على ضفاف نهر الغراف حيث مدينة الحي* وفي عام 1295هـ أو 1296هـ فتح مولود عينيه على الحياة ، فاختير له اسم "عبد الحسين" تعبيراً عن أن الحسين قبلة طالما طافت حولها قلوب الحياويين وان دمه الطاهر ثورة تسري في عروقهم طوال السنين ، لينشأ عبد الحسين في هذه المدينة وفي حجر والده "قاعد" متفيئاً ظلال قبة التابعي الجليل سعيد بن جبير فينهل من روحه القرانيه ما يجعله قرآنيا في حركاته وسكناته ، ينقل انه كان يذهب مع والده وأخيه إلى النهر للسباحة ومن المعتاد أن يخلع الصغار ملابسهم قبل الوصول ألا أن عبد الحسين رغم صغر سنه لم يكن يفعل ذلك بل كان يأتزر ثم ينزل إلى النهر فكان أبوه يقول له : لماذا لا تنزع ثيابك كما يصنع أقرانك ، ليس هناك من يراك؟ فيجيب : لكن الله يرى .
وفي دواوين ومضائف وشوارع وأزقة الحي تلك المدينة التي يمتاز أهلها بالذكاء والأدب وخفة الروح ،أخذت تتفجّر قدرات عبد الحسين الشعرية ليبدء رحلته الأدبية ، ويشق طريقه فيكون في مصاف كبار الشعراء والأدباء الذين أذعنت لهم دواوين النجف الأدبية .
هنا تبدء مرحلة جديدة في مسيرته ليدخل مدينة العلم من باب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ويستقر به المقام في النجف الأشرف الحاضرة التي ارتوت من نمير أمير المؤمنين وتعلمت منه كيف تصمد أمام شتى المحن لتبقى مركز إشعاع على مر العصور .
واخذ الشاب يزاحم العلماء بركبتيه ويتردد على حلقات الدروس المختلفة فيستنير بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) ، ولم يدّخر وسعاً للتلقي والاستماع والمذاكرة والكتابة والحفظ والتدريس . وكانت العزيمة والإخلاص جناحيه اللذين بهما يطير ليرتقي القمة ويعتلي هامات السحاب ، يقول عنه صاحب الحصون (عالم فاضل سعت همته إلى كسب الفضائل فهاجر إلى النجف وعكف على الاشتغال بتحصيل الفقه والأصول) وعن الشيخ النقدي في الروض النضير (له في الفضل مكان وفي المجد قدم راسخ) ، (الحياوي عالم معروف في النجف والحي ،مشهور في الفضل) ويقول الخليلي (انتقل من الغراف إلى النجف طالباً للعلم ثم نال من العلم والأدب قسطاً وافراً) .
البعد العلمي والأدبي في حياة الشيخ الحياوي:
قليل هم أولئك الذين يقرنون العلم بالأدب والعكس ، فقد نجد عالماً ليس بأديب وأديبا غير عالم أما شيخنا الحياوي فلن تستطيع أن تفكك بين هذين المسارين في حياته ، ولهذا الترابط الوثيق بينهما، حاول كل من تحدّث عنه ـ وكما مر ـ ذكر علمه وادبه معاً. لقد كانت الحي وانديتها البداية لأن تتكشف مواهبه الأدبية ، لينطلق من البيئة الحياوية التي تتغذى الشعر فتحيى به ، إلى النجف الأشرف ليهدر هناك ، وكأن أنوار روح علي (عليه السلام) ونهج بلاغته حلاّ عقدة اللسان وصاغا الشفافية والإبداع لديه لينحدر عنه السيل ، من هنا يصف الشيخ النقدي أدبه قائلاً: (له في الأدب بنات أفكار تحمر خدود الورد خجلاً من أنفاسها وتهتز غصون الروض طرباً بنشرها ) ، (له شعر يستلب الألباب ويبهر العقول)،(له مكانة سامية في الأندية الأدبية) وعن صاحب معارف الرجال (كان شاعراً بليغاً جيد النظم والنشر) ويمكننا أن نهتدي لعلو مقامه في الأدب من خلال الطبقة التي ذكر فيها فطاحل الشعر إذ أن من عاصرهم كان لهم (تاريخ حافل بأنصع وجوه الأدب وأروع ضروب الشعر) كما جاء في كتاب هكذا عرفتهم ، فليس بالإمكان أن يعد إلى جانب السيد محمد سعيد الحبوبي والسيد جعفر الحلي والسيد إبراهيم الطباطبائي والشيخ الشبيبي والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد السماوي والسيد باقر الهندي والسيد رضا الهندي وآغا رضا الهمداني والشيخ عبد الحسين الحلي ، وليس له ما يجعله نجماً في سماء الأدب لولا المؤهلات الأدبية والعلمية العالية .
وفوق هذا كله فان الأثر اصدق دليل على سمو المكانة وعذوبة اللسان وسوف نأتي على أُكلِ الشجرة الطيبة .
