وكالة أهل البيت (ع) للأنباء _ ابنا: فیما یلي بعض ما تتحدث «السيدة أم جعفر الصدر» عن ذکریات زوجه «آیة الله الشهيد السید محمدباقر الصدر»:
التطلع للآخرة...
1. لم يتزوّج إلّا بعد أن حصل علی مقدار معيّن من المال إثر بيعه كتابي (فلسفتنا) و(اقتصادنا) فتزوّج من هذا المبلغ.
2. في أول أيام زواجنا ـ أي في "شهر العسل" كما يقال ـ كان يكتب المواضيع الرئيسيّة لكتاب (الأسس المنطقيّة للاستقراء)، وعندما قلت له: «حتّی في هذه الأيّام تكتب»؟! أجاب والابتسامة علی شفتيه: «إنّني لا أستطيع ترك الكتابة في كلّ الأوقات، السعيدة منها والحزينة».
3. بعد زواجنا منه وجدت أنّه لا يمتلك إلّا قاطاً واحداً فقط (أي صاية وحيدة) فسألته: «أين ملابسك الأخری»؟! فضحكت أمّه وقالت له: «ألم أقل لك إنّ زوجتك سوف تتعجّب من قلّة ما تملكه من ملابس»؟!.
4. كان يعيش في زهد تام ويقول: «لا بدّ أن تكون حياة وعيشة المرجع مثل عيشة أحد طلّاب الحوزة»، فهو لم يضف أو يشترِ شيئاً جديداً بعد ظهور مرجعيّته وتقليد الكثير من الناس له وبقي البيت علی ما هو عليه من قبل.
5_ نادراً ما كان يخيط ملابسه أو يشتري، وكان يكتفي بأقلّ شيء ويقول: «عجباً! كم جسداً لي حتّی أخيط وأشتري ملابس متعدّدة».
6. وبعد ما حصلتُ علی مبلغ من المال من الهدايا التي قدّمت لي بمناسبة الزواج اشتريت ثلّاجة ومبرّدة هواء وبوفيه، لأن هذه الأشياء لم تكن موجودة في بيت السيّد.
7. كان يعطي بناته في أوقات المدرسة يوميّاً 50 فلساً (درهماً واحداً) حتّی يشترين ما يردنه هناك. وفي موسم الموز أخذت المدرسة تبيعه بسعر 60 فلساً للموزة الواحدة، فطلبت بناته منه أن يزيد لهنّ اليوميّة 10 فلوس ليتسنّي لهنّ شراء موزة واحدة، فأجابهنّ: «ليس عندي مانع أن أعطيكم، ولكن أسألكم: هل كلّ البنات في المدرسة يشترين الموز»؟! فأجين: «لا، ليس كلّ البنات يستطعن ذلك، وأمّا من يشتري الموز فهنّ الأقلّ»، فقال السيّد: «إذاً كنّ مثل أكثر البنات العاديّات لا مثل أقليّة البنات».
8. أهدی له أحد محبّيه (من بيت عطية) سيّارة، لكنّه لم يركبها ولا لمرّة واحدة، وأمر ببيعها وتوزيع مالها بين الطلبة ولم يأخذ من مالها لنفسه أو لعائلته إلّا جزءاً بسيطاً فقط.
9. ومن زهده وإعراضه عن الدنيا ومغرياتها أنّه عُرض بيت قريب لبيت السيّد للبيع فسمع بذلك أحد محبّي السيّد الشهيد، فقدِم إليه وقال له: «إنّي أريد أن أشتري هذا البيت لكم لأنّ بينكم بيت إيجاز وهو قديم»، فلم يقبل السيّد وقال له: «إنّي لست بحاجة إلی بيت ملك ولكنّ الطلبة بحاجة إلی ذلك»، فصحبه السيّد إلی شارع الإمام زين العابدين (ع) _أي بجوار الحرم الشريف_ واشتروا هناك قطعة أرض خصّصها السيّد إلی الطلبة وكان يريد أن يبنيها شققاً لطلّاب الحوزة ولكنّ الوقت لم يساعده واستشهد قبل أن يحقّق فكرته.
10. عندما كان يهديه البعض ملابس أو أشياء خاصّة له كان يتقبّلها ويشركهم ثم يعطيها إلی طلبته المحتاجين ولم يكن يستفيد من الهدايا لا تكبّراً ولا عزةً بنفسه ولكن زهداً وإعراضاً عن الدنيا.
11. كان أكله في أكثر الأحيان بسيطاً وعاديّاً، أوّلاً لزهده، وثانياً ليكون مساوياً لعامّة الناس في مستوی ونوع أكله. أمّا في آخر عمره الشريف فقد كان يتبع حمية غذائيّة لأجل ارتفاع ضغط دمه وقد ضعف كثيراً قبل استشهاده.
