وفقا لما أفادته وكالة أنباء أهل البيت (ع) الدولية ــ أبنا ــ شمشون لم يكن جبارًا في الأرض، بل كان نرجسيًا يملك فائضًا من القوة، قوة سوّقها بكونها ربّانية لا متناهية، وعندما مسّت نرجسيته بسوء، وشعر أن الخناق حول رقبته بدأ يشتدّ، دمّر البيت فوق ساكنيه، إمّا أنا ومن بعدي فليكن الطوفان.
صدور مذكرة توقيف من المحكمة الجنائيّة الدوليّة ضد بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، يعكس تحولًا قانونيًا وسياسيًا هامًا، حيث اتُّهم الاثنان بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في غزة، بما في ذلك استهداف المدنيين والتسبب في معاناة جسيمة.
القضية تواجه تعقيدات قانونية وسياسية عديدة. إسرائيل، التي ليست عضوًا في المحكمة، تعترض على اختصاص المحكمة في التحقيق مع مسؤولين إسرائيليين، وتصرّ على أنّ القضاء الإسرائيلي يجب أن يكون المسؤول الأول عن المحاكمات.
من جانبها، تدافع المحكمة الدولية عن حقها في النظر في الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية؛ كون فلسطين عضوًا في المحكمة منذ عام 2015.
في السياق الدولي، هناك انقسام بشأن هذه المذكرة. فالولايات المتحدة رفضت بشدة الخطوة، معتبرةً أنها تضع إسرائيل على قدم المساواة مع حماس، بينما تدعو دول أخرى، مثل بريطانيا إلى الالتزام بالقانون الدّولي، واحترام استقلال القضاء.
حتى الآن، القرار النهائي بشأن تنفيذ المذكرة لا يزال غير واضح، في ظلّ محاولات من قبل إسرائيل وحلفائها لتعطيل الإجراءات القانونية.
مصدومًا، محبطًا ومرتبكًا يخرج نتنياهو مرتديًا ربطة عنق زرقاء، يتحدث بالعبريّة، يخاطب مواطني إسرائيل، يحاول أن يلعب دور الضحية، موظفًا الأزمة للالتفاف على النكبات المتتالية التي تحيط به في الدّاخل السياسي الإسرائيلي، من تجنيد الحريديم، وملفاته الجنائيّة، إلى تمرير ميزانية في ظل أزمة اقتصادية، وطبعًا وصولًا إلى احتجاجات إعادة الأسرى.
وهذا كلّه في ظل وجود جبهتين بلا خطة خروج وأهداف سياسية معلنة وواضحة، فيحاول توظيف هذه الأزمة ليلعب – ما يجيده هو وإسرائيلُه – دورَ الضحيّة والاستهداف الشخصي، متلاعبًا بالوقائع، فالاستهداف لم يكن لأن إسرائيل تحاول الدفاع عن نفسها، متناسيًا أكثر من 50 ألف شهيد جلّهم من الأطفال والنساء والمدنيين العزّل، فيما تقرّ حكومته منذ يومها الأول بأنّ الجوع والعطش هما وسيلة سامية لتحقيق أهداف الحرب، فتأتي هذه المذكرة لتذكّر دبلوماسية العالم بأن هناك مجازر ترتكب، وبأن هناك إبادة وجرائم حرب في غزتنا.
ومن قبل نتنياهو انتفضت إسرائيل، من أقصى يسارها حتى أعتى يمينها، فعلى مدار عام كامل لم يكن هناك شريف فيها غير "عوفر كسيف"، عضو الكنيست اليساري الذي سمّى إسرائيل باسمها، "مرتكبة جرائم حرب"، وعلى هذا تحديدًا عاقبته لجنة التأديب مؤخرًا.
فأكثر ما يزعج إسرائيل، أنها أضحت تحاكم في عقر ساميّتها، ومن المحكمة التي أنشئت لكي تحقّ الحق والعدالة لأسلافهم لما ارتكبته النازية من مجازر في حقهم، فمحاسبة الذات أكثر ما يؤلم، فاليوم ذات المحكمة تحاكم إسرائيل، دولة اليهود، لذات الجرائم والاستحقاقات الجنائيّة في حق أسلافهم تحديدًا. فلا حضيض ولا مذلةً ولا إهانة أكبر.
