وكالة أهل البيت (ع) للأنباء _ ابنا: قد اعتمدنا في هذا الحوار المفترض علی مقاطع من نصوصه وكتاباته دونما تصرف، وقد استقيناها من كتاب (ومضات) الصادر مؤخّراً عن مركز الأبحاث والدراسات التخصصيّة للشهيد الصدر (ره) ..
إطلالة تاريخية
تعتبر الحوزة العلميّة مؤسّسة عريقة لها امتدادها في مجتمع المسلمين.. من وجهة نظركم سماحة السيّد، ما هي المكانة التي تمثّلها الحوزة العلميّة، وما هي المسؤوليّات الملقاة علی عاتقها تجاه الأمّة؟
الشهيد الصدر (ره): الحوزة هي واجهة الإسلام في نظر الأمّة وهي المعبّر الشرعي عن هذا الإسلام وأحكامه ومفاهيمه وحلوله لمشاكل الحياة، وهذه النظرة من الأمّة إلی الحوزة ليست أمراً تلقائيّاً أو مدسوساً أو مصطنعاً، وإنّما هي جزء من التخطيط الواعي الذي وضعه سيّدنا صاحب العصر (عج) حينما أنهی عهد النيابة الخاصّة واستبدل ذلك بالنيابة العامّة وكان معنی الاستبدال بالنيابة العامّة جعل الطليعة الواعية المتفاعلة مع الإسلام فكريّاً وروحيّاً وعاطفيّاً جعل هذه الطليعة الواعية العاملة العادلة هي المسؤولة عن حماية الرسالة، وهي المؤتمنة علی هذه الأمانة الغالية التي اضطرّ سيّدنا القائم (ع) أن يغادرها إلی غيبة قد تطول.
تنشئة الطلبة
بناء علی الرؤية التي قدّمتموها، نريد أن نثير معكم موضوعاً يتعلّق بالأسلوب المتّبع في تنشئة الطلّاب في الحوزة، هل ترون أنّ تحصين الطالب علی المستوی الفردي كافٍ لأن يضمن للحوزة قيامها بوظيفتها الرساليّة التي تحدّثتم عنها؟
الشهيد الصدر (ره): تارةً ينظر إلی الحوزة باعتبارها الذاتي، باعتبارها مجموعة من الأشخاص والأفراد، واُخری يُنظر إلی الحوزة باعتبارها الوظيفي، باعتبار دورها ووظيفتها التي تمارسها في الأمّة الإسلاميّة.
إنّ أيّة عمليّة إصلاح جادّة يجب أن لا تقصر نظرها علی الجانب الذاتي، يغني: أن تنظر إلی الحوزة كأفراد، بل يجب أن تنظر إلی الحوزة كأفراد، وفي نفس الوقت تنظر إلی الحوزة باعتبار جانبها الوظيفي، باعتبار وظيفتها الدينيّة ومسؤوليّاتها أمام الله تعالی. وتخيّل أنّ إصلاح الجانب الوظيفي؛ يعني: دعوی لزوم التضامن ومعلوليّة وعليّة بين هذين الجانبين، وأنّه إذا صلح ذاتاً صلح وظيفةً، هذه الدعوی غير صحيحة في الواقع.
لكن ألا ترون أنّ الإصلاح الذاتي شرطُ لما أسميتموه الإصلاح الوظيفي؟
الشهيد الصدر (ره): نعم، لا شكّ في أنّ الإصلاح الذاتي هو أحد شروط الإصلاح الوظيفي؛ لأنّ الإنسان إذا لم يكن في نفسه طيّب النفس منفتحاً علی الخير وعلی الطاعة، حينئذ من العسير أن يكون أداة طاعة بالنسبة إلی الأخير. هذا صحيح، ولكنّ هذا لا يكفي لإصلاح الوجود الوظيفي؛ فإنّّ الوجود الوظيفي بحاجة إلی نوع من الثقافة والتوعية الفكريّة أوّلاً. إذاً فلا بدّ إلی جانب بناء الإنسان الصالح ذاتيّاً، أن يبنی فيه الصلاح وظيفياً أيضاً؛ بأن يوعّی ويثقّف علی دوره الوظيفي وعلاقاته مع الأمّة الإسلاميّة.
إذن نفهم من كلامكم أنّ إصلاح الجانب الذاتي لا يكفي لإصلاح الجانب الوظيفي..