تجليات القلب
12. كان في البيت في غاية الرحمة ومنتهی العطف، فقد كان مع أمّه الولدَ البار ومع أخته الأخ الصديق ومع زوجته الزوج المحبّ ومع أولاده الأب الرحوم.
وقد كان مع أمّه مصداقاً للولد البار المطيع لها إلی آخر يوم من حياته الشريفة، وكان يسألها إذا عزم علی أمر معيّن هل تقبل أن ينجزه أو لا تقبل؟! ومهما كان جوابها كان يعطيه. وكان يجالس أخته ويراجع معها ما تكتبه ويجيبها ويعينها علی كلّ ما تحتاج إليه ويعطي من وقته ساعات لها، فكان بحق الأخ الرفيق والشفيق والمعين في الوقت نفسه.
وكان كثيراً ما يقول لي: «أرجو منك أن تقدّري ظروفي وكثرة مشاغلي، وأن تسامحيني إذا قصّرت بأمر معيّن».
وقد أحسست من أول زواجنا بأنّ السيّد زوجٌ غير عادي، فقد كنت أقدّسه وأكنّ له كلّ مشاعر الإجلال والتقدير.
وأمّا عن أولاده، فقد كان شديد التعلّق بهم وحريصاً عليهم ومتعاطفاً معهم:
فعندما يمرض أحدهم كان السيّد الشهيد عند دخوله المنزل وقبل أن يغيّر ملابسه يذهب إلی قربه ويسأل عن حاله ويطمئن عن صحّته ويضع يده الشريفة علی رأس المريض ويقرأ سورة الفاتحة بنيّة الشفاء.
وكان يعاملهم مثل الكبار ويتفاهم معهم ولا يجبرهم علی أمر ويتكلّم معهم كلّما سنح أو سمح له الوقت.
وكان يقول لي:« إنّي أری أولادي أقلّ ممّا ترينهم، إنّني ولأجل ذلك لا أريد أن تذكري لي إذا ارتكبوا خطأً معيّناً حتّی أؤنّبهم، لا أحبّ أن يذكر أولادي أنّي أتّبتهم أو عاقبتم»، أريد أن أتحدث معهم وألاطفهم ولا يعكّر ذلك شيء حتّی لا يذكروا منّي إلّا كلّ ما يحبّونه ويعتزّوا به، ومسؤولية تربية الأطفال علی عاتقي.
13. إحدی بناته كانت ضعيفة في مادّة الرياضيات فأخذ السيّد مع كلّ مشاغله ومسؤولياته يدرّسها ويراجع معها ذلك حتّی تيقّن أنّها استوعبت المادّة جيّداً.
14. وكان أبناؤه يفرحون ويشعرون براحة كبيرة كلّما رجع السيّد الشهيد إلی المنزل وكأنّهم كانوا يشعرون بصعوبة الظروف وأنّ كلّ يوم يرجع فيه السيّد بسلامة فهو غنيمة ونعمة عظيمة.
وعندما كان يكتب في غرفة (الجلوس) التي تجتمع فيها الأسرة حتّی يكون بين أهله وأبنائه، فلو أرادت إسكات الأطفال أو طلبت منهم ترك الغرفة كان يقول: «دعيهم، إنّ أصواتهم لا تزعجني ولا تؤثّر علی كتابتي».
15. لم يكن مستبدّاً في الرأي أو متعجرفاً، بل بخلاف ذلك تماماً فقد كان يأخذ آراء الجميع في أمور المنزل ويستمع إلی وجهات نظر الجميع، وعندما يقع حادثٌ أو يأتي مسؤول من الدولة أو تمرّ علی العائلة مشكلة كان السيّد يجمع الأسرة كلّها من الكبار إلی الصغار وينقل لهم ولو بشكل مبسّط ما جری ويوضح لهم الحال لكي يكونوا علی علم بما يجزي.
16. أمّا عن علاقته بأخيه، فلم تكن علاقة عادية ولم تكن تجمعهما علاقة الأخوّة فقط، بل كانت أخويّة وروحيّة وعاطفيّة وعلميّة، فقد كان السيّد الشهيد يحبّ أخاه كثيراً وكان ينظر إليه نظرة الأخ الصغير إلی أخيه الكبير والوالد إلی والده والتلميذ إلی أستاذه.
