شهد العالم الاسلامي قبل السيد حركات إصلاحية سلفية في الجزيرة العربية (منذ 1744 ),وفي الجزائر,وفي الجزائر على يد عبد القادر الجزائري ( 1832 – 1847 ) وفي السودان على شكل حركة المهدية (1881 – 1898 ) وفي ليبيا بصورة الحركة السنوسية ( 1912 – 1925 ),وتميزت جميعاً بالمقاومة والرجعة الى الاصول.
وإذا كانت هذه الحركات قد استطاعت أن تحقق بعض النجاح في مقاومة الاستعمار ومكافحة البدع,فانها فشلت تماماً في تحقيق "نهضة" شاملة بسبب عدم قدرتها على استيعاب مستجدات العصر,أي انها كانت تفتقد المعاصرة.
والحملة الفرنسية فشلت أيضاً أن تحقق نهضة في مصر,رغم كل الجهود التي بذلتها,لأنها لم تكن تنتمي الى جذور الأمة,فأخفقت في التفاعل,واستثارت الناس ضدها,وعادت من حيث أتت بعد حين.
أما السيد فقد جمع بين الاصالة والمعاصرة في دعوته,وهذا هو سر كل ما حققه من نجاح,يقول في العروة الوثقى.
"الديانة الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب والشوكة,والافتتاح والعزة,ورفض كل قانون يخالف شريعتها,ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها.فالناظرفي أصول هذه الديانة,ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكماً لا ريب فيه بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أولاً,ملة حربية في العالم,... وإتقان العلوم العسكرية,والتبخر فيما يلزمها من الفنون : كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها! ومن تأمل في آية : (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب الغلبة,وطلب كل وسيلة الى ما يسهل سبيلها,والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية,فضلاً عن الاعتصام بالمنعة والامتناع من تغلب غيره عليه! ومن لاحظ أن الشرع الإسلامي حرم المراهنة إلا في السباق والرماية,انكشف له مقدار رغبة الشارع في معرفة الفنون العسكرية والتمرين عليها....).
من مظاهر أصالة السيد ارتباطه بالتراث الاسلامي وتمكنه من العلوم الاسلامية,مما جعل النابهين من الازهريين في مصر يلتفون حوله ويتلقون دروسه من أمثال,محمد عبده,وعبد الكريم سلمان,وابراهيم اللقاني,وسعد زغلول,وإبراهيم طلباوي,وكانت هذه الدروس منطقاً وفلسفة وتصوفاً وهيئة,مثل كتاب الزوراء في التصوف,وشرح القطب على الشمسية في المنطق,والهداية والاشارات وحكمة العين وحكمة الاشراق في الفلسفة,وتذكرة الطوسي في علم الهيئة القديمة.
( ومن مظاهر أصالته أيضاً اهتمامه بوحدة المسلمين بقومياتهم ومذاهبهم كافة: فهو "يدعو الى نبذ الخصومة بين السنة والشيعة,ليؤلف بين سلطتين قويتين في رقعة العالم الاسلامي إذ ذاك : بين ايران وسلطة القسطنطينية,بعد ذهاب دولة الهند الاسلامية".)
وكان يغتنم كل فرصة للدعوة الى وحدة المسلمين مستشعراً الخطرمن تفرقهم,ومهيباً رجال الامة أن يبذلوا الجهد من أجل تحقيق هذه الوحدة.يقول في مؤتمر دعا له السلطان عبد الحميد في الآستانه:
"الديانة الاسلامية في الوقت الحاضر هي بمثابة سفينة ربانها محمد بن عبد الله (ص) وركاب هذه السفينة المقدسة كافة المسلمين خاصتهم وعامتهم.
وفي الوقت الحاضر أشرفت هذه السفينة على الغرق في بحر السياسة العالمية,كما تعرضت لخطر الطوفان.
ولعل الحوادث الدبلوماسية,والدسائس الدولية,تؤدي الى إغراق هذه السفينة وتحطيمها,فما حيلة ركابها وهي مشرفة على الغرق وما هو تدبيرهم؟ فهل يجب على ركاب هذه السفينة أن يبذلوا جهدهم لحراستها وإنقاذها من الطوفان والغرق ؟ أم يظلوا مختلفين فيما بينهم,متبعين أغراضهم الشخصية وأهواءهم الدنيئة؟".
ودفعت هذه الدعوة الى توحيد كلمة المؤتمرين على العمل من أجل الوحدة الاسلامية.
ومن مظاهر أصالته الدفاع عن الدين أمام التيارات الفكرية المنحرفة مثل رده على المذهب الدهري الذي انتشر في الهند في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.وفيه يقاوم الالحاد الديني بشكل عام ويوضح ضرورة الدين للمجتمع الانساني,ثم يذكر مزايا الاسلام التي تكفل للانسان متعة في هذه الحياة أرفع بكثير من تلك المتعة التي يهيؤها له اعتناق المذهب الطبيعي.
