، وكان الهواء حاراً محرقاً، فحضر يوماً عند زوجتيه، وكنّ قد هيأن خيمته، وأحضرن الطعام اللذيذ والماء البارد، فتذكر فجأة النبي (ص)، وغاض في تفكير عميق، وقال في نفسه: إن رسول الله (ص) الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وضمن له آخرته، قد حمل سلاحه على عاتقه وسار، وجهدت زوجتاه أن يكلمنه فلم يعبأ بهما ولم ينبس بنبت شفة، وواصل سيره حتى اقترب من تبوك.

فقال المسلمون بعضهم لبعض: من هذا الراكب على الطريق؟، فقال النبي (ص): (كن أباً خيثمة) فلما اقترب وعرفه الناس، قالوا: نعم، هو أبو خيثمة، فأناخ راحلته وسلم على النبي (ص)، وحدثه بما جرى له، فرحب به النبي (ص)، ودعا له.

وبذلك فإنه كان من جملة الذين مال قلبهم إلى الباطل، إلا أن الله سبحانه وتعالى لما رأى استعداده الروحي أرجعه إلى الحق وثبت قدمه.

متخلفون ثلاثة:
إن ثلاثة من المسلمين وهم: (كعب بن مالك) و (مرارة بن ربيع) و (هلال بن أمية). امتنعوا من المسير مع النبي (ص) والاشتراك في غزوة تبوك، إلا أن ذلك ليس لكونهم جزءاً من المنافقين، بل لكسلهم وتثاقلهم فلم يمض زمان حتى ندموا.

فلما رجع النبي (ص) من غزوة تبوك حضروا عنده وطلبوا منه العفو عن تقصيرهم، إلا أن النبي (ص) لم يكلمهم حتى بكلمة واحدة، وأمر المسلمين أيضاً أن لا يكلموهم.

لقد عاش هؤلاء محاصرة اجتماعية عجيبة وشديدة، حتى أن أطفالهم ونساءهم أتوا إلى النبي (ص)، وطلبوا الإذن منه في أن يفارقوا هؤلاء إلا النبي (ص) لم يأذن لهم بالمفارقة، لكنه أمرهم أن لا يقتربوا منهم.

إن فضاء المدينة بوسعته قد ضاق على هؤلاء النفر، واضطروا للتخلص من هذا الذل والفضيحة الكبيرة إلى ترك المدينة والإلتجاء إلى قمم الجبال.

ومن المسائل التي أثرت تأثيراً روحياً شديداً، وأوجدت صدمة نفسية عنيفة لدى هؤلاء ما رواه كعب بن مالك قال: كنت يوماً جالساً في سوق المدينة وأنا مغموم، فتوجه نحوي رجل مسيحي شامي، فلما عرفني سلمني رسالة من ملك الغساسنة كتب فيها: إذا كان صاحبك قد طردك وأبعدك فالتحق بنا، فتغير حالي وقلت: الويل لي، لقد وصل أمري إلى أن يطمع بي العدو!

خلاصة الأمر: إن عوائل هؤلاء وأصدقائهم كانوا يأتونهم بالطعام، إلا أنهم لا يكلمونهم قط، ومضت مدة على هذه الحال وهم يتجرعون ألم الانتظار والترقيب في أن تنزل آية تبشرهم بقبول توبتهم، لكن دون جدوى

في هذه الأثناء خطرت على ذهن أحدهم فكرة وقال: إذا كان الناس قد قطعوا علاقتهم بنا واعتزلونا، فلماذا لا يعتزل كل منا صاحبه، صحيح أننا مذنبون جميعاً، لكن يحب أن لا يفرح أحدنا لذنب الآخر. وبالفعل اعتزل بعضهم بعضاً، ولم بتكلموا بكلمة واحدة، ولم يجتمع اثنان منهم في مكان. وأخيراً ... وبعد خمسين يوماً من التوبة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى قبلت توبتهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــ
تفسير الأمثل لآية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
.......
انتهى/278