إن جهود من يمتهنون ممارسة الفكر السياسي تنصب بالدرجة الأولى على ايجاد سبل كفيلة لحل الأزمات التي تواجهها المجتمعات. وتتلخص الغاية العملية من الفكر السياسي في رسم الخطوط العريضة للمجتمع المثالي، تحسين العلاقة بين الجماهير والحكومات، تأهيل الحكومات لممارسة دورها في إدارة المجتمع بكفاءة، إعادة الحقوق المسلوبة من المواطنين، تبيان الواجبات والمسؤوليات والحقوق المتبادلة بين الشعوب والحكومات، وتحديد السياسة العامة والتخطيط للبلاد، وغيرها من الأهداف.
إن الإمام الخميني (قدس) بوعيه وإدراكه لحالة التأزم على إمتداد التاريخ الملكي (الشاهنشاهي) الإيراني وضع أسساً لفكر سياسي من نوع خاص ترتكز على مبادئ الدين الإسلامي يفتح الطريق أمامه لخلق تغيير أساسي في التاريخ الإيراني. فقد إقتبس الإمام الراحل (قدس) نظرية سياسية لا تستند في مكوناتها ومفاهيمهما على النزعات الفكرية أو الحداثة المتطرفة والمفرطة، إنما كانت إمتداداً للإسلام، وإستجابة للأزمات الناجمة من إستقرار نظام حكم غير ديني كان يهدد حياة المتدينين والمتشرعين بالخطر.
إن الشرط اللازم وفق نظرية الإمام الخميني (قدس) السياسية، لخلق الحياة السياسية المطلوبة هو أن تكون ركيزة الصلاحيات التي تحظى بها القدرة والسلطة السياسية مبنية على قواعد الشرع. وبناءً على ذلك كانت النظرية السياسية للإمام الخميني الراحل (قدس) التي تدعو إلى ضرورة بناء سلطة سياسية دينية تمارس عملها وفق أحكام الشريعة، أقوى بديل لنظام الحكم الملكي.
تعتبر عملية إعادة إحياء عنصر الدين في أوساط الفكر السياسي، من أهم منجزات الإمام الراحل في مجال الفكر السياسي. فمنذ أمد طويل وتحت تأثير التعاليم والأفكار العلمانية كان ينظر للسياسة والدين بوصفهما ساحتين مستقلتين منفصلتين إحداهما عن الأخرى وليست هناك أية علاقة تربط بينهما. في ذلك الزمن الذي كان فيه فصل السياسة عن الدين يعد من البديهيات، ويعتبر الخنوع لهذه النظرية خطوة متقدمة بإتجاه تحقيق التنمية والتطور وفق النمط، جاء الإمام الخميني (قدس) ليصحح هذا المسار مبرهناً على خطأ تلك النظرية وكذبها موضحاً بأن الإسلام له أسلوب خاص به لتحقيق التطور والتنمية بمعزل عن الأنماط الغربية.
كانت المرة الأولى التي عرض الإمام الراحل (قدس) فكرته فيها عام 1944 من خلال كتاب (كشف الأسرار) الذي كان ألـّفه رداً على كتاب (أسرار هزار ساله = أسرار ألف عام) لـ (حكمي زاده)، حيث دافع فيه وبالإستناد إلى الأدلة والبراهين عن معتقدات وتعاليم وسلوك الشيعة وأجاب على الشبهات المطروحة في الكتاب المذكور، متحدياً بذلك أداء رضا شاه بهلوي في حذف الدين وحذف رجاله، ليعرض وللمرة الأولى نظرية الحكومة الإسلامية، وإشراف الفقيه على الشؤون السياسية وضرورة التوجه للبعد الإجتماعي والسياسي للدين الإسلامي والقرآن الكريم مستنداً في ذلك على الأدلة العقلية والنقلية. وفي تأليفاته التالية مثل (ولاية الفقيه) و(شؤون وصلاحيات الولي الفقيه) و(صحيفة النور) عرض الإمام (قدس) خصائص الحاكم الإسلامي وولاية الفقيه. وكان هذا الكتاب أول خطوة في طريق عرض الفكر السياسي للإمام، أي عرض نظرية الحكومة الإسلامية بوصفها النظام الوحيد المطلوب للحكم، ويمكن إعتباره ركيزة لنظام جديد تم الإعلان عن وجوده بعد سنوات عديدة.
وتختلف رؤية الإمام (قدس) بشأن السياسة عن غيرها من الرؤى، وهي رؤية غير موجودة في التيارات السياسية الأخرى كالميكيافيلية والليبرالية والواقعية والماركسية وغيرها من التيارات الفكرية. والسبب في ذلك هو أن هذه التيارات تؤول في نهاية الأمر للوجود المادي للإنسان، في حين أن السياسة من وجهة نظر الإمام (قدس) هي المسار السليم الذي يضع الإنسان في طريق هداية وتكامل المجتمع بغية تحقيق مصالحه وتطلعاته؛ السياسة هي هداية وتربية الإنسان وإزالة العوائق والأستار والحجب من أجل نيل السعادة الحقيقية.
وعلى أعتاب إنتصار الثورة الإسلامية عرض الإمام الراحل نمطاً خاصاً من الحكم الإسلامي يتمثل في الجمهورية الإسلامية. فالجمهورية الإسلامية عبارة عن نظام حكم أساسه آراء الشعب ويستند إلى أحكام الإسلام. ويشترط في الجمهورية الإسلامية توفر شرطين أساسيين لا يمكن الفصل بينهما هما: الجمهورية التي تشير إلى جماهيرية الحكومة؛ والإسلامية التي تشير إلى سريان روح القوانين الإسلامية في المجتمع والحكومة.
إن التساؤل الأساسي في الفكر السياسي للإمام الخميني (قدس) هو: كيف يمكن صيانة البعد الإسلامي ضمن إطار نظام سياسي يناسب ظروف الزمان والمكان.
بعد انتصار الثورة الإسلامية عرض الإمام الراحل (قدس) نظرية (ولاية الفقيه) ضمن إطار النظام السياسي للمجتمع وذلك تحت إسم الجمهورية الإسلامية.
إن الفضل في انتصار الثورة الإسلامية وإقامة الحكومة الإسلامية بعد ذلك، يعود الى الفكر السياسي للإمام الخميني (قدس). وهذا الفكر هو جزء من مجموعة آرائه بشأن العرفان والفقه والأخلاق والوجود والإنسان وغيرها، وإن الأودية الفكرية والسياسية للإمام (قدس) مستلهمة من النبع الصافي للتعاليم الإسلامية والآيات الساطعة للقرآن الكريم.
إن الثورة الإسلامية أرست ركائز سلطة الإسلام والقيم الإسلامية ضمن إطار نظام الجمهورية الإسلامية.
حيث شهد هذا النظام تغييرات شاملة في المبادئ والتوجهات والسياسات الداخلية والدولية للبلاد.
ومن أهم هذه التغييرات تشكيل نظام أساسه ولاية الفقيه، والدور الفاعل للجماهير في تحديد مصيرها من خلال استقرار الحريات السياسية في المجتمع.
وهذان التغييران المهمان جذورهما متغلغلة في النظرية السياسية للإمام الخميني (قدس). ً
انتهی/137