إنّ الصلاح الذاتي لا يكفي لخلق عصمة ومناعة لعدم الإنحراف في خطّ العمل الوظيفي.. ما أكثر الناس الأبرار الأخيار المتهجّدين في الأسحار، الذين علی خطّ وجودهم الوظيفي لا ينعكس تهجّدهم في الأسحار، ولا تنعكس هذه الدرجة الموجودة في وجودهم الذاتي من الخير، وذلك باعتبار أنّ هذا الوجود الوظيفي بنفسه بحاجة إلی نوع من التمرين والتكميل، التوعية والتكميل بالنسبة إلی هذا الوجود الوظيفي لا ينشآن آليّاً وتلقائيّاً من التكميل والتوعية والتثقيف بالنسبة إلی الوجود الذاتي، قد يكون الإنسان عادلا بالنسبة إلی سلوكه الذاتي الشخصي، ولكنّه لا يكون عادلا بالنسبة إلی سلوكه الوظيفي بتلك الدرجة، ولذلك يحتاج لدرجة من التوعية وتنمية هذا الجانب الوظيفي، ولذلك لو لم يوعّ ويثقّف ويمرّن هذا الوجود الوظيفي فسوف يحصل [اختلال] في مستوی التديّن.
ولكنّ الحاصل في واقع الحوزة هو خلاف ذلك؟!
الشهيد الصدر (ره): إنّ مقصودي من هذا البيان مناقشة الأمر الواقع. وهو أنّ هنا اتّجاها قائلاً بأنّ تربية الأفراد بالوجود الذاتي يكفي، ولذلك يكفي، ولذلك النظر عن الوجود الوظيفي. أقول: هذا لا يكفي وإن كان أمراً مهمّاً؛ لأنّ هذا الكمال لا يؤدّي إلی إصلاح اُمور المسلمين.
وكأنّكم تعتقدون بوجود خلل في الجانب الوظيفي لدی الحوزة اليوم؟
الشهيد الصدر (ره): لماذا تعيش الحوزة في هذا البلد مئات السنين، ثمّ بعد هذا يظهر إفلاسها في نفس هذا البلد الذي تعيش فيه؟! وإذا بأبناء هذا البلد أو ببعض أبناء هذا البلد يظهرون بمظهر الأعداء والحاقدين والحاسدين والمتربّصين بهذه الحوزة! ألا تفكّرون في أنّ هذه هي جريمتنا قبل أن تكون جريمتهم؟ في أنّ هذه هي مسؤوليّتهم؟
هل تصدّقون أنّه في النجف الأشرف نفسه، في مركز الحوزة العلميّة في النجف الذي من المفروض فيه أن يموّن بإشعاعه الفكري والعلمي والروحي والديني، أن يموّن كلّ العالم، أو علی الأقلّ كلّ العالم الإسلامي، أو علی الأقلّ كلّ العالم الشيعي، هذا النجف يوجد فيه آلاف من الناس لا يعرفون أحكام رسالتهم، غير منفتحين علی رسالة مكّة، ولا علی مبادئ مكّة، منجرفون مع تيّارات أخری، أو جاهلون، أو مقصّرون، من الذي يُسأل عن هؤلاء أمام الله، نحن نُسأل أمام الله عن منحرف في آخر نقاط العالم الإسلامي، في وجود إمكانيّات، فكيف لا نُسأل عن منحرف انحرف في أو طاننا، في أهلنا، في بلدنا.
كيف ندّعي أنّنا من الدعاة إلی الله ويوجد في بلدنا من لا يعرف من الإسلام شيئاً ونحن لا نفكّر فيه.
الأسباب
ما هو سبب هذا الخلل بنظركم، وما الذي دفع بالأمّة إلی الابتعاد عن الحوزة وعدم ارتباطها بها بالشكل المناسب؟
الشهيد الصدر (ره): لأنّنا لم تتعامل معهم، نحن تعاملنا مع أجدادهم ولم تتعامل معهم. الأجيال التي تحقد علينا اليوم، التي تتربّص بنا اليوم، تشعر بأنّنا تتعامل مع الموتی لا تتعامل مع الأحياء، ولهذا يحقدون علينا ولهذا يتربّصون بنا؛ لأنّنا لم نقدّم لهم شيئاً، لأنّنا لم تفاعل معهم.
وهل هناك آليّة معيّنة لتحقيق هذه التفاعل؟
الشهيد الصدر (ره): أنّا منذ أكثر من سنة أتحدّث مع الإخوان، ومع الأعزّاء في أنّ كلّ واحد من أهل العلم_ كلّ واحد يكون عنده قدرة_ لو كان يكوّن له مجلساً، مجلساً تبليغيّاً في النجف الأشرف يضمّ خمسة فقط لا أكثر من خمسة، يضمّ هذا البقّال الذي يشتري منه السكّر، هذا الجيران الذي يسلّم عليه عندما يخرج من بيته، يضمّ خمسة..
