ابنا: إن الأيام الأخيرة في البحرين قد اثقلها عنف السلطة، واكتأبت بمحنة الشعب، ولكن زانها صبره وتحمله وغيرته وإباءه كما تعلمون، وسيبقى هذا الشعب هو الصابر القوي الأبي المصر على المطالبة بالحقوق[1].
هذه دماءنا، هذه رقابنا، هذه رؤوسنا فداءٌ لديننا وعزتنا[2].
ويأتي هنا حديثٌ في بعض نقاط:
أولاً: المآساة دامية ومؤلمة، عرضت القنوات بعض لقطاتٍ لها، أما الواقع على الأرض فهو أكثر دمويةً وإلاماً وبشاعة، واعانى الله هذا الشعب الصابر الأبي.
والتضحيات والدماء والجراح والألام ثمنٌ يدفعه المظلوم دائماً حين تصطدم صرخته بروح الأنانية والتحكم والإستئثار، ولو انصف الناس بعضهم بعضاً كما أمر الله سبحانه لما سالت دماء، وما تراكمت ألام، ولما شقيت أممٌ ومجتمعات.
وإن إبتلاء العباد في الأرض سنة لله ـ تبارك وتعالى ـ وهي من مقتضى حكمته وعلمه بما يصلحهم أو يفسدهم، ومن ذلك الإبتلاء بالغنى والفقر، والأمن والخوف، والشدة والرخاء، والبأساء والضراء، وهو يعلم أن الضربات إنما تهشم الزجاج، أما الحديد فتصقله وتزيده صلابة، وبذلك تكون الإبتلاءات في خاتمتها رحمةً بالمؤمنين وشقاءً على غيرهم، لأن ايمان المؤمن يرتفع به عن مستوى الهشاشة، ويقيه من الذوبان، وقلبه متصل بمعدن العزة والقوة التي لو كان للقدم الحق بداية لكانت قبله وقبل أي بداية، ولو كان للأبد نهاية لكانت بعده وبعد كل نهاية.
فمن أراد قوة النفس، وقوة الصبر والتحمل، والابتسامة في أشد الشدائد، والإطمئنان في احلك الظروف، فليطلب كل ذلك من قوة الإيمان. ونسأل الله الكريم أن يهب لنا ذلك.
المؤمن كالجبل الأشم، يبقى على طريق الله واثقاً راضيا، ثابتاً مؤمناً بقيمته، شاعراً بالربح في كل الظروف، لا تفعل فيه العواصف والكوارث والهزات العنيفة إلا مزيداً من الثبات والثقة والتجذر، لأنه لا يستمد معنوياته من الظروف المقيمة أو العابرة، وإنما من ايمانه بقدرة الله وثقته بها ولجئه إليها وهي القدرة التي لا تهن ولا تتخلى عن متعلقٍ بها ولا تغيب، {الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب}[3].
صحيح أن لأهل الأرض قوة حديدٍ ونار، ولكنها محكومة لقدر الله، ثم لا سلطان لها إلا على الأجسام، والإنسان روحٌ وعقلٌ وقلبٌ وإرادة قبل أن يكون جسما، والقابل للتهشم إنما هو الجسم أما المؤمن في داخله الإيماني فغير قابل للتهشم والإنصهار.
ثانياً: إن العنف الذي مارسته السلطة في هذه الأيام، قد أدى بصورة بينة إلى شرخ واسع خطير غير مسبوق بين جهة الحكومة والشعب، ومع استمرار نهج العنف الذي وقع عليه اختيار السلطة لا يستطيع أحد التكهن إلى أي حدٍ ستصل من خلاله الأمور.
ثالثاً: المطالبة بالحقوق والإصلاح السياسي قائمةٌ لن تسقط في ظل أي ظرفٍ من الظروف، لأن منشأها الضرورة الملحة والضغط الشديد، وها هو الشعب باقٍ على كلمته هيهات منا ذلة[4].
والحكومة التي تحكم هذا الشعب، وهو يصر على هذه الكلمة وما وراءها من شعور أكيد شديد، بين خيارين، بين أن تسحقه سحقاً بدباباتها وتقصفه بطائراتها في تصفيةٍ جسديةٍ عامة وبين أن تعترف له بالعزة[5].