وكان يقول عن أخيه: «رافقته أكثر من ثلاثين سنة كما يرافق الابن أباه والتلميذ أستاذه والأخ أخاه في النسب وأخاه في الآمال والآلام في العلم والسلوك فلم أزدد إلّا إيماناً بنفسه الكبيرة وقلبه العظيم الذي وسع الناس بحبّه ولكنّه لم يستطع أن يسع الهموم الكبيرة التي كان يعيشها من أجل دينه وعقيدته ورسالته، فأسكتت هذا القلب الكبير في وقت مبكّر».
وكذلك مع أولاد أخيه فكان يحنو عليهم ويهتم بأمورهم ويسعی إلی مساعدتهم ومشاركته معهم في شؤون حياتهم.
سمة العلماء
17. كانت تتورّم أصابعه من كثرة الكتابة _وخاصة أصابع يده اليسری لأنّه كان يسراويّاً_ فأصنع له عجينة وألفّها علی أصابعه، ولكن هذا لا يؤثّر عليه ولا علی استمرار كتابته.
18. كان السيّد الشهيد مثابراً علی دروسه وعلی كتابته ومباحثاته دائماً. ومما أذكره في هذا المجال أنه كان يذهب إلی بيت السيّد الخوئي للمبا حثة هناك. وفي إحدی الليالي كان الجوّ بارداً والسيّد مريضاَ فطلبتُ منه عدم الذهاب إلی المباحثة لأنّ حالته لا تسمح له بذلك وسوف يشتدّ مرضه إذا ذهب، فقال لي:
«أعطني القرآن لأستخير فناولته القرآن فخرجت الآية: (إذْ رَأَي نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَی النَّارِ هُدَّی) (طه: 10)، فقال لي: «أذهب الآن أو لا أذهب»؟! فأجابته: «اذهب في أمان الله وحفظه».
شبيه الأنبياء
19. كان الشهيد الصدر علی اتّفاق أهله وأصحابه وطلبته وكلّ من رآه فريداً في أخلاقه وتواضعه وتعامله مع جميع الناس وفريداً أيضاً في طريقة بربيته للأمّة.
فكان يملك صفات وخصائص ومميّزات قلّ نظيرها ولا تجدها إلّا عند الأنبياء والأئمّة.
20. كان يهتمّ بالجيل الناشئ وبالشباب المثقّف ويتبادل الأحاديث الدينيّة والإجتماعية معهم.
السيد محمود الخطيب أنه و_ في يوم من الأيّام دخل صبيِّ مع والده واسمه ميثم (ابن الشهيد جواد الزبيدي) فقال والده: «سيّدنا! ابني ميثم عنده سؤال»، فقال السيّد: «إليّ بميثم» وكان عمر ميثم علی ما أتذكّر بين 6 إلی 7 سنوات وأجلسه إلی جانبه وقال له: «ما هو سؤالك»؟! فقال ميثم بهدوء: «سؤالي لماذا الله وافق علی قتل الحسين»؟! فقال له السيّد: «سؤالك جدّاً جميل ومعناه كبير وسوف أجيبك عنه».
21. ينقل عنه أحد الشيوخ (مهدي الحيدري) أنّه عندما كان صغيراً كان معه مجموعة من الأولاد وهم مجتمعون بالقرب من حرم أمير المؤمنين للمذاكرة لقرب موعد الامتحانات، وعندما قدم السيّد الشهيد إلی الحرم العلوي الطاهر لأجل صلاة الفجر طلب منه أن يجيبه عن مسألة معيّنة فاعتذر السيّد بلطف وقال: «إنّ وقت الصلاة في آخره ولا أستطيع البقاء معكم والإجابة عن سؤالكم»، ولكنّه في اليوم التالي أتی مبكّراً وقال لنا: «أتيتُ مبكّراً لأجيب عن أسئلتكم» وفرشنا له وجلس معنا.
22. نجده مع ما وصل إليه من مقام ومنزلة، متواضعاً ولا يقبل أن يمدحه أو يطري عليه أحد، فكان لا يقبل أن تضاف قبل اسمه ألقاب أو صفات فيقول لطلبته وحتّی أولاده إذا أرادوا أن يكتبوا اسمهم: «فقط اكتبوا السيّد محمّد باقر الصدر إضافات».
23. في إحدی المناسبات وبطلب مني دعی الشيخ الأيرواني. إلی قراءة مجلس عزاء في البيت فجاء الرجل وقرأ المجلس. وفي اليوم الثاني قدم الشيخ وقد نظم أبيات شعر في مدح السيّد الشهيد، فكلّما أراد قراءتها وهكذا لعدّة مرّات إلی أن سكت الشيخ ولم يقرأها.
24. قد عثر أحدُ أصحابه علی حديثٍ عن النبي ي