لو كان كلّ واحد من أهل العلم عنده مجلس تبليغي في يوم الجمعة بدلا عن أن يذهب إلی (الكوفة) ويسبح من الصبح إلی العصر، بدلا عن أن يبذّر الوقت بالمطاردة في الشعر، بدلا عن أن يبذّر الوقت في ألف لهو، ولهو.. بدلا عن كلّ ذلك لو أنّه يستثمر جزءاً من هذا الوقت الذي يهدره لا في غرض معقول، لو يستثمر جزءاً من هذا الوقت في تكوين مجلس تبليغي لخمسة من أبناء النجف.. لو أنّ ألف طالب كلّ واحد منهم يكوّن مجلساً تبليغيّاً لخمسة، لكان لدينا قاعدة شعبيّة مكوّنة من خمسة آلاف، لأحسّ الناس من أبناء البلد بأنّنا تتعامل معهم، أنّنا نفكّر فيهم، أنّنا نعطيهم، أنّ وجودنا مرتبط بوجودهم، أنّ حياتنا مصدر خير لهم، مصدر عطاء لهم، لكنّنا، لكنّنا لم تتعامل معهم، ومن الطبيعي أن لا يتعاملوا معنا إذا كنّا لا تتعامل معهم.
إنّ الأفكار التي طرحتموها في غاية الحساسيّة، هل يمكن أن نستوضح منكم عن أساليب العمل التي اتبعتها الحوزة والتي آلت بها إلی هذا المطاف؟
الشهيد الصدر (ره): هنا أنا لا أُريد أن أُناقش أساليب العمل التي أدّت إلی هذه المحنة، ولا أُريد أن أتحدّث عن الأساليب التي من طبيعتها أن تغيّر من الموقف، بل أُريد أن أتحدّث قبل ذلك عن الأرضيّة النفسية لهذه الأساليب، فإنّ منطلق المصيبة والمحنة هو تلك الأرضيّة النفسيّة التي عشناها طيلة الزمن الذي تقدّم وسبق هذه المحن. هذه الأرضيّة النفسيّة لم تكن أرضيّة نفسيّة صالحة لكي تنشأ ضمنها أساليب العمل الصالحة. ولكي تؤتي هذه الأساليب ثمارها.
الأرضية النفسية
لكن علی كل حال، ما الذي خلق هذه الأرضيّة؟
الشهيد الصدر (ره): هذه الأرضيّة النفسيّة التي عشناها والتي كانت ولا تزال تساهم في خلق المشاكل في طريقنا وفي تكوين المحن في وجوهنا، هذه الأرضيّة النفسيّة أستطيع أن أرجعها بالتحليل إلی عاملين نفسيّين، وهما _بالرغم من كونهما عاملين_ مرتبطان كلّ الإرتباط فيما بينهما:
أحد العاملين: هو عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالی.
والعامل الآخر: هو أنّ الأخلاقيّة التي كنّا نعيشها ليست أخلاقيّة الإنسان العامل، بل هي أخلاقيّة إنسان آخر لا يصلح للعمل الحقيقي.
وإذا كنّا نريد أن نستفيد من هذه المحنة، وإذا كنّا جادّين في الحساب، فلا بدّ أن نرجع إلی هذين العاملين الأساسيّين لكي نستطيع أن نتيح لأنفسنا فرصة التكفير عمّا سبق بالنسبة إلی كلّ من هذين العاملين عامل (عدم الشعور بالاتّصال بالله بالدرجة الكافية) وعامل (أخلاقية الإنسان اللاعامل).
ألا تعتقدون أنّ الوقوف عند الماضي وعند ما صنعناه وقدّمناه من شأنه أن يعزّز نفسيّة الإحباط، وأنّ من الأفضل قطع النظر عنه وصرفه إلی الحاضر؟
لاللإحباط
الشهيد الصدر (ره): نحن الآن في حالة لا بدّ أن لا يشغلنا الألم الشديد الذي يقطع نياط قلوبنا، الذي يقضي علی جلّ آمالنا، الذي يفتّت وجودنا، هذا الألم يجب أن لا يشغلنا عن التفكير في أنّنا ماذا صنعنا، وكيف نمنا، وكيف لم نلتفت إلّا بعد أن فاتنا الوقت.
ماذا كنّا نقول، ماذا كنّا نزرع في الطريق دائماً من صعوبات، من عقبات، كيف كنّا لا نعمل، وكيف كنّا نزرع الصعاب والعقبات في وجه من يعمل.
كوننا