والإصلاح لا يصح أن يكون شكلياً ولا باهتاً ولا سطحيا، لأن اصلاحاً بهذا اللون وبهذا المستوى غير قادرٍ على حل المشكل، وأن يوقف تداعي الأمور، ولا يوجد على هذه الأرض من يسمع لمثل هذا الإصلاح.
والصوت المطالب بالإصلاح والحقوق لا عدول له اليوم أو غداً عن الخط السلمي في الممارسة، وليس له ايمانٌ بأسلوب العنف الذي تجرهُ إليه السلطة وتدفعه إليه دفعاً لا هوادة فيه، والخيار السلمي كان خيارنا من أول يوم[6].
رابعاً: لقد اصبح الوضع الأمني في البحرين محكوماً بكامله لقبضة جهةٍ رسميةٍ معينةٍ محددة، وعليه فإن أي اختراقٍ غامضٍ لأمن أحدٍ من أبناء هذا الشعب، وتعدٍ خفي على نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ لمواطنٍ أو مقيم، ليس إلا من مسئولية هذه الجهة وهي المحاسبة على ذلك.
أقول هذا في الوقت الذي توجد فيه مؤشرات مكشوفة جدية، مصحوبة بحمالات اعلامية تحريضية، ونقل خبري فيه قوة، ورسائل نصية تتهدد أكثر من واحد بالتصفية الجسدية، فليس الكلام هنا من فراغ، فالتتحمل الجهة التي أوكل إليها أمر الأمن كل المسئولية.
خامساً: يقدم الشعب الشكر جزيلاً لكل من انسحب من موقعه الرسمي، من نيابيين وشورويين وقضاءة شرعيين وأعضاء المجلس الأعلى للشئون الإسلامية والوزراء وغيرهم، استنكاراً لمآسي الشعب التي جرت على يدي النظام، وتأكيداً للمطالبة بالحقوق، وهنا لابد أن ينوه باسم شيخنا العزيز سماحة الشيخ أحمد العصفور[7].
ويقدم الشكر كثيراً لكل منتصرٍ لحقه ومنكرٍ لظلمه من الخارج، في سبيل إيقاف نزيف الدماء من أبناءه العزل المسالمين، وطلباً لمصلحة هذا الوطن الإنساني وأمنه واستقراره.
وشعبنا ليس في مواجهة مع أي طرفٍ خارجي، ولا يريد المواجهة مع احد، ولكنه يسجل ملاحظة على الموقف الأمريكي والبريطاني المؤثر بدرجة كبيرة لو أراد، على حالة العنف الرسمي المرتكب ضد الشعب، والتصلب في عدم الإستجابة للحقوق، لعدم انسجام هذا الموقف مع حمل راية الديمقراطية والحرية والإنتصار لحقوق الإنسان، وإرادة التطوير الإجابي عند الشعوب.
وبالنسبة لخروج بعض المقيمين من هذا البلد، فإن يقيني أن هذا الشعب، لا ينبغي أن يخاف منه أحد على نفسٍ أو عرضٍ أو مال، فهو شعبٌ قد ملك رشده.
سادساً: كان لنا أن نفخر كثيراً ويفخر كل العرب وكل المسلمين، لو كان توجه القوة الخليجية المشتركة لإنقاذ غزة من حرب الإبادة التي شنتها عليها اسرائيل قبل، أو لحمايتها اليوم من التهديد بالعدوان، بدل توجهها لضرب شعبٍ خليجيٍ اعزل، ذنبه أنه طالب بالإصلاح، وبدل تصويب اسلحتها لتجمعات من شبابٍ بصدورٍ عارية، ونساءٍ وشيوخٍ واطفال. في حين أن جيش البحرين المدجج بالسلاح كافٍ وحده لسحق الشعب، واحداث المجازر في أبناءه، واسالة أنهارٍ دماء الأبرياء، لهو أمرٌ يا رجال يا عرب يا مسلمون لا يمكن أن يُسجل في تاريخ البطولات والمجد والفخر والإنتصار والكرامة. النصر هنا هزيمة، والزحف خطأ وخطيئة بيقين.
ماذا اعطى عنف السلطة؟ وماذا ترتب عليه؟