وفقا لما أفادته وكالة أهل البيت (ع) للأنباء ــ ابنا ــ يشكل التجريد طابعاً فنياً وتوجهاً جمالياً في الفنون الاسلامية انطلاقاً من التوجهات الروحية الدينية التي التزم بها الفنان المسلم في انجاز ابتكاراته الفنية وحياته اليومية، وقد أظهرت الفنون الزخرفية التي ابدعها الفنان توجهاً عاماً نحو ظاهرة التجريد، ففيها الابتعاد عن بنائية الاشكال الفنية وعن الصيغ النسبية للتجسيد الواقعي المحاكي لمظاهر الأشياء المادية، فالنزعة التجريدية لدى الفنان المسلم قد نمت وتطورت من خلال التوجهات الفكرية والروحية التي استوعبت مبادئ الدين الإسلامي.
لقد تكونت لدى الرسام المسلم رؤية زاهدة في مغادرة عالم الأشياء المادي.. وذلك تبعاً لطبيعة التوجهات الروحية التي اتى بها الاسلام، فالحياة الدنيا واقع عرضي مادي زائل أمام عالم الآخرة الروحي الأبدي، هو أكثر حقيقة وثباتاً، ومن خلال هذا الاهتمام الروحي في عدم التعلق بالماديات إلى حد الإسراف والانخداع بمظاهر الحياة الزائفة، تحتم الانصراف بالقلب إلى الآخرة مع عدم المغالاة في جميع وسائل العيش، وفي ذلك ما يتيح المجال لانصراف الفكر إلى التعبد والتأمل والتفكر على النحو الذي تشير إليه تعاليم الدين الحنيف التي شكلت قاعدة الانطلاق إلى تلك الآفاق الحضارية التي بلغها دين الإسلام ومازال.
وبهذا فقد أسهم هذا التوجه الروحي في بلورة رؤية جمالية خالصة ، كشف عنها المبدع الاسلامي من خلل الفنون الزخرفية التي اتخذت أشكالها طابعاً تجريدياً ينأى عن المظاهر الحسية ويبحث من خلاله الفنان عن جمال خالص في مستوى الاستبصار الأعمق للنفس.. والأسمى للروح والفكر، الذي هو أقرب إلى يقين الحقيقة الثابتة، إذ يقول احد فلاسفة العرب في ذلك بأن الجمال ينقسم إلى جمال الصورة الظاهرة المدركة بعين الرأس، وإلى جمال الصورة الباطنة المدركة بعين القلب ونور البصيرة، وعلى ذلك فإن مظاهر الفن أخذت تغلب عليها نزعة تجريدية وقد أدت هذه النزعة إلى أن ينصرف الفنانون المسلمون إلى إتقان أنواع من الزخرفة بعيدة عن تجسيم الطبيعة الحية أو تصويرها، فأبدعوا في الرسوم ذات الطابع الهندسي، واتخذوا من العناصر النباتية زخارف جردوها عن أصولها الطبيعية، واكثروا في استعمالها حتى أصبح اشهر أنواعها يعرف باسم الآرابسك.
انطلق الفنان المسلم باحثاً عن اشكال يعبر من خلالها عن المطلق الروحي باستلهام القيم الفكرية الروحية للدين، واولى خطواته بدأت بأبعاد الاشكال عن كل ما هو شيئي وحسي في المظاهر الزائلة للعالم المادي ، فاستشعر من خلال بنائية الشكل الفني كل ما هو فوق حسي، الأمر الذي أدى إلى خضوع عمليات البناء أو تشكل الأنساق البنائية في الشكل وفقاً لسياقات الأسلوب التجريدي.. وذلك بإنزال عمليات التجريد والتقليص على الشكل لإزالة مظاهر الصفات الفردية والجزئية والنسبية، من أجل استقدام كل ما هو كلي وشمولي ومطلق.. فقد كان العمل الفني محاولة للتوفيق بين مكونات الوجود المرئي المحسوس وبين الوجود الغيبي المتأمل، فلم يتناول الفنان المسلم ما هو مشخص أو محدود أو زائل من الأشياء والمخلوقات، بقدر ما استلهم خطوط وألوان ونسب وقوانين هندسية ورياضية، وهي بمجملها تعد عناصر مادية منظورة وهي مدركات مرتبطة بالوجود العيني، وتشكل ثوابت وشروط لا يمكن بدونها تشكيل المكونات الحسية للعمل التجريدي أو تحقيق قيمه المطلقة، وهي في آخر المطاف تمثل عند الفنان المسلم كينونات لا تمثل الواقع ولا تعبر عن أشكاله المتغيرة أو الآيلة للزوال، بقدر ما تمثل النظير المادي للتفكير الجمالي المستوحى من عقيدته وفكره الديني .
