ابنا : بل هو ذلك المفكّر والفقيه والقائد الاجتماعيّ والسياسيّ والحركيّ والمناضل والعالميّ، الذي أبهرت العالم كلّه أساليبه ومنهجيّته في العمل... وهو الإسلاميّ الذي نجح عبر سلوكٍ إنسانيٍّ راقٍ أن يؤسّس لثقافة التسامح والتعدّديّة وقبول الآخر، والتعايش بين الأطياف والشرائح المختلفة، في ظلّ أوضاع صعبة مليئة بالمشاحنات الطائفيّة... وهو ـ أيضاً ـ القائد الواعد، وذو الشخصيّة الاستثنائيّة الحائزة على مواصفات وكاريزما القائد الذي يمكن أن يتزعّم وأن يحرّك الجمهور بكلماته ومواقفه.. وبالتالي: فهو ظاهرة متفردة على مستوى الاجتماع السياسيّ، لبنانياً وشيعياً وإسلامياً.. وهو ـ أيضاً ـ المدافع الأوّل عن القضيّة الفلسطينيّة، وعن الأقصى الجريح... وهو الزعيم الذي أعاد التذكير بمأساة الشعب الفلسطينيّ المضطهد والمظلوم، وظلّ كذلك حتى أحرج حكّام العرب وزعماءهم، وغدا العدوّ الأوّل للصهيونيّة العالميّة عامّةً، و(للصهيونيّة العربيّة) على وجه الخصوص، وهي الصهيونيّة المتمثّلة بطغمةٍ مهترئةٍ من الحكّام الفاسدين ممّن باعوا ضمائرهم للشيطان، فلم يتربّعوا على كراسيّهم إلّا بدعم (أمريكيّ ـ صهيونيّ) أتاح لهم الإمعان في إذلال شعوبهم وإفقار بلادهم، لصالح هذه الجرثومة الفاسدة المسمّاة (إسرائيل)، والتي يصفها الإمام الصدر نفسه في بعض كلماته بأنّها: ((شرّ مطلق)). لقد قاد الإمام الصدر تجربةً إنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة وسياسيّة منقطعة النظير، محقّقاً نجاحاتٍ باهرة على مختلف الصعد، واستمرّ في عمله الإسلاميّ منطلقاً من الساحة اللّبنانيّة حتى برز فيها بوصفه محتضناً للمقاومة، بل ومؤسّساً لها، ومُشعلاً لفتيلها، وداعماً للحركات التحرّريّة، وصمّام أمانٍ يحول دون نشوب الشقاقات المذهبيّة والطائفيّة.. وبالنظر إلى كلّ هذه العوامل وغيرها، أفلا يبدو من الطبيعيّ أن تكون حياة هذا الإمام مهدّدةً؟! أوَلا يبدو طبيعيّاً أنّ شخصاً كهذا، وفكراً كالفكر الذي يحمله، ونشاطاً كالنشاط الذي يقوم به، من شأنه أن يهدّد مصالح أمريكا وإسرائيل وأزلامهما من حكّام العرب وملوكهم؟!! لقد أدّت العوامل المتقدّمة والمكانة المرموقة التي استطاع الإمام الصدر أن يتبوّأها في قلوب الشعوب الإسلاميّة والعربيّة، أدّت إلى أن تتوجّه إليه أنظار أجهزة الاستكبار العالميّ وعملائها المزروعين في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، والمتربّصين بأمّتنا شرّاً، فاتّخذت من إسقاط مشروعه هدفاً لها، وحرّكت ضدّه أجهزة الاستخبارات العربيّة، قبل الغربيّة، التي حاكت مؤامرتها بليلٍ مظلم، وفي مكانٍ ما، اتّخذت قرار الإخفاء والاختطاف والتغييب، ظنّاً منها أنّها باختطاف الصدر تقضي على مشروعه، وتدمّر حلمه الكبير بعودة فلسطين إلى أحضان شعبها... فكان أن دبّرت تلك الأجهزة عمليّة اختطافه في أواخر شهر آب/أغسطس من عام 1978م بعد قدومه إلى ليبيا في واحدة من رحلاته الساعية إلى وضع حدٍّ للجنون العبثيّ في