ومن ناحية أخرى، وبالذّات في ظلّ العزلة الدّبلوماسيّة التي دخلت إليها إسرائيل في دولاب يعيدها إلى سنوات الثّمانينيات، خصوصًا في ظلّ حاجتها للعالم والأسواق العالميّة والعولمة، كي تحاول الصمود في ظلّ الأضرار والاضطرابات الاقتصادية المنوطة بالحرب، تجد نفسها في معزل دبلوماسيّ، بل أكثر، رقبتها باتت أكثر تعلّقًا بالولايات المتحدة، وليست أيّة ولايات متحدة بل ولايات ترامب المتحدة.
فعلى رغم رومانسيّة علاقة هذه الإدارة مع حكومة تل أبيب، فإنّ تل أبيب تعلم جيدًا أنّ ”Don’t ترامب" تختلف كليًّا عن "Don’t بايدن"، وبالتالي وتحديدًا في ظلّ ظلمة دبلوماسيّة كالتي تخيّم فوق رأس تل أبيب، باتت مساحة المناورة أصغر فأصغر أمام واشنطن، خاصة أنّ الابتزاز الأهمّ لنتنياهو للمكتب البيضاويّ الأخير كان يتواجد في مرمى قدرة إسرائيل على بناء تحالفات تناور بها أمام واشنطن.
هذا المنحنى يبقي أمام إسرائيل بابَين لا ثالث لهما:
الباب الأول: أفرز نتنياهو كعقبة أمام مسمى إسرائيل الأسمى، الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تغنّى بها، فهذا القرار يشكّك بديمقراطية إسرائيل قبل أي شيء آخر، كما يشكّك باستقلالية القضاء الإسرائيلي وقدرته على محاسبة ذاتية منصفة.
فعلى مدى سنوات أغمض الغرب عيونه عن أعتى ممارسات إسرائيل الاحتلاليّة، فقط لكونها تمارس هذا الاحتلال تحت عباءة الديمقراطية والقيم الليبرالية، ولكن الآن وبعد أن زجّت المحكمة اسم نتنياهو جنبًا إلى جنب مع البشير، تجد إسرائيل نفسها في اختبار حقيقي، وعليها أن تقرر من تفضل؟ سمعة إسرائيل أم سمعة رئيس حكومتها الذي جلب لها العار؟
هذه النقطة تحديدًا هي اختبار للدولة العميقة في إسرائيل، ومدى إحكام وسيطرة نتنياهو عليها، وهنا نستطيع القول إنّ هذه المجريات أعادت إسرائيل إلى المربع الأول، إذا أرادت الانتصار في الحرب، عليها الانتصار على نتنياهو، الأمر الذي تجاوزه نتنياهو حتى وصل إلى ما وصلنا إليه اليوم.
والآن مرة أخرى توضع الدولة العميقة في إسرائيل في هذا الاختبار المصيري : إمّا أن تنتصر هي، وإمّا أن ينتصر هو، ومن بعده فليكن الطوفان.
أما الباب الثاني، فهو يعني الجزم بأنّ إسرائيل باتت دولة الرجل الواحد، وهنا يتوجب على الساحر الدبلوماسي بأن يمارس جهوده السابقة والتي قد أفلح بها مرات كثيرة بأن يخرج إسرائيل من عزلتها الدبلوماسية ضرب المحكمة الدولية بجهود استخباراتية قبل الدبلوماسية. وما ملف كريم خان إلا مجرد مقدمة، لما تجهز له إسرائيل لكل من يقف أمامها، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات أو حتى دولًا، تمامًا كما الدول المارقة الجانحة.
وهنا لن يكون اختبارًا لنصر شمشون إسرائيل فحسب، إنما هو اختبار لكل القيم الدوليّة والديمقراطية، بل وسيكون مقياسًا ومعيارًا من معايير غزة الكاشفة لمواثيق حقوق الإنسان التي ضاقت على الفلسطيني.
وعلى العالم أن يحدد ماهيّة تعريف حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، بالأخص أنّ كل ممارساتها وكل ما ارتكتبه يصنّف اليوم بـ "جرائم حرب" وَفقًا لاعتراف محكمته الدولية.
جملة التصريحات الإسرائيلية لم تبقِ أمام الخيارين الكثير من التخبط، فلم يبقَ إلا أن تعلن إسرائيل الحرب على لاهاي، وضرورة الاستيطان فيها بعد محوها كإجراء عقابي لكل من يجرؤ على الوقوف أمام هذا الشمشون.