وقد تعرض التجريد الاسلامي من جانب آخر إلى كثير من التحليلات والتأويلات والمسببات التي أوعزت بظهور الاشكال الفنية الاسلامية بهذه الصيغ البنائية التجريدية، ففضلاً عن طبيعة الفكر الإسلامي فهناك مؤثرات البيئة وطبيعة المجتمع وأنماط التفكير التي تميزت بها هذه المجتمعات، وفن الآرابسك يقوم في جملته على أساس من التجريد والتطابق والإيقاع، وهذه السمات يجدها البعض أنها قد أبعدت هذه النتاجات عن انها تجربة فنية ذاتية، وخصوصاً عندما تقارن هذه الفنون بالفن التجريدي الأوربي الحديث.. فقد امتلكت الفنون الإسلامية خصائص جوهرية موحدة شملت الشعر والأدب ، إذ كانت تلك الخصائص تتميز بالميل إلى تجريد واستلهام المثال كما كان واضحاً في الشعر منذ العصر الجاهلي، ثم يتخذ مبدأ التجريد صورة أخرى يجدها النقاد البلاغيون في حديثهم عن النظم وما يكسب الكلام من جمال، فكانت مهمة الصنعة تتركز عند الشعراء في توفير عنصر الإيقاع بقوانينه المختلفة، حيث يظهر النتاج الفني في الشعر أو الرسم على حدٍ سواء بهذه الأنماط البنائية التي يغلب عليها عنصر التكرار، وهذا التكرار نفسه هو ما استوقف علماء الآثار الإسلامية وسجلوه، من حيث هو خاصية جوهرية في الفن العربي بصفة عامة ، وحاولوا تفسيره ، ولم يكن اتجاههم الزخرفي مقصوراً على التصوير فحسب ، بل تمثل ايضاً في غيره من الفنون الاخرى.
ومن هذا المنطلق فإن بنائية الشكل الفني في التجريد الإسلامي.. كشفت عن الجمال بطابع زخرفي مميز عن غيره جماليات الفنون الاخرى، وهو ما أظهره القانون البنائي الذي تتشكل وفقه الأنساق البنائية المكثفة والمستخلصة من العالم المرئي.. ويكون ذلك بالطبع على شكل خطوط ومساحات مسطحة تخضع إلى إيقاع مستمر وتناظر للوحدات البنائية التجريدية، مما أظهر البناء الفني العام في هذا الفن بشكله المميز الذي رسمت من خلاله السمات الجمالية والبنائية للفنون الإسلامية، وقد اعتمدت طبيعة البنية الزخرفية على أنماط لأشكال تجريدية مختلفة.. فمنها تجريدات نباتية اعتمدت انحناءات الخطوط لتشكل نسقاً بنائياً مرناً، وأخرى تعتمد على الخطوط المستقيمة والزوايا الحادة بما يشكل نمطاً من الزخارف الهندسية ذات المظهر الصلب.. ونتيجةً لطبيعة التجريد التي شكلت سمات هذا الفن، استطاع الفنان المسلم أن يزاوج بين الأنماط الزخرفية فيما بينها نباتية وهندسية.. وتمكن ايضاً من إدخال تراكيب مختلفة من الخط العربي كالخط الكوفي والديواني وغيرها من الأنواع بما ينسجم وطبيعة الأنساق البنائية في هذه التجريدات الفنية الزخرفية الاخاذة.
سامر قحطان القيسي
........
انتهى/ 278
المصدر : العتبة الحسينية المقدسة
الأحد
١٩ أبريل ٢٠٢٠
٦:١٠:٢٥ م
1027510
تكونت لدى الرسام المسلم رؤية زاهدة في مغادرة عالم الأشياء المادي وذلك تبعاً لطبيعة التوجهات الروحية التي اتى بها الاسلام، فالحياة الدنيا واقع عرضي مادي زائل أمام عالم الآخرة الروحي الأبدي.