لبنان. ولكنّ المستكبرين وإن استطاعوا تغييبه جسداً، إلّا أنّ أفكاره بقيت في الأجيال التي أحبّت الإمام الصدر حيّةً خفّاقةً، وشعلةً وضّاءةً تنير درب الثوّار والأحرار والمقاومين، وأدلّ دليلٍ على ذلك: استمرار نهج المقاومة بعد اختطافه، بل وبوتيرة متسارعة؛ إذ كانت المقاومة (وهي التي لا تنفكّ تذكّر بأنّها ربيبة أفكار موسى الصدر)، كانت ولا تزال، تنمو وتكبر، حتى ولّى زمن الهزائم، وتتابعت الانتصارات واحداً تلو الآخر، في فلسطين وفي لبنان على حدٍّ سواء.... وفي تفاصيل حادثة الاختطاف: أنّ الرئيس اللّيبيّ (معمّر القذّافيّ) (ومن أفضل منه لتنفيذ هذه المهمّة؟!!)، وجّه للإمام الصدر في تمّوز من العام 1987 دعوةً لزيارة الجماهيريّة والاجتماع به.. علماً بأنّ رأي القذّافي المعلن في الإمام الصدر في تلك الفترة كان أنّه (أوّل متحالف مع الإسرائيليّين بأمر من الشاه؛ لأنّ الشاه هو الذي نصّب موسى الصدر على الشيعة في لبنان، والصدر يتبع جهاز السافاك)!! وفي تلك الفترة، ومع اشتداد العدوان الإسرائيليّ على لبنان، قام الإمام الصدر بجولةٍ على عدد من القادة العرب والدول العربيّة والإسلاميّة لغرض تأمين الحماية للبنان، ولكنّه مع ذلك... تردّد كثيراً قبل أن يوافق على دعوة القذّافي، معلناً قبل مغادرته أنّه مسافر إلى ليبيا من أجل عقد اجتماع مع العقيد معمر القذافي.. وفي 25 من آب من العام نفسه وصل الإمام مع رفيقيه (الشيخ محمّد يعقوب والصحافيّ عبّاس بدر الدين) إلى ليبيا لتبدأ فصول المؤامرة لاختطافه وتغييبه.. بادئ ذي بدء، أغفلت وسائل الإعلام اللّيبيّة أخبار وصوله ونشاطاته، ولم تُشر نهائيّاً إلى أيّ لقاءٍ جرى بينه وبين العقيد القذّافي أو أيٍّ من المسؤولين اللّيبيّين.. وانقطع اتّصاله بالعالم، على خلاف ما عُهد عنه في أسفاره من إكثار اتّصالاته الهاتفيّة يوميّاً بعائلته وبأركان المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى في لبنان.. وفي ظهر يوم 31 آب من العام 1978 شُوهد الإمام لآخر مرّة خارجاً من فندق الشاطئ بطرابس الغرب، وهو اليوم الذي كان مفترضاً أن يُقابل فيه القذّافي، لكنّ أخباره بعد ذلك انقطعت تماماً... في السادس من أيلول، راجع المجلس الإسلاميّ الشيعيّ السفارة اللّيبيّة في لبنان دون جدوى، تماماً كما حصل مع رئيسي الحكومة سليم الحصّ، والجمهوريّة الياس سركيس؛ إذ لم يُجب القذّافي على أيٍّ من اتّصالاتهما المتكرّرة... وفي الرواية الرسميّة للنظام اللّيبيّ: أنّ الإمام الصدر غادر (على عجلة) إلى إيطاليا مساء يوم 31/8/1978 على متن الطائرة (أليطاليا)، ولا معلومات إضافيّة عنه.... وهي ادّعاءات كذّبتها الحكومة الإيطاليّة، التي أكّدت أنّه لم يدخل إلى أراضيها.. في حين نفت شركة الخطوط الجوّيّة الإيطاليّة أن يكون من ركّاب الرحلة: 881... ومع أنّ حقائب الإمام الصدر والشيخ يعقوب وُجدت في فندق الهوليدي إن في روما، إلّا أنّه تبيّن لاحقاً أنّ الشخصين اللّذين دخلا الفندق وعرّفها عن