واما البعد العلمي : فنكتفي بهذا المقدار القليل علّنا نوفق للحديث عنه بإسهاب في وقت آخر .
إن علماء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) لا يعرفون حدّاً للعلم والتعلم فهم ينفتحون على الحياة ليزدادوا في كل يوم علماً يذبوّن به عن العقيدة الحقة انطلاقاً من كلام سادة الكون محمد وآله (صلى الله عليه وآله وسلم) ( الحكمة ضالة المؤمن) وعملاً بما جاء من أن (الفقهاء حصون الإسلام) ، ومن رجال هذه الجامعة الكبرى الشيخ المذكور والذي تربّى في مدرسة الإمام علي (عليه السلام) وسعى ليقبض على الجمر فيعرف بالتقوى والإيمان وليحمل القبس فيمزّق دياجير الليل .
ولم يكن (ره) يكتفي بالدروس الفقهية والأصولية والأدبية بل كان على دراية بعلوم أخرى كما يحدثنا صاحب الحصون والشيخ النقدي حيث يقول : (وقد برع في معرفة بعض العلوم الغريبة كما توسّع في الوقوف على كثير من كتب الهندسة والهيئة القديمة ومعرفة الأفلاك مما كان غير مألوف عند طلاب العرب) .
بهذه النفس التوّاقة للمعرفة ، والباحثة عن الحقيقة استطاع أن ينال "رتبة عالية من العلم " فيشهد له بأنه (فقيه فاضل وأديب شاعر ، حسن المنادمة والحديث عرف بالتقوى والإيمان) و (عالم كبير وأديب فاضل وشاعر مطبوع) .
يبقى أن نتطرق لأساتذته وتلاميذه ، إذ بهما يمكن أن نعرف الكثير عن شخصية العالم لكن المؤسف في المقام هو عدم تسجيل أسماء أساتذة وطلاب الشيخ إلا ما ندر فمن الذين حضر لديهم في النجف الشيخ عبد الحسين صادق العاملي المتوفي سنة 1361هـ والذي يقول عنه السماوي في الطليعة: (رأيته يتفجر فضلاً ويتوقد ذكاء إضافة إلى أخلاق كريمة ، شهد له العالمان الاخوند الخراساني والميرزا حسين ميرزا خليل بالاجتهاد وكان أديبا أيضا وهكذا تتلمذ على الشيخ الاخوند الخراساني صاحب كفاية الأصول والسيد كاظم اليزدي والشيخ علي الجواهري هذه الروح الطاهرة وامثالها أمدت شيخنا بالحياة وحبته بالخلود .
واما تلامذته :
فقد ورد اسم
1. الشيخ محمد رضا بن الشيخ محمد طاهر فرج الله صاحب شرح الطهارة من كتاب الشرائع وشرح كفاية الأصول في مجلدين ، ومنظومة في الأصول ومجموعة في الأدب مسماة ملتقطات المطالعة و.. وكان تتلمذ الشيخ فرج الله على الشيخ الحياوي في مرحلة السطوح .
2. الشيخ حمزة بن الشيخ مهدي بن الشيخ احمد قفطان النجفي .
3. الشيخ الخطيب سلمان الأنباري .
4. الشيخ عبد الرضا بن الشيخ باقر بن محمد السوداني الكندي والذي ولد في النجف سنة 1303هـ فقرأ الفقه والأصول على الشيخ عبد الحسين الحياوي ، توفي سنة 1383هـ .
آثاره:
لم يبق من الشيخ الحياوي إلا النزر اليسير رغم عطائه وكثرة آثاره ، والسبب في ذلك مثلما ينقل لنا الشيخ النقدي ( وقد وقفت على آثاره التي بيعت في المزاد العلني بعد وفاته بأسابيع كان من بينها مجاميعه وبعض آثاره التي تضمنت شعره وتعليقاته على بعض الكتب ، والسر في ذلك كونه لم يخلّف ولداً ، إنما كان عقبه عدة بنات لا يدركن قيمتها ولا أزواجهن الذين كان من بينهم من يتطلع إلى الفضيلة) .
فللشيخ مؤلفات في العلم والتاريخ ومجاميع واشعار وتعليقات على بعض الكتب ألا أنها لم تصلنا ، نعم ما بأيدينا اليوم بعض قصائده أو تقريضاته التي حفظتها الكتب وهي بعض ديوانه الذي لم نعثر عليه .
أخلاقه:
إن للواقع الاجتماعي الأثر البالغ في مسيرة الإنسان ، فهو الذي يضع بصماته دائماً على سلوك الفرد . والحي تلك البلدة الحيّة الوجدان والضمير والتي عجنت طينة أبنائها بالإيمان والولاء لأهل البيت فرضعوا حب علي وابناءه(عليهم السلام) وتعلموا الشيمة والكرم وطهارة النفس والإي