أما طابع المعاصرة فيه فهو أبين وأوضح,وأهم معالمه دخوله ساحة الكفاح السياسي لمقارعة الاستبداد الداخلي والاستعمار الاجنبي.لقد ظهرت دعوة السيد في عصر كان العالم الاسلامي يعاني من الحكام المستبدين الذين يمهدون باستبدادهم وطغيانهم لسقوط العالم الاسلامي بيد المستعمرين الطامعين.
وكانت العقيلة العامة السائدة هي الاستسلام لهؤلاء الطغاة باعتبارهم أولياء أمور,وباعتبارهم قضاء مقدراً من السماء,ولذلك سادت حالة الذل والخضوع والملق بين الناس,وعم الظلم والفساد والطغيان.وفي هذا الجو ارتفع صوت السيد ليقول للمصريين:
"إنكم المصريين قد نشأتم في الاستعباد, وربيتم في حجر الاستبداد,وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة حتى اليوم,وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين,وتعنون لوطأة الغزاة الظالمين,تسومكم حكوماتهم الحيف والجور,وتنزل بكم الخسف والذل وأنتم صابرون بل راضون,وتستنزف قوام حياتكم ومواد غذائكم التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم بالعصا والمقرعة والسوط,وأنتم معرضون,فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية,وفي رؤوسكم أعصاب تتأثرفتثيرالنخوة والحمية لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة تناوبتكم أيدي الرعاة ثم اليونان والرومان,والفرس,ثم العرب والأكراد والمماليك,وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه,وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لكم ولا صوت.
أنظروا أهرام مصر,وهياكل ممفيس,وآثار طيبة,ومشاهد سيوة,وحصون دمياط , فهي شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
هبوا من غفلتكم...! اصحوا من سكرتكم...! عيشوا كباقي الامم أحراراً سعداء".
وليقول لكل أبناء العالم العربي والاسلامي وهو في فرنسا:
"وأنا تحت سماء الإنصاف على أرض الراحة,بين أهل الحرية أسمع الحاناً في مجالس العدل,فأذكر أنين قومي في مجالس الظلمة,وتحت سياط الجلادين,فأنوح نوح الثاكلات,وأرى علائم النعمة في معاهد المساواة,فأذكر شقاء سربي في ربوع الظلمة,فأذرف الدمع ممتزجاً بسواد القلب فأكتب إليهم: يا قوم ظلمتم غير مأجورين وسعيتم غير مشكورين,فهلكتم غير مأسوف عليكم,تصبرون على الظلم حتى يحسبه الناظر عدلاً,وتبتسمون للقيد حتى يظنه الناقد حلياً,وتخفضون للظالمين جناح الذل حيث يقول من يراكم ما هؤلاء بشر إن هم إلا آلة سخرت للناس,يفلحون بها الأرض ويزرعون.
يقلب الجائرون عليكم أنواع المكائد واصناف الحيل وألوان الخداع فيما يختلسون كما تقلب المشعوذة لدى الأطفال أوجه الودعات في استخراج ما يضمرون.رأيت فلاحهم في حقله الصغير يتناول الطعام أكلاً مرئياً,وينام القيلولة نوماً هنيئاً,ويأوي الى البيت فيأكل بين عياله ويتلو عليهم صحيفة النهار,ثم ينام ملء عينيه,لا يحلم بسوط المأمور ولا يتصور عصا الشيخ,ولا يتذكر حبس المدير,فتخيلتكم بين السواقي والأنهار تشتغلون سحابة اليوم لتجتمعوا على القصعة السوداء فتلتهموا فتات الشعير,وتنكبوا على الترعة فتشربوا الماء الكدر,تعودون الى الأرض المريعة تزرعونها,والغلة الوفيرة تحصدونها لتنصرفواالى أكواخ تشبه قبوراً توالت عليها السنون,فيجتمع من حولكم صغار لا تعرف أبدانهم الوقاء,ونساء تعوضن الأقذار عن الكساء,ثم يأتيكم المأمور سالباً,والشيخ غاضباً,والمدير ناهباً.فأنتم في بلاء مستقر,وعناء مستمر,تحصدون البر ولا تأكلون,وتملكون الأرض ولا تسكنون".
"قد بليتم بما يذيب الشحم ويفري اللحم,وينقى العظم وأنتم صابرون,ومنيتم بما وفر النقم وغير النعم وأهلك النعم وأنتم صامتون.ورزقتم بما جلب المصاب,وهتك الحجاب,وأبرز الكعاب وأنتم خاشعون,فما الذي تخافون؟.
تقولون لا نرضى بهذا الخسف,ولا نقوى على احتمال الذل,فقد صار تاجرنا عام