نفسيهما باسم: موسى الصدر، ومحمّد شحادة يعقوب، لم يكونا كذلك، حيث لم يتعرّف الموظّفون في الفندق على صورتيهما... ومع أنّهما حجزا غرفتين لمدّة 10 أيّام، إلّا أنّهما لم يمكثا فيها أكثر من 10 دقائق!!! خرجا بعدها بثياب مدنيّة، ودون عودة.. أوفدت الحكومة اللبنانية بعثة أمنيّةً إلى كلٍّ من ليبيا وإيطاليا لاستجلاء الامر، فرفضت السلطة الليبية السماح لها بدخول ليبيا، فاقتصرت مهمّتها على إيطاليا، حيث تمكنت من إجراء تحقيقاتٍ دقيقة توصلت بنتيجتها إلى التثبت من أنّ الامام الصدر ورفيقيه لم يصلوا إلى روما أصلاً، وأنّهم لم يغادروا ليبيا في الموعد والطائرة اللّذين حدّدتهما السلطة الليبية في بيانها الرسمي. ومن المعلومات التي تؤكّد مسؤوليّة النظام اللّيبيّ عن هذه الجريمة: 1) أنّ القذّافي نفسه اعترف باختفاء الإمام الصدر في ليبيا، ولكن بعد أكثر من ربع قرن على اختفائه، حيث جاء في كلامٍ له عن الإمام الصدر: ((هذا اختفى، مش عارفين كيف اختفى، يا ريت نعرف مين الجهة التي اللي تتحمل المسؤوليّة أو الجهة التي تساعدنا، فقدناه من جهة، وشوّه ليبيا من جهة أُخرى، فعلاً يعني واحد توجّهلو دعوة ويجيك ويختفي في ليبيا، يعني: واحد يشوّه سمعة ليبيا)). 2) أنّ خروجه من فندق الشاطئ ظهر يوم 31 آب كان لمقابلة القذّافي، كما صرّح بذلك الشاهد الصحافيّ (أسعد مقدم)، من خلال تبادله لبعض الكلمات مع الأستاذ عباس بدر الدين، الذي كان مرافقاً للإمام، ومنذ ذلك الوقت، لم يعد الإمام ولا رفيقاه إلى الفندق. 3) تحقيق القضاء الإيطاليّ المستند إلى أكثر من 13 شهادة موزّعة بين موظّفي الأمن العامّ في المطار، وموظّفي فندق هوليدي إن، وشركة أليطاليا للطيران، حيث نفت كلّ هذه الشهادات أصلاً دخول رجل يحمل ملامح الإمام الصدر إلى إيطاليا. 4) التناقض في شهادة المدّعى عليهم اللّيبيّين، كادّعاء (أحمد الحطّاب) بأنّ معاملات الإمام أُجريت بسرعة فائقة؛ لأنّ الطائرة كانت على وشك الإقلاع، بينما اتّضح لاحقاً أنّ الطائرة غادرت المطار بتأخير ساعة كاملة. 5) التلاعب بجوازات السفر التي وُجدت في الفندق في إيطاليا، فالصور الملصقة عليها لم تكن فقط منتزعة جزئيّاً، بل إنّ الخاتم المحفور عليها يظهر بشكلٍ غير متلائم مع رسم الخاتم الموجود. 6) العثور على أغراض خاصّة بالإمام الصدر وقد بُعثرت بشكلٍ عشوائيّ، ومن بينها: ساعة يده التي كُسر زجاجها وانتُزع منها الطوق وهي معطّلة. هذه الوقائع وغيرها تؤكّد مسؤوليّة هذا الرئيس المجنون (القذّافي) عن هذه الجريمة النكراء.... وفي الختام، نسأل الله تعالى أن يعيد الإمام الصدر ورفيقيه سالمين غانمين.... إنّه نعم المولى ونعم النصير..... انتهى/158
المصدر : خاص ابنا
الثلاثاء
٨ مارس ٢٠١١
٨:٣٠:٠٠ م
230349
لم يكن الإمام الصدر شخصاً عاديّاً، بجميع المقاييس، وعلى جميع المستويات، فهو ليس زعيماً تقليديّاً، ولا عالماً يحصر نشاطه بالجهد العلميّ والثقافيّ، كما أنّه ليس سياسيّاً يقصر حراكه على الوضع المحلّيّ...