وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ تلقّى العالمان الإسلامي والعربي، ومن ضمنهما الشعب الفلسطيني، الخبرَ عن اتفاقية التطبيع العلنية الإماراتية–الصهيونية بصدمة كبيرة. لعل مستوى الصدمة يتفاوت بين جهة وأخرى، لكنها لم تكن صدمة من الحدث نفسه، نسبة إلى سوابق كثيرة مهّدت لهذا الاتفاق في مقدّمها مشاركةُ سفير الإمارات لدى واشنطن يوسف العتيبة في «حفل» إعلان «صفقة القرن» (28/1/2020). الصدمة جاءت من عناصر أخرى كالتوقيت والتبرير وطريقة العرض – لكل منها قصته – وحتى من الأسبقية على دول كانت تبدو أقرب إلى هذه الخطوة من الإمارات المفترض أنها «أقل اضطراراً» بينها. فمثلاً السودان «الرسميّ» يبرر خطواته بالانقلاب على ماضيه في دعم القضية الفلسطينية بأن ذلك اشتراطٌ مجبر عليه لرفع اسمه من قائمة «داعمي الإرهاب» والعقوبات الأميركية. البحرين ترى أنها تدفع فاتورة الحماية الأميركية والخليجية عامة والسعودية خاصة من شعبها! ولا ننسى ما يعتقده حكّام هذه الدولة اتجاه الصهيونية وكيانها وما يبدونه من ودّ قديم إليهما. أما سلطنة عُمان، فلا ترى نفسها في مواجهة أحد بل إن شأن التطبيع بالنسبة إليها شأنٌ يشبه العلاقات العامة في الأحوال كافة. فلماذا الإمارات، ولماذا الآن؟
لقد كان الاحتفال الذي قُدّمت فيه «صفقة القرن»، وجاء لافتاً فيه غياب دول موقعة اتفاقات تسوية منذ عقود مع الكيان الصهيوني،(1) أشبه بـ«حفلة كوكتيل» على أعتاب الاغتيال الأميركي للشهيد قاسم سليماني بداية الشهر الأول من السنة الجارية؛ كأنّ هناك من ارتاح من «كابوس» أرّقه لسنوات قبل أن ينقضّ على الوليمة، ومن بعدها تكرّ سبحة الجنون والسعي وراء الأحلام القديمة. أيضاً كأنّ هناك في واشنطن من خرج بنتيجة تقول إنه بعد استشهاد سليماني باتت الساحة خالية لتنفيذ المخططات الخطيرة الموضوعة على الرفّ منذ سنوات. لكنّ ضمّ الضفة، تلك «الثمرة المحرّمة» التي لم يجرؤ العدوّ على قضمها،(2) لم يتحقق، وأسقطه فعلاً وحصراً الخوف من الشعب الفلسطيني رغم كل التقديرات والدراسات عن ردّ الفعل المتوقع وحجمه، لتأتي الإمارات اليوم، وتختار الظرف الإقليمي الخطأ، وتستبق ميعادها على نحو فاجأ حتى أهمّ الكتّاب والمحللين الصهاينة، وتعلن أنها «ضحّت» بنفسها من أجل صدّ خطة الضم بعدما كانت قد توقفت أصلاً معلّقةً على أعتاب الانتخابات الأميركية وعلى نوافذ ائتلاف سياسي هشّ يحكم الكيان الصهيوني!
ربّما كان مفهوماً إلى حدّ ما في حالةِ دولٍ مثل الأردن ومصر أن توقع اتفاقاً مع الكيان الصهيوني تحت دعوى أنهما هُزمتا في الحرب أمامه أو أنه حان زمن الواقعية. هنا يبدو مصطلح «السلام» مألوفاً، أو مفهوماً، أو حتى على قدر من «التفهّم»، لكن كيف لمن لم يخض حرباً ضد الكيان الصهيوني، شكلاً أو فعلاً، ولمن لم يعادِ يوماً هذا الكيان، أن يتحدث عن «سلام» معه؟ إن السلام بمفهومه العام لا يأتي بعد لا شيء، كأنه سقْطٌ من الفراغ. لكنْ للقصة حكاية تعود إلى 1971، تاريخ استقلال الإمارات العربية المحتلة، وما سبقها من سنوات شهدت توتراً في العلاقات بين حكام بعض تلك الإمارات وبين المندوب/الحكومة البريطانية التي كانت تتولى إدارة شؤونهم السياسية والمالية وحتى الاجتماعية! تكفي عودة سريعة إلى الوثائق البريطانية (3) لتنكشف علّة أصيلة لدى حكّام هذه الإمارات وما جاورها، هي التعلّق بالمحتلّ والتمسك بتلابيبه، والإحساس الدائم بالحاجة إلى وكيل أو انتداب أو احتلال يشعرهم بالأمان والرعاية؛ «توسّل المشايخ استمرار الدعم البريطاني بعد الانسحاب، بل إنّهم عرضوا دفع تكاليف بقاء القوات البريطانية في المنطقة. ثمّة تقرير عن المناقشة مع حاكم أبو ظبي، الشيخ زايد، ترمز إلى مستوى يأسه، ذلك أنّه عرض استعداده للمساهمة مالياً، سواء علانية أو سراً وبأي طريقة يطلبها السيد في حكومة صاحبة الجلالة (في إنكلترا) في تكلفة بقاء الاحتلال البريطاني في الخليج الفارسي إلى أجلٍ غير مسمى»، وهي الحالة التي أصابت حكّام الدول الأخرى مثل البحرين وقطر والكويت وإن كان ردّ حكام الأولى (في المنامة) مشابهاً للهفة الإماراتية.(4)
هو التاريخ يعيد نفسه، أو كما تقول الحكمة الأكثر دقة: الحكّام يعيدون أخطاء التاريخ! فماذا نتج من كل الرجاء الإماراتي للبريطانيين سوى رحيل هؤلاء مع بقاء بضعة مستشارين وترك تلك الإمارات لتبحث عن «راعٍ» جديد كان ينمو في المنطقة منذ بداية الخمسينيات، ألا وهو الولايات المتحدة الأميركية. أما اليوم، بعد نحو خمسين سنة من تلك الحادثة، ورغم أن الإمارات صارت «أغنى» و«أكثر تطوراً»، فلا تزال العُقدة نفسها تحكمها، لتزيد عليها «راعياً» غير أمين ولا وفيّ حتى بمواصفات الاستعمار، بعد أن تزرع له موطئ قدم في الخليج الفارسي، تحت عناوين «الانفتاح والتعاون» في كل شيء: الأمن أولاً، العسكر ثانياً، ومن ثم تأتي المُحلِّيات: الاقتصاد والتكنولوجيا والصحة ومكافحة فيروس «كورونا» والسياحة والبيئة!
هكذا، بعد النظر في التوقيت (بعد اغتيال سليماني وإعلان «صفقة القرن» وانهيار الضم بصفته أهم بند فيها)، والتبرير (ظاهرياً وقف/تأجيل الضمّ، باطنياً الحاجة إلى راعٍ قبل أن يلملم الأميركي حقائبه أو يخفف وجوده)، لا بد من الحديث عن طريقة العرض. لقد كان سبّاقاً إلى إعلان الخبر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عبر «تويتر» أولاً ثم استعراض إعلامي، ولحقه سريعاً رئيس حكومة العدو الصهيوني، بنيامين نتنياهو، أيضاً عبر «تويتر» ثم مؤتمر صحافي شبّه فيه هذا الاتفاق باتفاقات سابقة ليضع نفسه في محلّ من «يصنع التاريخ» أمام جمهوره. (5) أخيراً جاءت تغريدات الإمارات، حاكمها ومسؤوليها، لتعلن وتبرر، دون أي مؤتمر يخرجون فيه أمام شعبهم أو الشعوب الإسلامية والعربية والشعب الفلسطيني، ليعلنوا بوجه واضح ولغة جسد ونبرة صوت وبحدّ أدنى من الجرأة ماذا فعلوا ولماذا... تماماً مثل خفافيش الليل لكن وسط النهار، تاركين مهمة الظهور لمن احترق كرته، العتيبة، برتبة سفير! لقد جهدت الإمارات على مدى عقود في تقديم صورة إنسانية عنها، وأنها وسط رمال الصحراء تمثّل أنموذجاً لا يضاهى في التقدم والتقنيات ورغد العيش والخدمات المميزة. ودفعت في سبيل ذلك مئات ملايين الدولارات، سواء على الصعيد العربي عبر رعاية الجوائز المتنوعة في الأدب والفنون والبرمجة، أو اللوبيات الضاغطة في الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية... وهلم جراً.(6) ورغم توالي الفضائح مثل قصص حكّامها وهرب نسائهم وبناتهم، أو شراء بيوت في القدس المحتلة ثم بيعها للمستوطنين الصهاينة، ورغم المشاركة الكبيرة في الحرب على اليمن المظلوم وسرقة تراثه وتغيير ديمغرافيته وضرب موانئه واقتصاده بل احتلال أرضه (جزيرة سقطرى)، لم يكن كل ذلك كافياً كي تهتز صورة هذه الدولة لدى كثيرين بقدر ما اهتزّت الآن، وهو ما يجعل السؤال ملحّاً عن الأسباب التي تدفع أبو ظبي إلى القفز نحو المجهول/المعلوم، مع أنها كانت لأكثر من عشرين سنة تدير علاقاتها مع الصهاينة بكل هدوء.
إنه الخوف ما يدفع إلى الخيانة، الخوف من مستقبل لا أفق فيه، على عكس ما يتحدث عنه المسؤولون الإماراتيون بشأن أبواب المستقبل التي ستُفتح لهم عبر الكيان الصهيوني، وهي كذبة أخرى، فمثلاً جواز السفر الإماراتي هو الأقوى عالمياً، وكل الدنيا تقريباً لها استثمارات في هذا البلد. كما أن الطمع ليس أساس هذه القفزة بالنسبة إلى دولة غنية. إنه الخوف، لكن ممّ؟ من الاستقلال الحقيقي، من منطقة لا جنود أميركيين فيها، من تبعات حرب اليمن، من تزايد نفوذ الدولة «س» والدولة «ص» وتغير خريطة المنطقة... من الشعوب؟ أياً يكن، دفع هذا الخوف إلى الخيانة. هكذا يحكي التاريخ. وهو تحديداً ما أجاب عنه بدقّة سماحة الإمام علي الخامنئي حين وصف الاتفاق(7) بأنه خيانة، ليس لفلسطين فقط بل للعالمين الإسلامي والعربي. وما من تفسير أوضح من الخيانة حتى إن كانت هناك أسباب في السياسة، مع أن هذا لا يعفينا من الدراسة والفهم والمتابعة والتحليل لكل شاردة وورادة في هذا الإطار. فعلاً كما قال سماحته، إنّ ما حدث في هذه الخيانة «وصمة عار»، مؤكداً أن أمام الإماراتيين فرصة للاستدراك مع أنه ليس من الواضح إدراكهم لها، على الأقل، على الصعيد الرسمي. فالمستوى الذي خَطَت به أبو ظبي نحو الكيان الصهيوني تحت المظلة الأميركية، المهترئة في المنطقة على الأقل، تخطّت مستويي المغامرة والمخاطرة، لتصل إلى مستوى «المقامرة»، بمستقبل هذه البلاد وشعبها المغلوب على أمره كما الشعوب العربية عامة. مع ذلك، ورغم إسهاب كثيرين في النظر إلى الحدث بحدّ ذاته، ألقى سماحته جملة قال فيها إن هذه الخطوة «لن تدوم طويلاً»، وإنها «ستسقط إن شاء الله». هل هذه نبوءة/فراسة مؤمن، أم نظرة خبير أو قارئ للمستقبل من أبواب الحاضر والتاريخ؟ إنها بكل المعايير قراءة دقيقة، فعندما يحتاج الضعيف إلى القوي، ويقدّم الأول إلى الثاني أغلى ما يملك (المروءة والشرف والكرامة...)، فيما لا يعطي الثاني سوى الفتات، تحكم التجربة دوماً بأن الأول هو الخاسر لا محالة.
الكاتب: عبد الرحمن نصار
الهوامش:
1- وفق مصادر صحافية غربية حضر سفراء الإمارات وسلطنة عمان والبحرين في الحفل، مع غياب سعودي لافت رغم موقف الرياض الواضح في تأييد الصفقة، فيما غاب سفراء الأردن ومصر رغم توجيه دعوات إليهما ومع أن دولهما موقعة منذ عقود على اتفاقات مع الكيان الصهيوني.
2- راجع على الموقع نفسه: https://arabic.khamenei.ir/news/5163
3- راجع ما كُتب حول كتاب «بريطانيا وصناعة دول الخليج: جمرات الإمبرطورية» لأستاذ التاريخ الياباني شوهاي ساتو:
Britain and the formation of the Gulf States: Embers of Empire. Manchester University press 2016. Extent: 178 pages. Shohei Sato
4- الاقتباس المترجم ومضمون مواقف الإمارات الأخرى مأخوذ عن:
زياد منى، «خفايا صناعة اتحاد الإمارات العربية [1]»، صحيفة الأخبار اللبنانية، الأربعاء 19 آب (أغسطس) 2020.
5- كان الاتفاق الأول «كامب ديفيد» مع مصر في 1979، وعقده رئيس حكومة العدو آنذاك مناحيم بيغن ومقابله الرئيس المصري الراحل أنور السادات بإشراف الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. الاتفاق الثاني كان مع السلطة الفلسطينية في 1993-1994 ووقّعه من الجانب الصهيوني شمعون بيرس وإسحاق رابين بإشراف ومباركة أميركية من بيل كلينتون، وسريعاً جاء اتفاق «وادي عربة» مع الأردن خلال عهد رابين في 1994. وهكذا يريد أن يسجل نتنياهو نفسه في مشهد مشابه ولذلك عدّ هذا الاتفاق «الثالث» على المستوى العربي كـ«إنجاز تاريخي».
6- منذ الاختلاف الخليجي وما سمي «حصار قطر» بدأت كل دولة تكشف أوراق الدولة الأخرى لجهة عمل اللوبيات وكم يدفع لها. راجع مثلاً ما حُكي عن الإمارات قطرياً:
https://www.aljazeera.net/midan/reality/politics/2020/6/28/
https://cutt.us/eFoGN
7- راجع على الموقع نفسه:
https://arabic.khamenei.ir/news/5313
......
انتهى/ 278
المصدر : موقع قائد الثورة
الخميس
١٠ سبتمبر ٢٠٢٠
٤:٣٠:٠٠ م
1069529
ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقالاً للكاتب الفلسطيني عبدالرحمن نصار يسلّط الضوء على أبعاد وأسباب تطبيع الإمارات مع الكيان الصهيوني ثمّ يخلص الكاتب إلى أنّ هذا التطبيع لن يعود على الإمارات بأيّ فائدة تُذكر ولن يُنقذها من المصير الذي تفرّ منه.